يقول محمود درويش: "لولاه.. لولا السراب لما كنتُ حيًا إلى الآن"
قد يتمسك الكثير منا بسراب ليس لشيء إلا للنجاة من واقع يرفضه، أو لمواصلة السير والتصالح مع أيام ومراحل في حياته تمر بلا هدف حقيقي أو معنى، في حين أننا نتوهم بأن مهمتنا هي البحث عن الراحة أو السعادة أو حتى تحقيق أحلام نتمناها، تظل مهمتنا الأساسية هي الحفاظ على أكبر توازن نفسي ممكن بكل الطرق الممكنة ولكن ليس بالإفراط في إحداها، والوهم -الذي يتخذ أشكالا عدة- إحدى هذه الطرق. باختصار مهمتنا في الحياة ليست في البحث عن السعادة أو المعنى، مهمتنا الأساسية هي أن نكون بقدر الإمكان في حالة جيدة وذلك على الرغم من كل شيء قد يحدث حولنا.
يعتمد الكُتاب والروائيون على عدة أشكال من الرواة في كتابة القصة، منها الراوي العليم أو رواي الشخصية أو الراوي المجهول، وإذا نظرنا إلى الواقع من مرآة الأدب كرواية فستختلف أفكارنا وأدوارنا داخل هذه الرواية بحسب طريقة سرد كل منا للحدث. في هذه المرآة لا وجود لحقائق ثابتة، بإمكانك إعادة صياغة كل شيء وترتيب قطع “البازل” كما تشاء، وبلا شك في كل مرة يتغير الراوي في القصة أو طريقة السرد ستحصل على حقيقة جديدة مختلفة ولك الحق في اختيارها وتصديقها كما تشاء. هناك فقط في عالم ترتيب الأفكار العالم الموازي الذي يسكنك ولا تراه تستطيع أن تتحكم في كل شيء وأن تروي قصتك كيفما تشاء.
في روايته (كل البشر كاذبون) يقول (ألبرتو مانغويل): "الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نفعله لكي نناهض عدم واقعية العالم هو أن نروي تاريخنا الخاص".
يعتمد (مانغويل) في هذه الرواية على فكرة أنه لا وجود لحقيقة ثابتة، تبحث الرواية في لغز مقتل “بيفيلاكا” عن طريق صحفي يحاول فك اللغز، لكن الرواة مراوغون يتلاعبون بالصحفي والقارئ، كل منهم يسرد الحدث بشكل مختلف لكنها في النهاية الحقيقة بالنسبة لأي منهم أو بالأحرى الشكل الذي تمكن عقلهم من نسجه حتى يشعرون أنهم بخير وألّا مجال هنا للشك أو للشعور بالذنب أو التفكير في تأثير هذا الحدث في حياتهم. أصبح بإمكانهم النجاة لأنهم تمسكوا برواياتهم التي قد تكون مغايرة للحدث.
وتكمن رسالة (مانغويل) من هذه الراوية المراوغة في مقولته: “فلنخترع العالم يا أخي، لأن العالم غير موجود، أو على الأقل ما كان يجب أن يوجد”. وبإمكانك أيضًا أن تخترع عالمك أو تكون كاذبًا -بحسب رواية مانغويل- حتى تنجو.
إعادة صياغة الأفكار واضطراب ما بعد الصدمة
قد تكون في حالة استغراق وأنت تشاهد فيلمًا أو عدة حلقات من مسلسل أو عمل فني ثم فجأة تنفصل ذهنيًا عنه، ربما لأن المؤلف قد صاغ الحبكة بشكل غير مقنع أو حدث تطور غير محسوب جيدًا في بناء شخصية البطل أو حدث شيء لم تقتنع به تمامًا كمتفرج فتشعر بانفصالك التام عن العمل بعدما كنت مستغرقًا تمامًا ومتوحدًا معه في الكثير من اللحظات. هذا غالبًا ما يحدث في الواقع حينما تتعرض لصدمة حدث كبير غير متوقع، بعد استغراق تام في قصة حياتك ينحرف المسار فجأة بشكل صادم ومؤلم يجعل ذهنك في حالة خلل وعدم توازن وانفصال فعلي عن الواقع وكأنك عاجز عن الفهم.
هذا الخلل في الحبكة التي تمثل قصة حياتك هو ما يسمى "حالة اضطراب ما بعد الصدمة"؛ أنت في مواجهة حدث جديد غير متسق مع ثوابتك التي أسستها لقصتك ونظرتك للعالم، حدث سبب لك ألما شديدا غير قادر على مواجهته أو فهمه أو التكيف معه وأحيانًا غير قادر حتى على الاعتراف بأنه حدث لك بالفعل.
وعلى الرغم من الاقتراحات التي يقدمها العلاج النفسي لك كفرد تعرض لضرر كبير في حياته أدى لقلبها رأسًا على عقب، إلا أنك تبقى أنت الوحيد القادر على اختيار الأنسب لك من هذه الاقتراحات أو خلق طريق جديد يساعدك في التكيف مع واقع مغاير تم فرضه عليك، لا خيار لديك سوى محاولة أن تصوغ حبكة جديدة لهذا الواقع تجعله أقل إيلامًا، حبكة أخرى براوٍ مختلف تجعلك أقوى وأكثر قدرة على التكيف وتعدل صورتك الذهنية تجاه نفسك وتجاه العالم حتى تنجو. وما يساعدك فعلًا على ذلك هو أنه -بالفعل- ما من حقيقة ثابتة وما من عائق قادر أن يوقف ذهنك عن خلق حبكتك الخاصة، تبقى أنت وحدك في مواجهة عقلك، وهي رحلة تصادق فيها أفكارك وفقط، رحلة تكتشف بها معنى حريتك النفسية.
يطالب العلاج النفسي المتأثرين باضطراب ما بعد الصدمة بنصائح قد تساعدهم مثل مساعدة الآخرين، أو الاستغراق في عمل ينجحون من خلاله، أو تكوين علاقات اجتماعية قد تحميهم من آثار هذا الاضطراب، وكلها طرق تساهم في تخطي الأزمة، وعلى الرغم من أن الاتجاه النفسي يتفق دائمًا مع مواجهة الحدث والتفكير العميق به، وأوله تحليله لإيجاد مخرج من خلال تقبل واقع جديد، لكن أحيانًا يلجأ بعضهم لتأجيل هذه المواجهة تجنبًا بالطبع للألم النفسي المفاجئ الذي حدث، إلا أن ذلك لا يتنافى مع الاتجاه الحديث في التعامل مع الأزمات لأنه -بالفعل- لا توجد وصفة مثالية لكل الناس، أنت من تملك زمام أمرك أنت صاحب القصة أنت الوحيد القادر على تحديد الطريقة الأنسب لك للحفاظ على توازنك النفسي حتى ولو أدى ذلك بك إلى التلاعب بالأفكار”والتي كنتَ تعتبرها في السابق بالنسبة لك حقائق”، الأهم هو أن تتصالح مع الواقع الجديد الذي فرضه بالطبع ذلك الحدث المفاجئ وأن يتوقف الألم.
ما اضطراب ما بعد الصدمة؟
يعرف (جوردون بيترسون) عالم النفس المعاصر “اضطراب ما بعد الصدمة” بأنه بمثابة مواجهة الشر، فأنت شخص يؤمن بوجود الخير ثم فجأة تنهار قيمك ومعتقداتك في مواجهة الشر ولن تستطيع فعل شيء حيال ذلك، لن تتمكن من المضي قدمًا في حياتك لأنك لن تستطيع أن تتوقف عن التفكير مرارًا فيما حدث فالجزء الذي تم به تسجيل ذلك الحدث المؤلم لن يتركك ببساطة حتى تستطيع فهم ما حدث، لذلك من الجيد لك أن تضع تحليلك الخاص بالقصة التحليل الذي يخدمك أنت وفقط حتى تستطيع تجاوز الموقف.
اقرأ أيضا: الاغتصاب الزوجي.. مأساة النساء داخل البيوت
كما يخبرنا (بيترسون) أنه بإمكان أي منا معرفة ما إذا كان يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، فإذا رجعت بذاكرتك إلى الماضي وظهر في عقلك أي ذكرى في غضون أكثر من (18) شهر بحيث تظهر مشاعر سلبية حيال تفكيرك بهذه الذكرى، فهذا الجزء من الدماغ يعاني من مشكلة صغيرة من اضطراب ما بعد الصدمة، وطريق النجاة كما يؤكد أيضًا (بيترسون): “على هؤلاء الذين يعانون من آثار اضطراب ما بعد الصدمة بتطوير فلسفة واقعية عن الخير والشر كي يتمكنوا من الشفاء”، وهو ما يؤكد إعادة صياغة قصة حياتك كما يليق بك أن تنجو وتستطيع العيش بسلام.
الوهم هو واقعك الخاص
تعمل الأوهام كالسحر في التخفيف من الآثار الصادمة للواقع، وتكون بمثابة صديق جيد لك يساعدك على التصالح مع العالم خاصة في وحدتك، كما أن التمسك بنسختك الخاصة عن الواقع سواء كانت مكتوبة أو مجرد معايشة ذهنية هي أيضًا بمثابة مقاومة داخلية تساعدك على التخلص أحيانًا في أسوأ الأحوال من أفكار عقلانية في عقلك الواعي مثل الانتحار أو قرار مصيري قد يؤدي بك إلى مزيد من الانحدار، كما يُعد تصميمًا داخليًّا وموقفًا صارمًل تجاه أي عداء بينك وبين أشخاص يتعمدون الإيذاء النفسي بفرض وجهة نظرهم الخاصة عليك كشكل من أشكال السلطة. لكن في النهاية علينا أن نكون فقط حذرين بشأن أوهامنا حتى لا ننجرف تمامًا.