يبدو التاريخ الفلسطيني على موعد متكرر مع نهايات الربيع وبداية الصيف، فبينما انطلقت شرارة “الثورة الفلسطينية الكبرى” في نهاية شهر نيسان/أبريل عام 1936، شهدت نهاية الشهر ذاته عام 2021 نضالات وبطولات جديدة للشعب الفلسطيني عادت معها القضية الفلسطينية لتتصدر المشهد العربي والعالمي بعد سنوات من التجاهل، والحصار، والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني. سنوات من الألم، والمرارة، والإرهاب الإسرائيلي الذي وصل ذروته مع انتزاع القدس لتكون عاصمة للمحتل الإسرائيلي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية.
في لحظة استثنائية غير متوقعة انطلقت من حي الشيخ جراح في مدينة القدس شرارة ثورة فلسطينية جديدة حينما تصدت عشرات الأسر المقدسية لمحاولات سلطات الاحتلال انتزاع منازلهم عقب صدور قرارات قضائية إسرائيلية، بإخلاء بيوت من حي الشيخ جراح، من سكانها الفلسطينيين، لصالح جمعيات استيطانية إسرائيلية بدعوى أن هذه المنازل بنيت على أراض كان يملكها يهود قبل حرب 1948 وفقًا لما جاء في قرار المحكمة.
جددت مقاومة وصمود سكان حي الشيخ جراح الحياة والحيوية في القضية الفلسطينية التي كلما ظن أعداؤها أنهم قضوا عليها؛ فوجئوا بعودتها من جديد بصورة أكثر بقوة وزخمًا؛ فالأمر بالنسبة للفلسطيني وداعمي القضية الفلسطينية لا يتعلق بالدفاع عن البيت، أو الأرض، أو الوطن فقط، لكنه دفاع عن أنفسنا وتاريخنا، حاضرنا ومستقبلنا، أحلامنا، ووجودنا. عادت فلسطين من جديد لتروي حكايتها في كل بيت عربي، حكايات الحق والخير، الحرب والصمود، الشعر والأحلام، والأمل الذي يأبى أن يموت.
لن نتحدث عن البطولات والنضالات الآنية؛ فالقنوات التلفزيونية نقلته مباشرة خلال الأسابيع الماضية، وآلاف من داعمي القضية الفلسطينية تشاركوا أخبارها وحكاياتها على منصات التواصل الاجتماعي، ولكننا نستعيد واحدة من الحكايات القديمة/ المتجددة وهى حكاية “الثورة الفلسطينية الكبرى” في محاولة لإبقاء التاريخ حيًا مرددين كلمات الشاعر الراحل حسين البرغوثي (1945-2002) “عندما يفقد أحد ماضيه تماماً، تستطيع أن تصنع بمستقبله ما تشاء لأنه قد فقد ظلّه الممتد في التاريخ”.
عز الدين القسام
في السنوات الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين ضاعف المحتل البريطاني من اضطهاده وتنكيله بالمزارعين الفلسطينيين عن طريق فرض مزيد من الضرائب، والصمت على سطوة العصابات الصهيونية على أراض كثيرة تمهيدًا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
على الجانب المقابل نشط الشيخ عز الدين القسام أحد رموز المقاومة الفلسطينية داعيًا إلى مواجهة الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، وكان يردد دائماً أن “الثورة المسلحة هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الانتداب البريطاني والحيلولة دون قيام دولة صهيونية في فلسطين”.
اتخذ القسام من حيفا مقرًا لانطلاق حركة المقاومة المسلحة وكان يخطب في الناس قائلًا “يا أهل حيفا، يا مسلمون، ألا تعرفون فؤاد حجازي؟ ألم يكن فؤاد حجازي، وعطا الزير، ومحمد جمجوم، وإخوانكم؟ ألم يجلسوا معكم في دروس جامع الاستقلال إنهم الآن على المشانق، إن الصليبية الفرنسية والإنجليزية والصهيونية، تريد ذبحكم كما ذبحوا الهنود الحمر في أمريكا، تريد إبادتكم حتى يحتلوا أرضكم من النيل إلى الفرات ويأخذوا القدس”.
استطاع القسام تكوين خلايا سرية من مجموعات صغيرة مقسمة إلى وحدات متخصصة مثل: التدريب العسكري، والاتصالات السياسية، والتجسس على الأعداء، معتمدًا على جمع التبرعات من الأهالي لشراء الأسلحة، وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1935 ضاعفت القوات البريطاني من تضيق الخناق على الشيخ عز الدين القسام، وبعد سلسلة من المواجهات استشهد الشيخ عز الدين القسام بعد تاريخ طويل من النضال (1882- 1935).
إضراب عام
بعد عدة أشهر من استشهاد الشيخ عز الدين القسام، وتحديدًا في 20 أبريل/نيسان عام 1936 أعلن في مدينة نابلس عن تأليف لجنة قومية دعت إلى الإضراب العام، وبعدها عقدت عدة اجتماعات شارك فيها ممثلون لكافة القرى والمدن الفلسطينية والأحزاب السياسية برئاسة الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس. نتج عنها تشكيل قيادة عامة لشعب فلسطين عرفت باسم اللجنة العليا، وأصبحت لاحقاً تعمل باسم الهيئة العربية العليا، وقرر المجتمعون استمرار الإضراب إلى أن تغير الحكومة البريطانية سياستها وحددوا مجموعة من المطالب الأساسية وهم:
- وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
- حظر نقل ملكية الأراضي العربية إلى اليهود الصهاينة.
- إقامة حكومة ديمقراطية يكون النصيب الأكبر فيها للعرب وفقاً لغالبيتهم العددية.
لجنة بيل
حاولت قوات الاحتلال البريطاني الاستعانة بمزيد من القوات العسكرية لحصار الثورة وإنهاء دعوات الإضراب لكنها لم تنجح؛ فكانت الخطوة التالية الدخول في توافق مع قادة لحركة الفلسطينية من خلال وساطة بعض الملوك والأمراء العرب، وجرى الإعلان عن وقف الإضراب، وشكلت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق بغرض دراسة الأسباب الأساسية لانتفاضة المواطنين الفلسطينيين، وقد ضمت اللجنة ستة أعضاء برئاسة اللورد الإيرل بيل وعرفت بإسم لجنة “بيل”.
قدَّمت اللجنة تقريرها في يوليو/ تمّوز 1937 مرجعًا لانتفاضة المواطنين الفلسطينيين إلى رغبتهم في الاستقلال القومي، ومخاوفهم من إقامة الوطن القومي اليهودي، واستمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيلاء المستوطنين الصهاينة على الأراضي العربية، وأوصت اللجنة بأن تتخذ الحكومة البريطانية الخطوات اللازمة لإنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية.
تضم الدولة اليهودية القسم الشمالي والغربي من فلسطين، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوبي يافا، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبريا والناصرة وتل أبيب، أما الدولة العربية فتشمل القسم الجنوبي والشرقي من فلسطين ويتم ضمها للأردن، أما الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم فتبقى تحت الانتداب البريطاني.
حصار الثورة
غضب الفلسطينيون من هذه التوصيات التي تعطي للدولة اليهودية الاستحواذ على 33% من مساحة البلاد، واندلعت موجة ثانية من الثورة شهدت تضحيات كبيرة من الشعب الفلسطيني في مواجهة قوات الاحتلال البريطاني التي أصدرت أمرها بحلّ اللجنة العربية العليا واعتقال أعضائها، وحل جميع الأحزاب والمنظمات السياسية الفلسطينية، وفرض العقوبات الجماعية على المدن والقرى العربية، وإغلاق الكليات والمدارس.
قُدّر عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا في هذه المرحلة الثانية من الثورة بأكثر من ألف شخص واعتقل أكثر من ثلاث آلاف
ورغم كل هذه الإجراءات، استمرت الثورة الفلسطينية في صمودها وتحقيق نجاحها وأصبحت مساحات كبيرة من فلسطين ـومنها البلدة القديمة في القدس تحت سيطرة الثوار، واجتذبت المقاومة الفلسطينية التأييد والتضامن من الدول العربية، وتم تشكيل العديد من اللجان في سوريا ولبنان ومصر لدعم الثورة بالمال والسلاح.
بدأت الحكومة البريطانية العمل على محورين لحصار الثورة الفلسطينية أحدهما عسكري عبر حشد مزيد من قواتها العسكرية، والآخر دبلوماسي وعدت فيه بالنظر من جديد في المطالب الفلسطينية من خلال لجنة تحقيق جديدة برئاسة السير جون وودهيد. وخلصت اللجنة في تقريرها إلى أن قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين لم يكن عملياً.
في عام 1939 أعلنت الحكومة البريطانية عقد مؤتمر عام في لندن حضره ممثلون عن الفلسطينيين، واليهود، ومندوبون من للدول العربية المجاورة، وعقب مؤتمر لندن صدر بيان تعهدت فيه بمجموعة من السياسات، ومن أبرزها:
- الإقرار بإقامة وطن قومي يهودي.
- لا يسمح بنقل ملكية الأراضي إلا في مناطق محددة.
- السماح في غضون السنوات الخمسة التالية بهجرة 75,000 يهودي فقط إلى فلسطين، وبعدها تخضع الهجرة اليهودية للموافقة العربية.
- إنشاء دولة واحدة مستقلة بعد مضي عشر سنوات، شرط توافق الفلسطينيين واليهود.