هناك الواقع كما هو موجود وهناك الواقع كما يتراءى لنا، من هذا المنطلق تبرز فكرة التمثلات التي تقتضي بوجود “الموجودات” أو الكيانات (Objects) وتمثلات تلكم الموجودات لدى الأنا أو الأنا الجمعي، وبذلك فإن التمثلات هي مجموعة التصورات الذهنية التي يشكلها الفرد أو الجماعة عن موجودات أو أفراد وجماعات أخرى، ولهذه التصورات الذهنية دور كبير في تشكيل المفاهيم والأحكام لدى الإنسان، وبناء على معطيات واقع الحال في الساحتين الثقافية والفكرية في المجتمعات الإسلامية نتبين إشكالية الأنا والآخر؛ “الأنا” المجتمعات الإسلامية، الآخر “الغرب”.
ومن إفرازات هذه الإشكالية سجال فكري وتصادم حضاري قائم على مجموعة من التصورات والأحكام المسبقة والتي لعبت السياسة والثقافة دورا كبيرا في تشكلها في العقل الجمعي لدى المجتمعات الإسلامية، وانطلاقًا من ذلك، نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على تمثلات الآخر “الغرب” في العقل الجمعي لدى المجتمعات الإسلامية، مع الإشارة إلى بعض من عوامل تشكلها وتأثيراتها على نمط التفكير في العقل الإسلامي.
الآخر: مفهوم غامض في العقل الإسلامي
في المجتمعات الإسلامية، حيث يسود الفكر القبلي؛ والذي تقتضي بوجود رابطة بين أفراد القبيلة، أساسها الانتماء والولاء للقبيلة ومنظومتها السياسية والقيمية والعرفية، وأن أي شخص خارج عن القبيلة “الآخر” فهو بالأصل عدو للقبيلة، وعلى الرغم من سيرورة التاريخ وقيام الدول وتعاقبها وبروز الأفكار القومية ومن ثمة القيم الإنسانية العالمية إلا أن المجتمعات الإسلامية لم تنفك بعد من هيمنة سلطة القبيلة على التفكير الجمعي.
وبذلك فالعقلية الإسلامية تقوم على رفض الآخر من حيث المبدأ، فإذا كانت تقر بوجوده انطلاقا من حتمية الواقع، إلا أن ذلك الاعتراف ليس إلا إقرارًا بالواقع كما هو لا كما يجب أن يكون، فالمخيال الإسلامي يرفض الآخر لكون هذا الأخير مختلفًا في الفكر والدين والأعراف، وبناء على هذا الاختلاف ومنطق الفكر القبلي فإن الآخر يتمثل لدى العقل الإسلامي في كونه عدوا أجنبيا يشكل خطرا على القبيلة، وبذلك فإن الصدام معه صدام وجود إذ يتراءى لدى العقل الإسلامي أن العلاقة بالآخر تكمن في إخضاع الآخر وضمه للقبيلة، أو قتله حتى إفنائه.
كما أن الذات الإسلامية المنتفخة، التي تعتبر ذاتها أسمى من الآخر، وأنها صاحبة الحق الأوحد وصاحبة الدين الأصح والمجتمع الخلاق والمبدع، فإن تمثلات الآخر لديها لا تعدو كونها تشويهًا للصورة المثالية للوجود، وبذلك فإن الآخر ليس سوى مصدر قلق وجودي لدى العقل الإسلامي، بل وأنه تجسيد لهواجسه الدونية فترى العقل الإسلامي يسقط كل تصوراته السلبية على الآخر أيا كان وبالأخص “الغرب” نظرا للتفاعلات التاريخية بينهما.
الغرب في العقل الإسلامي
يعتبر الغرب من أهم تجليات صورة الآخر لدى المجتمعات الإسلامية، ولقد تكونت لدى العقل الجمعي لدى المسلمين العديد من التمثلات حوله، يمكن أن نصنف هذه التمثلات حسب طبيعتها لقسمين رئيسيين:
الأول: هي تمثلات إيجابية، حيث تقر المجتمعات الإسلامية بالتفوق العلمي والحضاري لدى الغرب، فضلا عن تصورات حول تفوق في الذوق والفن والحياة العامة، دون إهمال حالة من الانبهار بالمستوى العالي لاحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتقسيم الأمثل للثروات الوطنية ووجود حياة سياسية تتسم بالشفافية، الشأن الذي يخلق في الغالب صدمة حضارية لدى العقل الإسلامي وبذلك تنقسم المجتمعات الإسلامية لقسمين؛ طائفة منهم تعمل على تقليده وتواقة للهجرة للغرب، وطائفة أخرى تستلم لمنطق عصبي فتتحول عقدة النقص الكامنة في دواخلهم لحسد وكره شديدين فتراهم يلعنون الغرب ويكفرونه ويدعون عليه في صلواتهم بالزوال ومع ذلك فحتى هذه الطائفة لا تقاوم إغراءات الهجرة للغرب.
الثاني: تمثلات سلبية وهي السائدة، وهي عديدة نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يأتي:
- كافر: أن الإسلام دين الله الأوحد، وأن المسلم يمتلك الحقيقة المطلقة، والآخر بالضرورة كافر يستوجب المعاهدة (الجزية) أو القتل أو التحول نحو الإسلام، وأن الغرب يكفر بالله وبالإسلام ليس لجهل منه بحقيقة الدين بل إنه على بينة منه وإنما حقدا على المسلم والإسلام يمتنع عن الدين ويحاربه.
- اللاأخلاقي: أن مكارم الأخلاق مرتبطة بالمسلم، وأن غير المسلم بالضرورة لا أخلاقي، وأن الدعارة والممارسات الجنسية غير الشرعية هي الشائعة عند الغرب، وأن الإنسان الغربي لا يحتكم لمنظومة أخلاقية باعتبار مرجعياته الأخلاقية إن وجدت فهي فاسدة، وبذلك فإن جميع السلوكيات والأحكام الناجمة عن الآخر هي في الأساس منحرفة عن جادة الصواب.
- مستعمر: نلاحظ أن العقل الإسلامي خاصة عند العوام قاصر في الفصل ما بين الأنظمة والشعوب، فيسقط صفة الدولة المستعمرة على شعبها والذي في الغالب ما يكون رافضا لمبدأ الاستعمار، كما تسقط وحشية المستعمر عليه تباعا، وبذلك فان صورة الآخر مرسومة بحبر أسود يخط ظل الوقائع لا الوقائع ذاتها، كما نلاحظ كذلك قصورا في التفرقة بين الدول الاستعمارية وحقبتها الزمنية (والتي يستوجب إدانتها، وأن تدين الدول ذاتها الحديثة الاستعمار وتعتذر عنه) وبين الدول الحديثة التي تعبر عن أنظمة جديدة (وهنا نتحفظ بناء على واقع التدخلات في الشؤون الداخلية).
- متآمر: في مخيال الشعوب الإسلامية، توجد مؤامرة كونية على الإسلام والمسلمين تحاك من طرف الآخر، وذلك لأن المسلم يمتلك الحقيقة والخلاص، وأن الآخر يحسده على ذلك ويحاول أن يمنعه من بلوغ الحقيقة والخلاص، وأن العالم بأسره بتركيباته المختلفة (اليسار السياسي واليمين السياسي، الروس والأمريكان والصين وكل الفواعل الدولية المتخاصمة فيما بينها) إنما تتفق لأذية المسلم والتآمر عليه.
والأغرب في هذا التمثل، كون العديد من المسلمين يعتقد جازما أن السر الكامن وراء الاختراعات العلمية والتكنولوجية على غرار وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية والفضائيات وغيرها من المنتوجات العلمية لم يتم التوصل إليها أو لم تخترع إلا مؤامرة على المسلم والإسلام ومحاولة لإغوائه عن الحقيقة.
وتعتبر النقاط السابقة من بين أهم التمثلات وأكثرها تأثيرا في العقل الإسلامي وعلى الشعوب الإسلامية بصفة عامة، إلا أن هذه التمثلات لم تنشأ من العدم وإنما تكونت بناء على أسباب موضوعية ندرجها في العنصر الموالي.
في علل تشكل التمثلات السلبية عن الغرب
تشكلت التمثلات السلبية لدى المجتمعات الإسلامية عن الغرب والآخر عموما بفعل عدة عوامل منها ما يتصل أساسا بطبيعة الثقافة القبلية المنغلقة، ومنها ما يتعلق بالواقع الحضاري المتدني للمسلمين ونبين في العناصر الموالية جملة من هذه العلل:
- هيولة النص الديني: يتسم النص الديني المقدس في الإسلام بنوع من الهيولة بمكان أن القارئ للنص الديني يدركه بناء على منطلقاته الذهنية وانفعالاته الشخصية، فنجد القراءة الإخوانية والوهابية تتسم بعداء منقطع النظير للآخر وتصوره ككيان مشوه متجرد من صفة الإنسانية، وتعلي القراءة ذاتها من صفة المسلم على غير المسلم، في حين نجد بعض القراءات الأخرى على غرار الصوفية والمعتزلة التي تضع الآخر في صورة الإنسان الند للمسلم وتعترف بوجوده مع كامل الأهلية الحقوقية في ظل الاختلاف الذي يرمز لدى هذه المدارس على كونه إحدى السنن الكونية، ومنه فإن طبيعة قراءة النص الديني لدى بعض المدارس الإسلامية خاصة -سالفة الذكر أولا- قد لعبت دورا محوريا في تشكيل التمثلات السلبية عن “الآخر” في العقل الإسلامي.
- الفكر القبلي: تشكلت الحضارة الإسلامية في بيئة قبلية تتسم بالصراعات والنزاعات القبلية، وبذلك فإن الثقافة الإسلامية تشكلت بنفس المنطق القبلي، فالقبائل العربية ما قبل الإسلام تتسم بحالة من الصراع والنزاع المستمر فيما بينها مشكلة بذلك إرثا منطقه رفض “الآخر” منتسب للقبيلة، وبذات التراتبية في أن الفكر الإسلامي بات يرفض الآخر “غير المسلم”؛ إذ إن العقل الإسلامي استبدل عصبية القبيلة بعصبية الدين وظل رفض الآخر ثابتا من ثوابت العقل الإسلامي.
- التأخر الحضاري: لقد أسهم التأخر الحضاري لدى المسلمين بشكل كبير في تشكيل التمثلات السلبية عن الآخر، إذ إن العقل الإسلامي تأثر سلبا جراء الهوة العلمية والحضارية التي بلغها الآخر وبالأخص الغرب واليهود الشأن الذي أدى إلى بروز نوع من جلد الذات في سبيل إدراك أسباب عمق الهوة، وبدل توجيه هذه الطاقة السلبية نحو العمل على تعزيز دور العلم والحرية وحقوق الإنسان التي تعد أهم عوامل التطور الحضاري، راحت المجتمعات الإسلامية تشوه هذا الكيان المختلف “الآخر” لتصور كل ما توصل إليه علميا وحضاريا مجرد متاع غرور الدنيا وأن الفلاح الحق يكمن في الآخرة، وأن “الآخر” مهما تطور فهو مسخر لخدمة المسلم.
- الحكم الشمولي: لا يمكن للعقل الإسلامي أن يصل لدرجة من النضج الإنساني بمكان أن يتقبل الآخر في ظل نظام شمولي، إذ يعمل النظام الشمولي دائما على تصوير الشعوب الأخرى والأنظمة الأخرى بوصفها أنظمة تكايد العداوة والشر للدولة وشعبها، وبمنطق التراتبية وبفعل التأثير المتبادل بين النظام السياسي وسوسيولوجيا المجتمع فإن العقل المسلم بات يشكل تمثلات سلبية عن الآخر ومن أهم تداعيات هذه العلة هي الآخر المستعمر التي سبق وأن تم الإشارة إليها سابقا.
- تضخم الأنا: بناء على مرجعيات قبلية ودينية فإن الأنا لدى العقل الإسلامي متضخمة للحد الذي تطمس فيه وجود الآخر، وتعتبره مجرد لاعب ثانوي في قصة الحياة التي صنعت من أجل المسلم حصرا، وبذلك فإن تمثلات الآخر لدى العقل الإسلامي تتشكل بناء على نظرة متعالية تجعل من الآخر كافرا، مستعمرا، منعدما للأخلاق، متآمرا وحاسدا.
تداعيات التمثلات السلبية على المجتمعات الإسلامية
يقف العقل الإسلامي أمام جملة من التمثلات السلبية التي تشكلت بناء على علل موضوعية في أزمة وجودية، تولدت عنها تداعيات خطيرة أثرت بالسلب فيها وفي دولها، فحالة الحروب التي تعيشها دول الشرق الأوسط (سوريا، العراق، اليمن) ودول شمال افريقيا (ليبيا، النيجر...وغيرها) ما هي إلا تجلٍّ من تجليات رفض الآخر.
ولم يتوقف الأمر فقط عند الآخر “الغرب” بل تعمق الأمر للحد الذي تسللت فيه أزمة التمثلات السلبية وسط المجتمعات الإسلامية نفسها بين مكوناتها من سنة وشيعة ومتصوفة. والتي تفاقمت للحد الذي نما منها الإرهاب الإسلامي، فالإرهاب في الأساس يقوم على فكرة رفض الآخر المختلف بناء على تمثلات الآخر لديه، فنجد جماعة بوكو حرام على سبيل المثال اتخذت من اسمها “التعاليم الغربية حرام” شعارًا لنبذ الآخر ورفضه، وجماعة داعش التي تمثلت لديها الفرق الإسلامية الأخرى على غرار الشيعة والإيزيديين كـ”آخر” يستوجب تصفيته.
وبذلك فإن الأزمة التي كانت موجهة على الآخر “الغرب” تعمقت للحد الذي باتت بعض الشعوب والفرق الإسلامية “آخر” أمام الحركات الإقصائية المتطرفة.
كذلك وفي السياق ذاته فإنه لا يمكن فصل التمثلات السلبية عن الغرب وعلومه وحضارته عن التأخر الفادح الذي تشهده الدول الإسلامية في هذه المجالات، فإن التمثلات السلبية عن الغرب تم إسقاطها على معالم حضارته، فاعتبر العقل الإسلامي حقوق الإنسان والمرأة فجورا، ومن الحرية فسقا وتعريا، ومن العلوم مؤامرات وأكاذيب.
وبذلك فإن حصيلة هذه التمثلات السلبية عن الآخر في العقل الإسلامي تداعت عليه بالسلب بالقدر الذي جعل من المجتمعات الإسلامية مجتمعات مشلولة شبه ميتة قاصرة عن الاندماج في عالم متنوع.