4 يونيو/حزيران الجاري: لم يكن يتوقع يونس الأسطل، أنه سيصل شاطئ شمال غزة، ثم يقول لنفسه وعائلته: إلى البيت دُر. كان قد خطط لهذه الرحلة العائلية بعد أيام عدوان الاحتلال الطويلة والمرعبة، وهرباً من حرّ البيت والكهرباء غير المتوفرة، لكنه ما إن وصل إلى شاطئ شمال غزة حتى فرّ من رائحة مياه الصرف الصحي ومياه البحر الملوثة.
يحرك الأسطل (36 عاماً) رأسه بضيق ويقول: “المكان الوحيد، والمتنفس اللي لما بدنا نرفه عن أنفسنا وعن أولادنا، ما بنلاقي غيره، انحرمنا منه!”. مضيفاً: “لا يمكن احتمال الرائحة، ولا درجة تلوث البحر، ثم الأمر ليس مجردّ رائحة، بل أمراض وأشياء أطفالي وعائلتي في غنى عنها”.
يُكمل ممتعضاً: “قررت أنا وعائلتي الجلوس على الشاطئ وفي أبعد نقطة عن البحر، دون أن نقترب منه”. لم يشأ الأسطل أن يحزن أطفاله الأربعة إذا قرر مغادرة الشاطئ سريعاً، لذا يتابع: “بقينا لقرابة الساعة، ورغم بعدنا عن البحر. لكن الهواء حمل كل الروائح السيئة إلينا، بعدها غادرنا إلى المنزل، صحيح أن الكهرباء مقطوعة والدنيا حرّ، لكن على الأقل لن تمرض كما هو الحال في البحر”.
بحر غزة: نكسة بعد أمل
حتى مطلع العام الجاري، كانت جودة مياه بحر غزة تشهد تحسناً وفي مراحل متقدمة إثر وقف ضخ مياه الصرف الصحي غير المعالجة وبعد التحسن الذي عاشه الواقع الكهربائي في غزة. فخلال السنوات الماضية، جرت المحافظة على نظام الثمانية: 8 ساعات وصل مقابل 8 قطع. وكانت شركة الكهرباء، والبلديات تحصل إلى حد ما على إمدادات الوقود اللازمة يوميا لهذا النظام.
وحتى نهاية، العام الماضي، أعلنت سلطة جودة البيئة في غزة، أنه طرأ تحسن على جودة مياه شواطئ محافظات غزة؛ وأصبح 25% من طول الشاطئ البالغ 41 كيلومتر، صالحة للسباحة والاستجمام. وكانت تراهن الجهات المختصة في غزة على تحسن أكبر خلال المرحلة المقبلة، لكن العدوان الإسرائيلي كان أقرب من كل التوقعات.
فخلال أيام عدوان الاحتلال الصهيوني على غزة الذي بدأ في 10 مايو/أيار الماضي، وإثر منع الاحتلال إدخال الوقود لقطاع غزة وإغلاق المعابر، بدأت بلديات غزة، بضخ مياه الصرف الصحي باتجاه شاطئ بحر غزة، إثر عجز محطات المعالجة لمياه الصرف الصحي عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
وصلت ساعات انقطاع التيار الكهربائي يومياً طوال أيام العدوان الأحد عشر، وما تبعها، لنحو 20 ساعة متواصلة، أثر ذلك بشكلٍ كبير في كل مناحي الحياة في غزة. وعرقل عمل محطات معالجة الصرف الصحي في كافة محافظات غزة، إلى جانب الدمار الذي لحق بشبكات البنى التحتية إثر قصف الاحتلال بشكلٍ مكثف لها.
"أين نذهب؟"
طوال الأعوام الماضية، ضرب التلوث ما يزيد عن 75% من مجمل بحر غزة، رغم ذلك، وأمام قلة خيارات الترفيه بفعل الحصار المطبق على غزة منذ ما يزيد عن 14 عاماً، لا يجد الناس في غزة غير البحر وجهة لرحلات الترفيه.
“هناك، يمرح الأطفال والكبار” يقول يوسف الساهر، مضيفاً: “اسأل أي حد في غزة، بقلك فش (لا يوجد) غير البحر المكان الوحيد في الشتاء والصيف. فلا حدائق عامة ولا متنزهات في غزة”.
يحكي الساهر (32) عاماً، أن طفلته (7 أعوام) ظهر عليها ذات رحلة في عام 2018، أعراض صحية تشبه “التسمم”. أدخلت إثرها إلى المستشفى التي أوضحت أن إصابة الطفلة ناتج عن تلوث مياه البحر. رغم ذلك، وبعد شفاء طفلته، لم يمتنع الساهر عن زيارة البحر. لأنه -وبكل بساطة- المكان الوحيد المفتوح لأهالي غزة.
لكنه يتخوف أيضاً، من عودة نسب التلوث المرتفعة إثر تجدد ضخ مياه الصرف الصحي إلى شاطئ بحر غزة. ويقول: “الاحتلال يقتل كل شيء. يريد أن يجردنا من الهواء لو تمكن، لكن إلى أين نذهب؟ حتى لو تلوث البحر، لا بديل عنه”.
في عام 2019 تحديداً، وما قبله، تخطت كميات الصرف الصحي الموجهة يومياً إلى البحر الـ 120 ألف متر مكعّب يومياً. وصلت البلديات لهذه الكمية بعد جهد كبير من قبل المؤسسات الإغاثية الدولية، وبعد أن رفعت من معداتها وإمدادات الوقود التي تصل محطاتها.
مثلاً، في عام 2018، وبسبب العجز الحاد في إمدادات الكهرباء في قطاع غزة، كانت البلديات تصرف يومياً 100-108 مليون لتر من مياه الصرف الصحي ذات المعالجة الرديئة في البحر كل يوم، انعكس ذلك، على الواقع الصحي في غزة. إذ استقبلت مستشفيات القطاع حالات مرضية كثيرة، وأصيب كثير من مرتادي الشواطئ بأمراض جلدية وغيرها.
يقول الشاب يونس الكرد، إن في غزة “شيء واحد جميل، هو الساحل والقعدة على الشاطئ، خصوصاً في الصيف، سواء مع الأصدقاء أو العائلة. هناك يمكن للإنسان أن يتنفس، بعيداً عن جدران البيوت والحر”.
يُجمل الكرد (24 عاماً) الحكاية، ويقول: “تلوث، يعني ننحرمّ من الشيء إلى بنستمتع قربه، من نسمات الهواء ومشاهدة الغروب قرب البحر، والسباحة”.
ويضيف: “كان عنا أمل إنه الصيف هاد رح نسبح منيح، ونقضي أوقات حلوة عالبحر. لكن يبدو إنه تطلعاتنا كانت مستحيلة. فالبلديات عادت لضخ المياه العادمة إلى البحر”.
مخاوف من كارثة صحية
تخشى الجهات الصحية في غزة من انعكاس تلوث البحر على الواقع الصحي هناك. وتكرر ما حدث، خلال مواسم الصيف الماضية، وتحديداً، المواسم التي شهدت تزايد في نسبة تلوث البحر خلال عام 2019 وما قبله. أصيب كثير من مرتادي الشاطئ في غزة، بالتهابات جلدية وحساسية شديدة، إضافة إلى أمراض الجهاز الهضمي.
يرافق هذه الخشية، ما تواجهه غزة من مشاكل في المياه الصالحة للشرب، إذ تشير التقارير الرسمية أن 97% من مياه القطاع غير صالحة للاستهلاك البشري وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية.
وفي تقريرٍ له، ذكر مركز الميزان لحقوق الإنسان، أن 95% من سكان القطاع الذي يتجاوز عدد سكانه مليوني نسمة لا يحصلون على مياه مأمونة.