لطالما كانت لبنان بلدا مليئًا بالأحداث، إلا أن ما حدث بعد ثورة تشرين جعلنا نتابع عن كثب الأحداث اليومية التي يمر بها الشارع اللبناني، حيث اشتعلت الأزمة بعد الثورة مباشرة عندما أغلقت المصارف بعد يومين من المظاهرات ولم تفتح إلا بعد مضي أسبوعين.
توالت على هذه البلد أزمات داخلية وخارجية، كيف لا وهي بلد خاضعة لحكم المرشد والملالي، فقد تزامن انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مع تفشي الوباء الذي فتك بالعالم كله وأيضا مع اندلاع انفجارات المرفأ التي ما زال أهل شهدائها يتظاهرون لأجلهم ولأجل محاسبة الطبقة الفاسدة التي تسبب إهمالها بإزهاق حياة الأبرياء.
أزمة اقتصادية خانقة
تزامن كل ذلك مع وصول احتياطي العملة الأجنبية في البنك المركزي إلى حده الأدنى وهذا يعني أن لبنان بلد على شفير الهاوية، إذ إنه لا يستطيع تأمين الدعم على المحروقات ولا توفير الاحتياجات الرئيسية التي تتطلبها أي حياة في هذا العصر، أقلها توفير الكهرباء التي صار توفرها حلمًا عصيَّ التحقيقِ لكل لبناني، فعجز الدولة عن استيراد المازوت والبنزين يعني أن تبقى لبنان غارقة في ظلام طويل.
وهذا العجز ترتب عليه تقنين كبير من أصحاب المولدات إذ إن اللبنانيين اعتادوا على الاشتراكات الخاصة التي تمدهم بالكهرباء إذ أن الدولة لا تستطيع تأمين الكهرباء لمواطنيها على مدار اليوم حتى قبل اندلاع هذه الأزمة.
وهذه صورة مشابهة لكل الدول التي تدخلت فيها أيدي أصحاب العمائم للوصول إلى الضغط الاقتصادي الذي يؤدي إلى تبعية كاملة لكن التداعيات الحالية نشأت منذ أن بدأ البنك المركزي باستخدام أموال المودعين وتحديد قيمة ضئيلة يسمح لهم بسحبها بشكل مذل ومهين، فمن طوابير البنوك والنزاعات التي تم تداولها على صفحات التواصل الاجتماعي إلى طوابير تعبئة البنزين.
اقرأ أيضا: نادية حرحش: الربيع العربي تحول من حلم إلى كابوس
وتعود قصة المودعين إلى وقت طويل قبل الأزمة هذه فقد عمدت البنوك اللبنانية إلى توفير سعر فائدة كبير نسبيا للمودعين مقارنة بالدول الأخرى، إذ وصلت هذه الفائدة إلى (15%) مما جعل اللبنانيين يشعرون بالحماسة فقاموا بتحويل أموالهم من الخليج والدول الأوروبية إلى لبنان وبثبات سعر الصرف المتفق عليه منذ التسعينيات، أي مذ أن حدده الحريري -رحمه الله- وهو (1500) ليرة مقابل الدولار فقد كان الوضع جيدا، فما الذي حدث بعد ذلك؟
توضح أغلب ردود فعل الشارع اللبناني، وببساطة، أن طبقته الحاكمة جعلته عرضة للنهب، فمظاهر البذخ والترف مشهد معتاد لأصحاب النفوذ يقابل ذلك مشهد المواطن اللبناني الذي يشكو الفقر والعازة ويعيش تحت وطأة الاشتراكات وارتفاع أسعار المنتجات الأساسية بشكل متفاقم وهذا كله مع عدم توقف الحكومة عن استنزاف أموال المودعين، فبدأ البنك المركزي وفقا لمبدأ العرض والطلب بطرح سعر صرف جديد في السوق، فاختل هذا الثبات في سعر الليرة الذي استمر لسنوات عدة قبل ذلك حتى صارت قيمتها لا تساوي شيئا. مشهد آخر يذكرنا بما حدث لعملة إيران أو فنزويلا مثلا؛ عملية نهب منظمة أوصلت الشعب اللبناني إلى ما هو عليه اليوم.
لماذا لم يعد الحراك في الشارع اللبناني منتعشا؟
لكن المحاور تتشعب أكثر من ذلك فبعد الأزمات الكبيرة من نقص في الدواء وإغلاقات المراكز الطبية والصيدليات والشح الكبير في توفير المحروقات نأتي على سؤال مهم وهو: لماذا لم يعد الحراك في الشارع اللبناني منتعشا؟
فنخلص إلى التالي من ملاحظات بسيطة لدينامنيكة الحركة والمظاهرات السابقة، لقد كان الترهيب هو العامل الأساسي الذي أخمده قبل تفشي الوباء وارتفاع أعداد المصابين فلقد شهدنا بطش الأحزاب والتهديدات المستمرة للمتظاهرين في ساحة الشهداء ولم يتوقف الأمر على ذلك فقط إذ تدخلت القوى الأمنية من خلال مخابراتها والجيش في منع وتحجيم الحراك. أما في الحديث عن الشعب فهناك انقسامات كثيرة في صفوفه، انقسامات مذهبية وطائفية وعدم اتفاق على مطالب محددة.
إقرأ أيضا: انتحار رالف رزق الله.. ربيع جابر في المرآة
باﻹضافة لانشغال المواطن اللبناني في معاناته اليومية جعلته يصب جل اهتمامه على الأمور التي من شأنها أن تساعده على النجاة فصار شغله الشاغل السؤال عن سعر الصرف وكأن هذا السؤال صار روتينا يوميا كالسؤال عن حالة الطقس مثلا، أما من لديهم أطفال فراحوا يصبون اهتمامهم على تأمين قوتهم اليومي وتوفير الدواء والطحين وتخزينه احترازيا للأيام العجاف.
بس ولا.. شعب اعتاد الأزمات
ومع ذلك فالشعب اللبناني في عمومه شعب واع ومثقف وقد مر بالكثير من الأزمات حتى صارت لديه قدرة كبيرة على مجابهة سياسة الترهيب والتخويف، ولم يعد يرهبه شيء. لا (البلطجة) التي تستخدمها الطبقة الحاكمة ولا التجويع، بل بات يحارب هذه الأجواء والحالة التعيسة بالاستهزاء وإطلاق النكات، أو مقابلة اليد التي تحاول البطش به بكلمتين (بس ولا)! وهذا الشعور باللامبالاة واللاخوف هو نتيجة لصدمات متتالية أرهقت مشاعر ونفسية هذا الشعب حتى صار ضد الصدمات وضد المخاوف.
لكن المصير يبقى مجهولا ولا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث في الأيام القادمة، وما الذي يخبئه المستقبل من أحداث بعد، وبحسب قول (س.أ) أحد المودعين اللبنانيين فإن شعوره مختلط فقد حل محل الغضب والنزعة الانتقامية خدر وتسليم تام إلا أنه يأمل أن يرفع دعوى قضائية ضد البنك الذي أودع فيه جنى عمره كما فعل غيره، وبالفعل فلقد كسب من سبقوه هذه القضية لكن التنفيذ يبقى معلقا ككل القضايا المعلقة في لبنان.