هذه ليست كتابة نظرية عن العلمانية التي حدثت في الغرب، كما أنها ليست بحثًا اجتماعيًّا، مجرد ملاحظات ذاتية إلى هؤلاء الذين يؤمنون بالذاتية، من يعلون وجودية الإنسان عن الفكر.
في البدء لماذا العلمانية؟
مع ثورة يناير ظهرت فئة من الشباب لا يحبون الإسلام السياسي الممثل في تيارات الإخوان والسلفيين، وقد كنت أحد هؤلاء الذين تعلمنوا إثرَ ذلك الصراع السياسي من بعد سقوط الحزب الوطني أو مصر اللإيدلوجية في حقبة من حكم مبارك على عكس حقب ناصر والسادات.
على عكس تلك الفئة، هناك فئة قد تكون تعلمنت فيما قبل، وهم أصحاب تجارب دينية على المستوى السياسي أو التعبدي الأخلاقي كأعضاء سابقين بجماعة الإخوان أو رواد حلقات دروس دينية بمساجد المشايخ السلفيين.
ولولا ثورة يناير وما تبعها من صراع أفقي حول المادة الثانية بالدستور المصري، ولولا تجربة الإخوان في الحكم، وما تبعها بسقوطهم وأحداث الإرهاب بسيناء ثم بقية مصر عامة، لما دفع بالتوجهات العلمانية للظهور على محيط واسع في المجال العام.
لقد كنت أحد مؤسسي رابطة الطلاب الليبراليين في العام ٢٠١٢، وحين تمت محاولة تكوين حزب علماني دار حديث على أن أكون بمنصب قيادي بمحافظتي، كما أني كنت متفاعلًا بشكل عام مع الفعاليات الفكرية التي يغلب عليها اللون العلماني في موضوعاتها، كما أني ككاتب شاركت بمواقع لها أيضا الانحياز ذاته.
وفي النهاية أبقى أحد من كانوا داخل تلك التجربة أو الحالة العلمانية عن قرب، بما يسمح لي أن أنقدها بعدما قمت بنقد ذاتي لكل أفكاري عامة، مما يجعل تلك التجربة ليست أمرًا شخصيًّا أحتفظ به، بل تجربة تخاطب وجدان كثير ممن هم مثلي.
ما العلمانية؟
إن تعريف العلمانية أمر معقد جدًا سيخبرك بعضهم أنها فصل الدين عن الحكم، أو فصل الدين عن المجال العام، أو أنها بمعنى الزمانية (أي الإيمان بالعالم الواقع)، وإقصاء الأخرويات عن الحياة العامة، وقد تجد أخيرًا كما مشايخ تطبيق الشرعية يحدثونك أن العلمانية هي الخير والمال والعمل والرفاهية، وإن ذلك التباين طبيعي.
إذ إن العلمانية الغربية نشأت كتجربة اجتماعية تم رصدها من قبل متخصصين فيما بعد، فمثلًا علمانية فرنسا شديدة الإلحاد والعداء للدين، بينما علمانية إنجلترا لم تكن بتلك الحدة نفسها أبدًا، ويرجع بعض الباحثين تلك التباينات لأسباب اجتماعية كون فرنسا بلدًا من ثلاثة مذاهب مسيحية، بينما يغلب على إنجلترا اتساع رقعة الأقليات، مما يجعل الصراع الديني ممكنًا جدًا في فرنسا لاحتمالية انتصار مذهب أو تيار، بينما في إنجلترا سيكون خرابًا على الجميع.
العلمانية في مصر
يمكنني أن أرجع خطوة للوراء بالنظر لنسب البطالة في مصر، وقلة الأجور، وغياب الأدوات والحلول عن أغلبية الشباب في مواجهة أوضاعهم العملية والاقتصادية، يمكن لكل هذا أن يجعل الشباب المصري أمام عدة اختيارات. في المناطق الشعبية قد يكون الاتجاه للسرقة أو تجارة المخدرات حلًّا، بينما يفضل بعضهم الاتجاه للتعلم بمعنى تعلم صنعة يدوية، وبعضهم ينخرط في التعليم الجامعي بدون رؤية أو تطوير للذات مما يجعله يحتضن البطالة فيما بعد، وتبقى مجموعة من الأشخاص الأكثر ذكاءً قادرين على خلق فرص لأنفسهم وصناعة اندماج ما مع المجتمع.
كما يغلب على بعضهم الهروب دومًا إلى المخدرات، يذهب بعض الشباب للهروب للدين وإلى العلمانية بعد أن أصبحت موضة حاضرة، قد يكون مفهومًا جدًا أن يهرب البعض للمخدرات، ولكن ما المخدر في التدين أو العلمنة؟ في الحقيقة هو غياب التفوق والتحقق الذاتي.
يمكنك بسهولة أن تطلق لحية وتصلي، وتفكر في أنك جيد ومتفوق بينما بقية المجتمع ضال وكافر، كما يمكنك بقراءة بعض الكتب والمقالات وحضور بعض الندوات، أن تكون علمانيا وتخبر نفسك بأنك متفوق بينما الآخرون متخلفين وأقل منك.
هل العلمانية ضرورة فعلا؟
في البدء كانت كلمة “علماني” تطلق على كل شخص غير كنسي، ثم تطورت مع تجارب الإصلاح الديني والحداثة، لترتبط برجل العلم على اعتبار أن رجل الدين هو رجل الجهل والخرافة، ولكن كل تلك التطورات لم تكن نشأت نتاج رفاهية أو بسبب حب أو كره للكنيسة، في الواقع كانت الكنيسة مسيطرة على الحكم والتجارة.
حتى إن إصلاحات مارتن لوثر اعتمدت على حرية التجارة والعمل والأجور، أي التي كانت محتكرة من قبل الكنسية، وكان لتلك الحركة الدينية الإصلاحية أمراء وفرسان وتجار يخوضون حربًا ضد الكنيسة، لم تكن حركة الإصلاح رفاهية، بل تيارًا يستولي على السلطة.
وترتب على ذلك تفكيك كل ما هو ديني فيما بعد، مقابل الاستبدال بإعلان حقوق الإنسان والتنوير والحداثة كقواعد أو دين جديد يناسب السلطة الحاكمة، حتى إننا نجد ما نتج عن استعمار مبرر من قبل تلك البلدان بشكل لا يختلف عن أي غزوات إمبراطورية تاريخية دينية، ولكن كونها الأيديولوجية الحاكمة فتربط نفسها بقيم إنسانية أعلى.
الأمر تمامًا كأن ينتصر هتلر مثلًا، كنا سنجد البشرية تتحدث عن عالم نازي عظيم مبهر. في النهاية، ما نتج عن قتل باسم الأفكار الدينية لا يقل عما نتج من قتل باسم الأفكار المادية خلال الحقبة الكولونيالية والحربين العالميتين.
ولكن للإنصاف، فإن تاريخ البشرية في الحرب والقتل والتدمير لم يكن بسبب الدين ذاته أو الأفكار المادية بقدر ما هو حب للسيطرة وتحقيق مصالح وتبقي الأيدلوجيات مبررات كأن أن تغزو بلد الكفار أو بلد المتخلفين لأنك أكثر إيمانًا أو أكثر عقلًا.
يفترض أن العلمانية وسيلة وليست غاية، وسيلة لتحقيق النهضة الاقتصادية، وإذا نظرنا لتجارب مختلفة كاليابان والصين وإيران حتى، فاليابان اعتمدت على التكنولوجيا، والصين على التصنيع، وإيران على التسليح وتجارة البترول، في النهاية الشعارات والنقد الثقافي لا يغير أي شيء في الواقع خاصة إذا كان مؤدلجًا بشكل مفارق للواقع.
بل ما يغير فعلا هو أدوات القوة والإنتاج، بكل بساطة حركة تحرر العبيد نشأت في أوروبا إثر الانتقال من الإقطاع إلى التصنيع، باختلاف الحاجة من العبد المزارع إلى العامل الحر، إذا كنت صاحب مزرعة يمكنك كفالة السكن والطعام للعبيد في أي مساحة من مزرعتك، ولكن حين تكون صاحب مصنع فمن الأيسر أن يعمل لديك عامل حر.
ومع زيادة متطلبات العمالة، ظهرت أفكار حرية المرأة من أجل صناعة طبقة عاملة من النساء في تلك المصانع، حتى الفردانية الغربية ظهرت إثرَ ظهور طبقة التجار أصحاب الأموال، التفوق الغربي كامل حتى في حرياته، أحد أهم مسبباته الأموال والمواد التي جناها من الاستعمار.
إن النمط الاقتصادي يحكم كل شيء، وإن ذلك يكون من خلال الطبقات التي تمثل أصحاب المصالح المباشرة، وإنها تمامًا الفكرة نفسها للأحزاب في الديمقراطيات الغربية، إنها تجمعات كبرى لأصحاب مصالح مشتركة.
العلمانية والدين
إن الخطاب العلماني المصري في غالبه نقد الدين عشوائي لأنه يعتمد على ترديد لأبحاث المستشرقين بشكل أولي، كما أنه يعتمد على النزع من السياق والقص واللصق والتحامل الخالي من أي حياد، إن كل ما في كتب التراث الإسلامي، من تعدد زوجات وغزوات وقتل، هو نفسه طبيعة العصر الذي كان يعيش فيه المسلمون الأوائل.
حتى مسألة مثل عدم ولاية المرأة كما تجدها في مدونة الحديث الإسلامي، موجودة أيضا بمدونة جستنيان للقانون الروماني، إن الأمر فقط يحكمه التحيز حين تعتبر هتلر سفاحًا، بينما تتغاضى عن تشرشل وروزفلت.
لقد كانت لي تجربة عميقة في الكتابة الدينية التي تعتمد على ما يسمى “المنهج العلمي”، ولكني بعد فترة شعرت بعدم الحياد، ولم أعد أعتبرها جزءًا من مشروعي الكتابي، لقد كنت علمانيًّا يكتب لجماهير علمانية، لم أكن كاتب محايد يكتب لقراء، إن الأبحاث الاستشراقية تدور غالبا لإثبات فكرة مسبقة كأن الإسلام دين مسيحي الأصل والنشأة، أو يهودي.
ومن المضحك أن ما يتحكم في ذلك خلفية الباحث، كما أنك تجد بعضهم يشكك في ابن كثير والطبري ثم يخبرك بسردية جديدة عن تاريخ الإسلام كأن مكة في البتراء، أو أن محمدًا التاريخي رجل آخر يسمى قثم، أتفهم تمامًا الجدل حول تاريخية كل ما هو تاريخي، ولكن ذلك يشوب التاريخ البشري كله ليس تاريخ الأديان فحسب.
فنحن لا نعرف الكثير عن الإغريق قبل ملحمة طروادة، كما يمكنني أن أخبرك تاريخيا بحقيقة القصة استنادًا لبعض الدلائل، وأيضًا أخبرك بزيف القصة استنادًا لبعض الدلائل وسأخبرك في الحالتين أن لي منهجية علمية، الأمر لا يعتمد على اتباع منهجية، بقدر ما يعتمد على التحليل والاستنتاج القائم على معلومة حقيقية.
قد تجد المستشرق يرفض البخاري ثم يعود يستخدم إحدى إشاراته إذا كانت تدلل على خدمة رأيه الخاص. إن المنطق أحيانًا قد يؤدي إلى كل الطرق المتناقضة، كأن يدلل على صحة المذهب السني والشيعي مثلاً، أن تمتلك منطق أو معلومات “حقيقة” أو حتى منهجية ذلك لا يجعل منك محتكرًا لمعرفة الحقيقة، فكل التصورات عن الدين كانت تؤمن به أو تلحد تصورات.
العلمانية والحريات
قد تجد الحديث يدور حول الحريات إلا أنه يسخر ممن يصلي عند الكسوف، ولا يقبل المنقبة، وبنسبة أقل المحجبة، إن الحريات التي يروج لها من أغلب العلمانيين في مصر يجب أن تكون ذات اتجاه علماني، ولكن أي شيء ذات طابع ديني مرفوض.
كما أن أولويات ذلك الخطاب في غالبها مريبة حول خلع الحجاب وارتداء المايوه وممارسة الجنس، إنها حريات على مستوى اللايف ستايل، يتحكم فيها المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأشخاص.
ببساطة إن الفقراء جداً والأغنياء جداً يفعلون أغلب ما يحلو لهم اجتماعياً بعيدًا عن قيم أخلاقية ودينية، وقد يكون العائق الأكبر داخل الطبقة الوسطى اجتماعيا إذ تتحكم القيم والأخلاق بشكل أكبر.
كما أن الحرية الجنسية بنمطها الغربي نفسها حرية متأخرة جدًا في أوروبا بعد حريات العمل والتجارة والاقتصاد والسياسة والتعبير، إنها أمر مرتبط بالقدرة على العمل وكسب الأجر وثقافة الاستقلال عن الأهل.
العلمانية والسياسية
أتذكر حين طرح مشروع قانون الطلاق الكتابي، كانت المحاورات العلمانية بالتلفزيون وكتابات الفيسبوك تدور حول القوانين التونسية لأنها أكثر جاذبية أو لأنهم لا يسعون إلى أي تغيير حقيقي، لك أن تتخيل أن مجموعة من الناس لم تستطع أن تجمع 5000 توكيل لتأسيس حزب يطالبون برئاسة ذات توجهات علمانية!
الخاتمة
إن ما أحاول أن أصل إليه أن للعلمانية المصرية خطابًا ينطلق من أزمات شخصية تعمم بوصفها مشاكل المجتمع، وحين يرفضها الناس يقال قطعًا لأنهم مختلفون، كما أن الخطاب في ذاته يحمل رغبة هروب لحالة تفوق في الغالب غير متحققة في الواقع العملي.
أتذكر أن أحد القيادات العلمانية المصرية تذمر كثيرًا من عدم وجود خمور بمشروع مدينة نيوم، مشروع استثماري كبير جدًا بين رجال أعمال روس وأمريكان وعدة دول شرق أوسطية كل ما يشغله فيه “أين بار الخمور؟”.
أحاديث الدين والعلمانية موضة قديمة جدًا، في عالم يجب أن نهتم فيه بالمهنية والتكنولوجيا وتطوير المؤسسات
في النهاية الحياة لا تتغير بالكلام أو الخطب والندوات. على مستوى المجتمعات، كل شيء مرتبط بمستوى الدخل والاقتصاد، كما أن أحاديث الدين والعلمانية موضة قديمة جدًا، في عالم يجب أن نهتم فيه بالمهنية والتكنولوجيا وتطوير المؤسسات وهذا أشياء لا تأتي بأيدلوجية علمانية بل تتحقق عند توفر القدر اللازم من الأموال الكافية.
إذا كان الفرد يحدد بأن يتزوج من بنت بواب أو بنت دكتور بما يملك من مال، حتى الجلوس بالمقهى أو الكافية يرتبط بالمستوى الاقتصادي، إن ما يصلح الحياة لا في تطبيق الشريعة أو العلمانية بل تحسين الاقتصاد، ومع تغير الوضع الاقتصادي تأتي ثقافة وسلوكيات جديدة تناسب الوضع الجديد.