لا شك أن قضية التنوير وما يصاحبها من تغيراتٍ تطرأ على المجتمع في كافة المناحي السياسية والاقتصادية والسياسية والفكرية.. إلخ تُعَد من المسائل التي تحظى بجدلٍ كبير وسط أوساط المفكرين وكذلك عوام الناس والجمهور؛ إذا إنه وفق التفسير الكانطي حالة ذهنية مختلفة تعمد إلى نقل الإنسان بشكل طوعي من غياهب التخلُف والانغلاق إلى الانفتاح على ثقافة الآخر وقبول كل ما هو مختلف عن الثقافة السائدة، وتعمل على الانزواء به بعيداً عن الانقياد للأوصياء ومنتجي الأكواد الأخلاقية والسرديات التي تحكم عقول الناس. ومن هُنا كان مناط الاستغراب حينما تكون المملكة العربية السعودية هي موضوع التنوير في السنوات الأخيرة.
ترتبط صورة السعودية في المخيال العربي بأكثر من صورة، فتراها تارةً تتصل بالثراء وآبار البترول والمواطن الذي لا يعرف العوز والحاجة، وتارةً تراها في الصورة المقدسة حيث إنها بلد “المسجد الحرام” و”مكة المكرمة” و”خادم الحرمين الشريفين” إذ إنها هُنا الرقم الأهم في معادلة الأمم الإسلامية عبر أنحاء العالم، ويراها الغربيّ في صورة “المنغلق”، أو “الآخر” الممثل للثقافة التقليدية الأخرى الموجودة على الكوكب، أو القطب الآخر في صيرورة صراع الحضارات الذي يمثل قيمًا ثقافية ودينية مختلفة عن دول العالم الأول وفق أطروحة عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون.
ومن هُنا قفزت القضية لتكون موضوعاً للتفكير والبحث والتمحيص ونحسب وفق قراءاتنا وبحثنا أن الموضوع لم يتم تناوله إلى الآن بالشكل الذي يرتضيه جوهر الإشكالية “أي مسألة التنوير في المملكة العربية السعودية والتحولات الطارئة في السنوات الأخيرة” اللهم إلا بعض التنظيرات والطروحات التي لم تمس شغاف من يريدون التعمق في أصل القضية.
ديسمبر 2014 رأينا المرأة عضواً في مجلس الشورى السعودي، على أن نسبة شغل المرأة لمقاعد عضوية المجلس أُقِرَت بأنها لا يجب أن تقل عن 20%، في عام 2015 تم إقرار مشاركة المرأة والانتخاب لعضوية مجالس البلدية، ورأينا الأميرة ريما بنت بندر تشغل منصب سفير خادم الحرمين الشريفين لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي يناير 2018 أعلنت المملكة عن أول دوري لكرة قدم السيدات، وفي أغسطس 2019 أعلن النظام القضائي السعودي عن تغيراتٍ جذرية في نظام وثائق السفر والأحوال المدنية تسمح للمرأة بالسفر دون موافقة ولي أمرها.
ريما بنت بندر
توازت التغيرات السياسية المذكورة والتي عملت على تمكين المرأة بشكل كبير وإدماجها داخل الحياة السياسية والنيابية، وحتى ولو أنها لم تكن كافية أو بمعنى آخر هي حقوق أصلية وطبيعية تحصل عليها المرأة في أي مجتمع آخر حتى في بعض مجتمعات العالم الثالث، إلا أنها إيماءة عما يحدث في الخفاء ووراء الكواليس، فقد تغيرت الصورة وكذلك خطابات منظمات حقوق الإنسان العالمية التي كانت ترتكز بشكل أكبر عن المساحة التي تشغلها المرأة في المخيال السعودي وتصور المجتمع لها، مع خضوعها وغيرها من كافة أفراد المجتمع لرقابة “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي كانت عنواناً لسلفنة المملكة وخضوعها لما يُسمى بعقيدة الأصولية.
إلا أن تصريحات محمد بن سلمان الأخيرة، حاكم المملكة، هي التي كانت حجر الزاوية في وضع المسألة مرة أخرى لنقاش الجمهور العربي والعالمي، لتشغل مساحة مهمة على الساحة خصوصاً فيما يخص إشكالية “سياسة التنوير أم التنوير المُسيّس”.
هل هي فعلا تغييرات تقتنع بها السُلطة الحاكمة ورأت أن الظرف التاريخيّ/الحضاريّ لم يعد يستوعب السرديات التي تحكم عقل المملكة؟! أم أنها سيرورات وضرورات سياسية لابُد من القيام بها ليغازل بها ابن سلمان الغرب وليحافظ على مقعده بعد تورطه في العديد من الملفات.
وكان أبرزها مقتل الصحافي المعارض جمال خاشقجي، وللإجابة على الأسئلة السابقة بشكلٍ قطعي -في رأينا- هو ضرب لا يمت بصلة للموضوعية قبل أن نرى أماراتها على أرض الواقع، ولا نغفل هُنا أن العديد من التغيرات طرأت وتماست مع ما طرحه بن سلمان توحي بجدية الظرف القائم بأهمية التحول وترك القديم والموروث والبث عن الخطاب المناسب الذي يجعل المملكة تقفز للأمام اقتصادياً وثقافياً على الأقل.
لا يفوت الناظر في حديث ابن سلمان عن أحاديث الخبر والآحاد وضرورة الأخذ بالحديث المتواتر وعن قوله بتزييف الشريعة باستخدام نصوص تقوم بالعقاب دون وجود أصل لها، وكذلك دعوته للاجتهاد وإعمال العقل أن الخطاب يمس الكثير من الموضوعية في مراعاته للعقل المستقبل لمثل المتغيرات والتي توازت -وسبقتها أيضاً- مجتمعياً مع اعتدال الكثير من رجال الدين في خطاباتهم نذكر منهم صالح المغامسي والشيخ عادل الكلباني وآخرين، الذين خرجوا برؤى لا تختلف عما طرحه ابن سلمان والتي تميزت بالشجاعة العلمية وأبرز التحولات في التفكير السلفي لمشايخ المملكة، فما طرحوه كان ضرباً من المحظورات أما الآن فقد أصبح واقعاً بما طرحه الملك في لقائه في مايو 2021 ولم تكن مثل الخطابات لتخرج إلا بمساندة من من الحكومة السعودية بشكلٍ قطعيّ.
وفي هذا المقام لا نغفل التغيرات -ولو كانت طفيفة ولا تُقارن بالمطروح في السنين الخمس الأخيرة- خطابات نُقاد السلفية مثل ما طرحه عبدالوهاب أبو سليمان، وعبدالله الجُديع، ودبيان الدبيان وحسان المالكي وإبراهيم البليهي، وخروج مؤلفات مثل “هذه هي الأغلال” لعبدالله القصيمي، ممن اتخذوا زمام المبادرة ورأوا حتمية بتغيير العقل السلفي السعودي خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر والتي وجهت أنظار العالم بمشارقه ومغاربه إلى القضية، وهنا نقول إن خطاب ابن سلمان هو الحدث الذي استدعى التفكير والنظر ورؤية أفكار المملكة من الوجهة العالمية بعد أحداث سبتمبر وخروج بن لادن من العباءة الوهابية السعودية.
ومن هُنا نرى إن لحظة التنوير السعودية هي لحظة امتداد للتغييرات التي طرأت على الخطاب الديني في السعودية، بفعل التحديات التي جابهته في عقد التسعينات والألفينيات، ولذا فحينما نحصر التيار وفقاً لرؤية رموزه والمؤمنين به حالياً في مجابهة التيار السلفي لكان ظلمًا كبيرًا لطروحات التيار الذي حاول التغيير سابقاً، وهو الأمر الذي يؤكده الأستاذ نواف القديمي؛ فهو يؤكد أن “المسار الفكري لهذا التيار قد حصل له بعض التطور، والرؤية للإصلاح كانت ترتكز على ضرورة الإصلاح الديني والثقافي، أي تحرير المنظومة الدينية من التقليد، وفتح آفاق الاجتهاد”.
ومع تولي الأمير محمد بن سلمان منصب ولاية العهد، بغض النظر عما اقترفه سياسياً وتصفيته للمعارضين، إلا أننا وجدناه شخصية شابة، منفتحة وطموحة، ولديها رؤى استثنائية لمعالجة الأمور وظهر ذلك جلياً في حديثه الأخير، وهنا لا نغفل أن البداية لمرحلة الانفتاح التي تعيشها السعودية حالياً قد توازت مع تدشين رؤية 2030، وهي خطة لمرحلة ما بعد النفط في السعودية تم إعلانها في إبريل 2016.
وهذه الرؤية في الواقع ليست اقتصادية فقط، بل إنها إستراتيجية لتحول شامل على كافة الأصعدة كافة يجري تطبيقه في المجتمع السعودي، من خلال خطة متدرجة ويتم استمرار تطبيقها وتبرز بعض من ثمارها الآن، ورأينا التماس بين قضية التنوير لدى ابن سلمان مع بقية الملفات من جانبين رئيسيين: الأول أنه طرحٌ عربي مختلف منذ سنين طويلة نادينا فيها بخطاب تنويري يخرج من عباءة الشخصية العربية حتى يمكن للمجتمع استيعاب التطورات التي ينطوي عليها هذا التحول، والثاني هو السعي الحقيقي والحثيث من جانب إدارة الحكم في المملكة بقيادة بن سلمان على إحداث تغير حقيقي وفاعل في مستوى العقل السعودي واقتصاد وثقافة المملكة، ومن هنا حظت التغيرات الطارئة باهتمام كبير من قبل العالم الخارجي، ووسائل الإعلام الدولية، التي بدأت ترسم صورة غير تقليدية للسعودية، حيث يتم التركيز على تلك التطورات ومسيرة الانفتاح التي تشهدها البلاد.
ومنذ تولي ابن سلمان زمام الحكم رأينا مظاهر تنويرية عديدة ، حيث فتح صالات العروض السينمائية والحفلات الموسيقية واعتمد مؤسسة الترفيه الاجتماعي، وأوقف عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألغى عقوبة الجلد في أبريل 2020، وألغى عقوبة الإعدام على الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم وهم قُصَّر واستبدل بالعقوبة الخدمةَ المجتمعية على غرار ما يحدث في أوروبا.
كما تم فتح المناصب بشكل جليّ أمام المرأة السعودية وأصبحنا أمام بما يسمى بـ”تحرير المرأة السعودية” وبدء قيادتها للسيارات واستخراج الوثائق بنفسها وكما أسلفنا تمكينها من السفر دون وليّ.
إلا أننا في تقييمنا للتجربة خصوصا في سنواتها الأخيرة وبدء تشكل ملامحها بشكل واضح على أرض الواقع، نرى توفُق ابن سلمان في منهجه الذي مزج بين الحداثة والأصالة، وفي تبنيه لرؤية عربية خالصة بعد سنوات الحروب التي خاضت فيها الكثير من الأمم العربية ضد أمم أوروبا المستعمرة، ولم يرثوا منها إلا الحروب الطائفية والقبائلية وإثارة النعرات المحلية، والابتعاد عن حركة التطور والتاريخ ودروب العصرنة والمعاصرة والتي لم تشهد إلا حكاماً وحكومات كان جل اهتمامها الاستبداد والسيطرة وتغييب الواقع العربي وتجهيل العقل الناشئ الذي نتج عنه انقسامات وتشرذمات طعنت استقرار العديد من الدول كليبيا واليمن والسودان والعراق خصوصا بعد ثورات الربيع العربي.
الخطاب الآخر المناهض للتجربة السعودية السلمانية الأخيرة رأى الظرف العصري الناشئ في المملكة مؤخرا على أنه "دين جديد"، وانهزامية تترجم فقط "مادية" الغرب و"الآخر" الذي يتبنى خطابات تتنازل عن ثوابت الدين وتدعم فقط الخطابات العلمانية وتفسير المعتقد الإسلامي عبر طروحات تتنازل عن الهوية وتزج بالمملكة والعرب جميعا في هاوية التقليد.
تستغرب الكاتبة عائشة المطوع -وهي على حق- الهجوم الكاسح من قبل المدرسة السلفية على التنويريين، وتؤكد أن التيار التنويري لم يأت بما يخالف الشريعة وتقول: “يواجه التنويريون السعوديون عقبات كثيرة في إيصال مفهوم التنوير المؤطر بالثقافة الإسلامية وذلك بسبب ارتباط التنوير في أذهان الكثيرين بتجربة التنوير الأوروبي واعتبار التنوير السعودي امتداداً لها، ووقف التنوير في مواجهة مع التيارات المتشددة التي اتهمت التنويريين بمحاولة مسخ شخصية الأمة وتراثها الفكري، ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين المبادئ التي يدعو إليها التنويريون ومبادئ الإسلام العظيمة لوجدنا في هذه المبادئ لب الإسلام وروحه. وليس دفاعا عن التنويريين- وإن كانوا يستحقون ذلك- لكن هو توضيح لمن يريد أن يتعرف على ثقافة التنوير وأفكاره. لم يأتِ التنويريون السعوديون بجديد أو خالفوا الشرع عندما تبنوا حرية الرأي وحرية الكلمة والحرية الدينية (لا إكراه في الدين) فقد كان الرسول يبلغ دعوته بالإقناع بعيداً عن الإكراه والضغط. دعا التنويريون إلى الكلمة الصادقة البعيدة عن الإساءات والتجريح”.
وهو ليس بجديد في رفض العقل العربي لمفاهيم إعمال العقل ومبادئ المساواة وقيم التعايش وحرية رفض الثقافة السائدة وتحرير الإنسان من الموروثات التقليدية وذلك الطرح يستمد معظمه من قيمة “المكان” الذي خرج منه المشروع الذي يعد في نظرهم -حتى ولو لم يعترفوا بهذه الحقيقة- أنها هزيمة لمشروع الإسلام السلفي الأصولي والإسلام السياسي، في حين ظهرت خطابات أخرى ترى التجربة ناقصة دون تبني قيم ديمقراطية تعمل على تداول الحكم والسلطة وتفكيك مركزية العائلة المالكة وهو طرف -في رأينا- له موضوعيته إذ إن التجربة لن تكتمل إلا بقيم التعددية والمشاركة السياسية الفاعلة وإبراز تيارات المعارضة للحكم كما يتم تبني تيارات معارضة الفكر الموروث على حد سواء.
وهنا يلح الصحفي عبدالعزيز قاسم على ضرورة التمييز بين لحظتي التنوير كردة فعل، والتنوير الذي “صنع على مهل”، ويقول: “قبل خمس سنوات كنا نرى أن تحول المجتمع في أقل من (15) سنة أمرًا طموحًا جداً. وكان بعضنا يطالب بالهدوء والتحول التدريجي حتى لا يُصاب المجتمع بالدوار. لكن كان لا بد من الإسراع بعجلة التنمية من منطلق أنها حماية استباقية للمجتمع.. إذ إننا يجب أن نتحول من مجتمع ريعي إلى مجتمع إنتاج دون الاعتماد على البترول كمصدر وحيد للدخل”.
ونهايةً يمكن أن نخلص إلى ما خلص إليه الكاتب والباحث يوسف الديني الذي رأى في دراسته -التي نشرت في كتاب “الإسلاميون في الخليج – القضايا” الذي أصدره مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، أن ثمة اتجاهات متعددة لقراءة ظاهرة التنوير الإسلامي في السعودية، ولخّصها الديني بأربع فقرات هي: “ردة الفعل، ونقد السلفية من الداخل، والتنوير سياق طبيعي مر بأزمة تشكل، والتنوير حالة ذات جذور تاريخية”.