تمر على البحرين الذكرى الخمسون لانسحاب المستعمر البريطاني من قواعده العسكرية في العام 1971 والتي توافق تاريخ 14 أغسطس من كل عام، وهذا العام اكتسبت مناسبة ذكرى الاستقلال أهمية كبرى ليس فقط بسبب مرور نصف قرن على انجلاء الاستعمار وما تحمله المناسبة من ثقل تاريخي وإنما أيضاً بسبب ما تمر به البحرين اليوم من مخططات لتقوية الهيمنة الغربية في المنطقة وتكريسها في شكلها العسكري وتطبيع البحرين مع العدو الصهيوني وانغماسها في منظومته العسكرية والاستخباراتية، مما يدفعنا للتساؤل: كيف ينبغي إحياء ذكرى الاستقلال في ظل هذه المستجدات؟
كيف تبدو الساحة السياسية اليوم؟
اعتاد البحرينيون على إحياء المناسبة بحماس وإصرار عبر تنظيم المظاهرات والندوات والحملات الإعلامية، حتى باتت الأجهزة الأمنية تترقب خروج المظاهرات السنوية في هذا اليوم (14 أغسطس) وتستعد لها باستنفار عناصرها أمام مداخل ومخارج مختلف المناطق، غير أن مناسبة ذكرى الاستقلال تمر هذا العام في ظل ظروف صعبة تعيشها الساحة السياسية.
داخلياً، باتت قوى المعارضة البحرينية شبه مشلولة وغير قادرة على تحقيق تأثير ملموس في الساحة بعد محاولات السلطة لتصفيتها نهائياً عبر الوسائل القضائية والأمنية، وخصوصاً بعد إصدار القضاء البحريني حكماً بحلّ جمعية الوفاق الوطني الإسلامية، كبرى الجمعيات السياسية في البحرين، في يوليو العام 2016.
وكذلك شكّل افتتاح قاعدة عسكرية بريطانية دائمة في العام 2018 نقطة فارقة في تطور العلاقات البحرينية البريطانية حيث تعد هي القاعدة الأولى منذ انسحاب المستعمر البريطاني من قواعده العسكرية شرق قناة السويس في العام 1971، لا سيما أن الحكومة البحرينية تكفلت بدفع تكاليف إنشائها التي وصلت إلى 40 مليون دولار أمريكي ما يعكس توجهًا داخل نظام الحكم لتكريس دور البحرين كنقطة انطلاق للمطامع الاستعمارية في المنطقة.
وخارجياً، يعد توقيع البحرين على اتفاقية لتطبيع العلاقات علنياً مع العدو الصهيوني منعطفاً خطيراً في سيرورة الهيمنة الغربية في المنطقة. فمنذ ذلك الإعلان أجريت عدة اتصالات وزيارات بين شخصيات رفيعة المستوى في الكيان ومسؤولين في الحكومة البحرينية، ومنها زيارة رئيس جهاز الموساد للبحرين ولقاؤه مع نظيره البحريني، وكذلك اتصال رسمي جرى بين وزير الدفاع الصهيوني ونظيره البحريني بهدف إجراء مباحثات لعقد “شراكة وثيقة” بينهما لتعزيز الأمن الإقليمي.
هل تحقق الاستقلال فعلاً؟
ثمة دلائل ومؤشرات تدفعنا للقول إن الاستعمار، بأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، لا زال مهيمناً على البحرين والمنطقة ككل، وهو لم ينسحب إلا بعد أن نظم شؤون المنطقة بحيث يحافظ على هذه الهيمنة وقد سلّم مسؤولية “حماية أمن الخليج” إلى القوات الأمريكية عبر ترك المجال لتحويل القاعدة البريطانية العسكرية السابقة إلى المقر الدائم للأسطول الخامس الأمريكي – وتم استبدال الهيمنة البريطانية بالأمريكية. وهذا مدخل للتأكيد على أن البحرين والمنطقة ما تزال في مرحلة التحرر الوطني، ما يدعو للاستنتاج أنه لا فائدة من إحياء ذكرى استقلال مزعوم لم يحدث بالفعل وعليه ينبغي ألا يتم تطبيع فكرة تحقيق الاستقلال الوطني في العام 1971.
وتدعم هذا التوجه المؤشرات والتطورات التي نراها يومًا بعد يوم من صعود للقوى الاستعمارية وتقوية تحالفها مع أنظمة الحكم في الخليج، غير أنه لا بد من الانتباه أيضاً إلى أن عدم الاعتراف بالاستقلال كحدثٍ سياسيٍ مفصليٍ في البحرين وعدم إعارة أي اهتمام للمناسبة هو جزء من رواية السلطة والمستعمر إزاء تاريخ البلاد.
رواية السلطة والمستعمر
لا تقام أي احتفالات على الصعيد الرسمي بمناسبة ذكرى الاستقلال، وذلك استناداً إلى الرواية التي تكررها السلطة دائماً في بياناتها وفعالياتها الرسمية أن البحرين كانت “دولة مستقلة” منذ العام 1783 (أي منذ بداية حكم أسرة آل خليفة لجزر البحرين) ولم تكن يوماً مستعمرة وإنما كان بينها وبين بريطانيا “اتفاقية حماية”، وتوجت ذلك باحتفالها في العام 2016 بمناسبة مرور 200 عام على “بداية العلاقات البحرينية البريطانية”.
ماذا تقول السلطة عن طبيعة علاقتها مع بريطانيا إذا لم تكن استعماراً؟
قال وزير الخارجية البحريني في محاضرة له حول “تاريخ العلاقات البحرينية البريطانية” في العام 2010 أن “بريطانيا لم تستعمرنا، ووجودها كان حماية للبحرين” أي أن بريطانيا كانت تلعب دور الشرطي في المنطقة والبحرين كانت بحاجةٍ لها لحفظ أمنها من التهديدات الخارجية.
وكذلك أكد على ذلك وزير شؤون مجلسي النواب والشورى في العام 2016 حينما اعترض في جلسة لمجلس النواب على استخدام كلمة “استعمار”: “كلمة استعمار غير صحيحة سياسياً، بل كانت هناك اتفاقية حماية محددة بين البحرين وبريطانيا في شؤون محددة… والبحرين منذ دخلها أحمد الفاتح وهي مستقلة”، في إشارة إلى أن اتفاقية الحماية كانت تختص بإدارة العلاقات الخارجية والأمن الخارجي للبحرين.
لعل ربما أهم تصريح في هذا الشأن كان تصريحاً لملك البحرين في العام 2013 أمام القيادة العامة لقوة الدفاع: “البحرين تأسست كدولة عربية مستقلة منذ العام 1783… من دخول أحمد الفاتح إلى جزر البحرين وهي متمكنة من قرارها الخاص بها وعملت اتصالات مع العالم… والاتفاقيات المؤثرة من دون طرف ثالث، وإنما البحرين وتلك الدولة”، حيث لم يعترف حتى باتفاقية الحماية التي نصت على وجوب الموافقة البريطانية على أي اتصالات مع القوى الأجنبية، على الرغم من أنه وفي حفل استقبال في لندن قبل ذلك ببضعة أشهر أشاد بمعاهدات “الصداقة” البريطانية وأكد على أنه من الناحية العملية والإستراتيجية “الوجود البريطاني لم يتغير”.
وبطبيعة الحال فالمستعمر البريطاني أيضاً يُسهم في تكريس هذه الرواية عبر تصوير تاريخه في البحرين في إطار “الصداقة” و”المصالح المتبادلة”، وهذه ليست برواية حديثة كما دلت عليه اللغة المستعملة في تقرير لقناة الـ BBC حول الأحداث السياسية بعد انتفاضة مارس 1965، حيث تارة وصف الدور البريطاني على أنه مقتصر على الدفاع والسياسة الخارجية وليس لهم علاقة بالقمع السياسي، وتارة أخرى صوروا التوجه الشعبي على أنه مؤيد للوجود البريطاني ويريدون منه التدخل لحمايتهم من بطش “أسرة حاكمة مستبدة لا تحظى بشعبية الناس”، في محاولة لتبرئة أنفسهم مما يحدث ووضع تبريرات لتدخلاتهم في الوقت نفسه.
الرواية الشعبية
وفي قبال رواية السلطة تنطلق الرواية الشعبية حول الاستقلال من الذاكرة الشعبية التي تشكلت عبر مختلف المحطات والمنعطفات التاريخية التي تحاول السلطة تغييب حقائقها.
حقائق تاريخية مثل نقل دائرة المقيم السياسي في الخليج العربي من مدينة بوشهر الإيرانية إلى البحرين في العام 1923، وتعاقب الضباط العسكريين البريطانيين مثل هارولد ديكسن وديلي على منصب المعتمد السياسي في البحرين وتدخلاتهم المباشرة في الإدارة الحكومية وتشكيل مؤسساتها ووضع قوانينها.
كما أن البريطانيين هم من ثبتوا حاكم البحرين عيسى بن علي آل خليفة (حكم البحرين رسمياً بين 1869-1923) وهم أيضاً من خلعوه، ونصبوا ابنه حمد بن عيسى مكانه.
كذلك لا ينسى البحرينيون الدور المركزي الذي لعبه المستشار تشارلز بلجريف في السياسة المحلية ووقوفه ضد جميع الحركات السياسية المتعاقبة منذ العام 1926 وحتى رحيله في العام 1957. كان المستشار تشارلز بلجريف جزءاً من المنظومة الإدارية الاستعمارية، وقد تم تعيينه عبر إعلان نشر في الصحف البريطانية للعمل كمستشار سياسي وإداري لحاكم البحرين. ولكنه فعلياً ووفق الوثائق البريطانية وشهادته الشخصية كان “رئيس حكومة حاكم البحرين”، وكان يباشر صلاحياته كرئيس للشرطة والمحاكم وإدارات التعليم والصحة والأشغال وغيرها.
لعل الحادثة الأهم التي رسخت الرواية الشعبية حول الاستعمار كانت محاكمة قادة هيئة الاتحاد الوطني (أول حزب سياسي حديث في الخليج العربي) في العام 1956 في محاكمة صورية كانت هيئة الادعاء فيها مشكّلة من المدعي العام البريطاني، الذي تلا لائحة الاتهام باللغة الإنجليزية، ورئيس الشرطة البريطاني. وأصدر أحكامًا بالسجن تراوحت بين العشر إلى الأربع عشرة سنة، ونفي ثلاثة من القادة إلى جزيرة سانت هيلانة (الجزيرة نفسها التي نفي إليها الزعيم الفرنسي نابليون) على متن سفينة حربية بريطانية. وكان الاتفاق بين حاكم البحرين وحاكم مستعمرة جزيرة سانت هيلانة بشأن نقل السجناء قد تم بوساطة الحكومة البريطانية وعلى أساس إصدار قانون خاص ونشره في دائرة المعتمد البريطاني.
رغم كل الحركات السياسية المناهضة للاستعمار والمنادية بالديمقراطية على مر تاريخ البحرين، يقولان النظام والمستعمر أن التواجد الغربي العسكري لا يعد استعماراً!
كيف نحيي ذكرى الاستقلال؟
التجاذب بين الرواية الشعبية ورواية السلطة والمستعمر ما زال حاضراً اليوم، وتراود السؤال: “كيف نحيي ذكرى الاستقلال؟” في أذهان الناس دليل على استمرارية قضية التحرر الوطني وحضورها في الساحة السياسية.
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نقيم الخيارين الذين أمامنا: الأول يسعى لعدم تطبيع نجاح مشروع الاستقلال ويؤكد على أننا، عربياً، ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني وعليه لا يشجع على إحياء ذكرى الاستقلال، والثاني يسعى لعدم السماح لتغييب ذكرى الاستقلال كحدث سياسي حمل الكثير من الآمال والتطلعات. أيهما الأقوى؟ أليس الموقف الأقوى في هذا الحال هو الموقف الذي يدفع نحو مناهضة رواية السلطة والمستعمر بصرف النظر عن المنطلقات الفكرية المعتادة لمناهضة الاستعمار؟ ألا ينبغي أن تكون مناهضة الاستعمار موجهة تجاه آلياته السياسية والاقتصادية والفكرية كذلك؟ فإذا كان المستعمر والسلطة المتحالفة معه يريدان تغييب “الاستقلال” كفكرة وكحدث، أليس الموقف المطلوب هنا هو مجابهة روايته بالإصرار على إحياء ذكرى الاستقلال واستمرار المطالبة به؟ أوليس من المفترض أن يكون “الاستقلال” وحديثنا وتفكيرنا حوله نابعاً مما تعايشه الشعوب أكثر من ما نستمده من أفكار جامدة حوله؟
إنني أرى أن في إحياء ذكرى استقلال البحرين، كجزء من رواية شعبية مناهضة لرواية السلطة والمستعمر، فرصة حقيقية لتحويل مناسبة أريد لها أن تُنسى إلى فرصة لتحقيق تعبئة شعبية مقاومة تُبقي مطلب التحرر الوطني حيّ وقائم.