في ظل الحضور المتنامي للتيارات السلفية في مصر والوطن العربي خلال العقود الماضية ومع دورهم البارز في الشأن السياسي والاجتماعي عقب ثورات الربيع العربي، ثم تراجعهم من المشهد العام بعد هزيمة معظم الثورات وتحولها لحروب وصراعات أهلية وطائفية يقدم كتاب “السلفيون والسياسة” للباحث في مجال الأنثروبولوجيا محمد حافظ دياب قراءة نقدية للظاهرة السلفية وتداعياتها المجتمعية والسياسية.
الكتاب الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب يتتبع السياق التاريخي لنشأة وتطور الحركة السلفية، وواقعها الحالي بكل ما يحمله من تعقيد وتشابك، كما يتطرق لمستقبل الحركة السلفية في ظل المتغيرات والتحديات الكبيرة التي تشهدها الدول العربية، منطلقًا من مفهوم رئيسي يتعامل مع الظاهرة الدينية في سياقها التاريخي والاجتماعي، داعيًا القراء ليكونوا شركاء فاعلين في العمل من خلال التأكيد على أهمية التساؤل، والحوار، والتفكير النقدي.
يتضمن الكتاب جزئين الأول بعنوان “مقدمات نظرية”، ويضم ثلاثة فصول يدور أولها حول تعريف مفهوم السلفية ويتناول الثاني التعرف على بنية الخطاب السلفي من حيث تركيبه خطابيا وإيديولوجيا، ويتحدث الفصل الثالث عن إشكالية تأريخ مفهوم السلفية. أما الثاني فيحمل عنوان “السلفية والسياسة” ويتناول بالرصد والتحليل عبر فصوله الأربعة تاريخ وحاضر أربعة من أبرز الحركات والاتجاهات السلفية في الوطن العربي وهي: الحركة الوهابية، والحالة المغربية، والمشروع المصري، والسلفية الجهادية.
تفكيك المصطلح
في البداية يشير الكاتب إلى أن هناك سلفيتين رئيسيتين الأولى سنية مَثلها “أهل السنة والجماعة” تقوم على الاقتداء بمنهج السلف الصالح كله، والثانية شيعية عبر عنها “أهل العصمة والعدالة” وتؤكد على الاقتداء بالإمام علي والأئمة الذين تلوه، ويوضح الكاتب أن الصراع حول السلطة مَثل نقطة البدء في نشأة هذه السلفية، منذ انقسام المسلمين عقب معركة صفين إلى طوائف وأحزاب (خوارج، شيعة، أمويون، زبيريون…)، وسرعان ما تحولت هذه الطوائف إلى مذاهب فرضت سلفيات متعددة.
ورغم تعدد وتباين معنى ودلالة مصطلح السلفية، إلا أن التعريف الأكثر حضورًا وقوة في القرون الماضية هو المرتبط بالمذهب الحنبلي وتصورات ابن تيمية التي أعاد إنتاجها محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر لتصبح بمثابة “مانيفستو” لمعظم الحركات السلفية في الوطن العربي “ورغم تباين التعريفات المقدمة حول السلفية، فإن المصطلح قد ادعاه واشتهر به أولئك الذين غلبوا ظاهر النص، على الرأي والقياس وغيرهما من سبل وآليات النظر العقلي، فوقفوا عند الرواية أكثر من وقوفهم عند الدراية.
وحرموا في الغالب الاشتغال بعلم الكلام فضلًا عن الفلسفات الوافدة وهؤلاء من يطلق عليهم أتباع مدرسة الحديث، وإمامها أحمد بن حنبل منذ نهاية القرن الثاني الهجري، لاشتغالهم بصناعة المأثور وعلوم الرواية، ورفضهم علوم النظر العقلي، وهو ما أدى على المدى البعيد إلى صوغ منظومة توجهات حكمت مسيرة السلفية، وهي فهم القرآن والسنة احتذاء بما قدمه السلف، الاتباع لا الابتداع، الإجماع كرهان للحقيقة، إغلاق باب الاجتهاد”.
الحركة الوهابية
يوضح الكاتب أنه منذ القرن الرابع عشر الميلادي ولعدة قرون تالية تراجعت السلفية بصورة كبيرة لصالح تحالف ضمني بين مدرسة العقيدة الأشعرية والتصوف الذي تزامن مع فتح مدينة القسطنطينية وكانت ملامح الدول الإسلامية في هذه الفترة تتكون من ثلاثة كيانات كبيرة هما العثمانيون في تركيا، والمغول في الهند، والثالثة شيعية وهي الدولة الصفوية في إيران.
بالتزامن مع التصدعات الكبيرة التي حدثت للدولة الإسلامية والصراعات بين الدولة العثمانية والصفوية بالإضافة للصراع مع القوى الغربية الصاعدة، عادت من جديد السلفية للظهور، وقامت هذه الدعوة من قلب منطقة الجزيرة العربية وتحديدًا من منطقة نجد في القرن الثامن عشر الميلادي بقيادة محمد بن عبدالوهاب الذي أعاد تقديم أفكار أحمد بن حنبل وابن تيمية من خلال “كتاب التوحيد”، والذي قسمه إلى أبواب، ناقش فيها عقيدة التوحيد، بحسب الأهمية والأسبقية ليقدمها ابن عبدالوهاب بمضامين مستساغة، ومفهومة بالنسبة إلى الخاصة والعامة، ما جعله المرجع الأساسي في مادة العقيدة عند سلفيي العصر الحديث.
وقد أَجْمَلَ محمد بن عبدالوهاب برنامجه الإصلاحي في عبارات مقتضبة ومحددة، حيث قال: “أنا لم آت بجهالة، ولست أدعو إلى منصب، بل أدعو إلى الله وحده وإلى سنة نبيه، وطريقتنا هي طريقة أهل السلف، ومذهبنا في الأصول هو مذهب أهل السنة والجماعة، وفي الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل”.
قسم عبدالوهاب العالم إلى دارين: الأولى إيمان أو إسلام، والثانية كفر أو حرب، لينطلق من هذا التقسيم بتكوين أول إمارة إسلامية في الجزيرة العربية، تمهيدًا لإقامة الخلافة الإسلامية، حيث وجوب إفراد الله بالحكم والتشريع، ورفض أي صورة للدولة المدنية القائمة على القوانين الوضعية، ما يعني أن الدعوة الوهابية نقلت الرؤية السلفية إلى التطبيق، وهو المصطلح الذي ينطبق حتى يومنا هذا.
لقد أعادت دعوة السلفية الوهابية الفكرة الدينية إلى واجهة السياسة منذ منتصف القرن الثامن عشر، بعدما أقام ابن عبدالوهاب عام 1747 تحالفًا ترجمه ميثاق تعاقدي ليس مكتوبًا على الأرجح مع الأمير محمد بن سعود، الذي تعهد بحمل راية الدعوة الوهابية وحمايتها بالقوة إن استدعى الأمر؛ ليتقاسم ابن عبدالوهاب المجال العام بين آل سعود القبلية، حيث حمل الأول عبء قيادة الدعوة الدينية، وتحمل الثاني آل سعود الحكم، فالأول سعى وراء قوة تحمي المذهب الوهابي من أجل سلامة الدعوة ونشر مبادئها
في حين كان آل سعود بحاجة إلى مظلة دينية وشرعية تسوغ تطلعاتهم، وقضي بالتحالف بأن تبقى الشؤون السياسية وتسيير أمور الجماعة العامة في يد ابن سعود وأبنائه، فيما احتكر ابن عبد الوهاب وسلالته الشؤون الدينية، وبخاصة مسألة التوحيد والعبودية لله، والمراقبة الصارمة على التصرّفات المجتمعية والأحوال الشخصية، ومن هنا اتخذت السياسة بطابع ديني، في الوقت نفسه قامت الدولة السعودية بتوسيع رقعة سيطرتها على القبائل وتوحيدها، من باب اتباع السلفية الوهابية، بغية قطع الطريق على التوجهات القومية أو الشيعية أو اليسارية أو الليبرالية”.
السلفية والحداثة
يوضح الكاتب أن واحدة من الأزمات الكبيرة التي يواجهها الإنسان المسلم المعاصر في ظل منظومة الحداثة القائمة على التعدد والتنوع والتغير والتطور المستمر، تكمن في منظومة الفكر السلفي المتمركزة حول ذاتها وماضيها، وتريد أن تفرض هذه الماضي على الواقع المعاش والمستقبل، وفي هذا السياق يقول الكاتب “تنحصر السلفية في مجموعة منغلقة من الواجبات والممنوعات، تقاس عليها شرعية كافة التصرفات والمواقف والأفعال والمقولات، حتى ولو لم تكن بالضرورة دينية، بما يضع أمام المسلم طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يكون سلفيًا وإما ألّا يكون مسلمًا بإطلاق.
وهو ما يفسر ميل النزعة السلفية إلى الظاهر والتزامها الصارم بحرفية النصوص، ووقوفها عند حدود الألفاظ دون نظر إلى سياق ورودها ودلالاتها القريبة والبعيدة، واعتبارها أن إجماع السلف هو بمثابة السلطة التي تمنح النصوص الدينية قوتها التشريعية.
مشيرًا إلى أن السلفيين في علاقتهم بمنظومة الحداثة يمكن تصنيفهم إلى ثلاث فصائل بحسب المفكر المغربي محمد عابد الجابري:
- سلفيون يرفضون لكل نظم العصر ومؤسساته وفكره وثقافته باعتباره عصر الجاهلية، ومن ثم يجب تركه جملة وتفصيلاً والعودة إلى النهج الأصيل.
- سلفيون معتدلون يمكنهم أن يقبلوا من حضارة العصر ومؤسساته ما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، أو ما يمكن تبريره داخلها، وفي الوقت ذاته يوسعون من دائرة السلف الصالح لتشمل كل العصور الإسلامية المزدهرة.
- سلفيون يدعون إلى البحث في نظم الحضارة العربية الإسلامية وقيمها عن أشباه ونظائر لمؤسسات الحضارة المعاصرة وقيمها، والأخذ بها بوصفها أسماء أو صيغاً جديدة لمؤسسات وقيم عربية إسلامية أصلية، ما يعني تأويل النظم النيابية الليبرالية بالشورى الإسلامية، وربط الاشتراكية بمعناها العام بفريضة الزكاة وحق الفقراء في أموال الأغنياء.
واحدة أيضًا من الإشكاليات التي يطرحها المنهج السلفي في علاقته بالسلطة أنهم لا يتعاملون مع السياسة وفق برنامج اقتصادي اجتماعي محدد، كالحال لدى الحركات والأحزاب السياسية، وإنما وفق منطق مغاير يعتبر السياسة استكمالاً للمشروع الدعوي، كما أن مفهوم الدولة في السلفية يختلف عن المفهوم الوطني.
حيث يشدد الخطاب السلفي على مفهوم الأمة كإطار جغرافي وبشري متمدد، ومرتبط بديناميكية الدعوة، وبهذه الكيفية ينشق المفهوم السلفي عن فكرة الدولة الوطنية المرتكزة على تراث الفكر السياسي الحديث، والقائمة على أساس علمنة السياسة، وتكريس مبدأ المواطنة، والديمقراطية، والتعددية، والمشاركة في القرار، وهذا يفسر إلحاحهم على استعادة دولة الخلافة، باعتبارها الترجمة الصحيحة للإسلام.
في هذا السياق يوضح الكاتب أن المواقف السلفية المتباينة من المشاركة السياسية في ظل منظومة حكم وضعية يمكن فهمها من خلال كون معظم التيارات السلفية التي قامت بتدشين أحزاب سياسية لم تعلن صراحة تبنيها للديمقراطية بوصفها نظامًا نهائيًا بل باعتبارها “نظامًا انتقاليًا” يسعى نحو تطبيق الشريعة الإسلامية.
السلفية والسلطة
في ظل التغيرات الكبيرة والمتسارعة التي نعيشها في واقعنا العربي المعاصر يشير الكاتب إلى أن القوى السلفية في علاقتها بالسياسة أمام أربعة احتمالات:
- الاحتمال الأول: هو الإحجام عن أحداث تطوير حقيقي وجوهري على خطابها، ما يحدو بها في هذا الحال إلى الاكتفاء بأن تظل جزءًا من اللعبة السياسية، كممثل لجناح يمين اليمين، ضمن الخطاب الديني الإسلامي، على غرار الأحزاب الدينية الإسرائيلية.
- الاحتمال الثاني: فتدلنا عليه الخبرة السلفية في استثمار السقوط المدوي لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن عصفت بها الموجة الثورية في 30 يونيو 2013، عبر امتصاص «تشنجات» المسألة السياسية، أو بتسويتها تحت تأثير مهدئ أو آخر، وهو ما يقوم به راهنًا حزب النور “المشاركة في خارطة الطريق، التقدم كبديل لجماعة الإخوان، ركوب موجة الموافقة على مشروع الدستور، شراء أغلب المصانع المتعثرة بمنطقة برج العرب لكسب تأييد العاملين بها، الدخول في تحالفات مع تجمعات سلفية أخرى، وصوغ أفكار محايدة”.
- الاحتمال الثالث: فيتمثل في تجذّر الصراع العلماني–الإسلامي، واتخاذه أبعادًا اجتماعية وسياسية سالبة، ما قد يؤثر في سير العملية الديمقراطية، ويؤدي إلى توقف المسار الديمقراطي أو حظر الأحزاب السلفية، وانكفائها مرة أخرى نحو العمل الاجتماعي والدعوي.
- الاحتمال الرابع: فهو انشطار التيارات السلفية ما بين النزعة البراجماتية والمحافظة، وهو احتمال يُغذيه اعتماد ذراع هذه التيارات السياسية على كبار مشايخها، وعدم وجود تيار قوي داخلها يعمل في الشارع السياسي بحرفية ومهنية.
- الاحتمال الخامس: هناك احتمال خروج المشهد السياسي برمّته من مأزقه، وهو احتمال لا يتم بصور جديدة خارج الرهان على تكريس نظام ديمقراطي، تشارك فيه القوى والأحزاب السلفية، مع تطوير خطابها السياسي والأيديولوجي للقبول بقيم اللعبة الديمقراطية، ومخرجاتها، وهو ما قد يعزّز احتواء السلفيين، واستدراجهم إلى خطاب أكثر واقعية.