"تطلبون مني أن أتنازل لكم عن الأرض؟ ولكن، هل أنا أملك الأرض حتى أملك حق التنازل عنها؟ من يستطيع الزعم أنه يملك الأرض، والبحار، والسماء؟ عندما وصلتم إلى بلادنا رحبنا بكم، وعلمناكم كيف تبدؤون حياتكم الجديدة على أرض تجهلونها، وتطلعنا إلى التعلم منكم. ثم رحتم تبيدون قطعان المواشي، وتدمرون الغابات. نحن نأخذ من القطعان حاجتنا، ونأخذ من الغابات ما يلزمنا. لماذا تبيدون القطعان، وتدمرون الغابات؟ أشعر أن قلبي يدمي."
أحد زعماء الهنود الحمر يخاطب مفاوضيه من الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأمريكية
ما قبل التطبيع العربي الجديد
في يوليو عام 2019، قام وفد من ستة إعلاميين ومدونين عرب ينتمون إلى مصر والأردن والعراق والسعودية بزيارة للأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان من ضمن البرنامج الذي أعده لهم مسؤولو الكيان الصهيوني هو زيارة نصب الهولوكوست والكنيست والمسجد الأقصى وأسواق القدس وغيرها من الأماكن، والاجتماع بمسؤولين ووسائل إعلام صهيونية.
بين هؤلاء كان مدون خليجي أراد الذهاب سيرًا إلى المسجد الأقصى وأسواق القدس تحت حماية حراب الاحتلال، لكن أطفال وشباب القدس لقنوه درسًا لن ينساه أبد الدهر عندما أجبروه على العودة من حيث أتى في أحضان جيش العدو الصهيوني، بعد أن طالبوه بالابتعاد عن الأقصى المبارك باعتباره مكانًا طاهرًا.
هذا المدون، قال لإذاعة جيش الاحتلال الصهيوني أن “الشعب الإسرائيلي يشبهنا وهو مثل عائلتي. أحب هذه الدولة وكان حلمي دائمًا أن أزور القدس والمسجد الأقصى”. لكن أطفال فلسطين منعوه وتعاملوا معه كما وصفوه: “عميل مطبع.”
قبل هذه الحادثة بسنتين، أي في ديسمبر 2017، قام وفد من جمعية “هذه هي البحرين” بزيارة الكيان الصهيوني تحت يافطة التسامح والتعايش والحوار بين الديانات، لكن أهل القدس قالوا كلمتهم تجاه محاولات التطبيع المرفوضة من غالبية الشعب البحريني الذي يعتبر التطبيع خيانة للقضية المركزية للأمة.
إن هذه الحوادث ليست أصل الحكاية، فالأصل فيما حدث قبل عدة عقود في مكان آخر. عندما قرر أنور السادات الشروع في مفاوضات مع الكيان الصهيوني والتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، ومعاهدة السلام في 26 مارس 1979.
كانت الخطوات الأولى للتطبيع ترتسم شيئًا فشيئًا ويدفع الشعب الفلسطيني أثمانها الباهظة في تكريس احتلال الأرض والتمدد والسطو على المزيد من الأراضي واعتماد سياسة البطش والقتل والتنكيل ومطاردة قوات الثورة الفلسطينية في الخارج.
كما حصل في إقامة دويلة الشريط الحدودي جنوب لبنان وتنصيب سعد حداد حاكما عليها في 1978، تلتها غزو لبنان في صيف 1982 تحت ذريعة إبعاد الكاتيوشا الفلسطيني عن مستوطنات كريات شمونه وغيرها.
ومع تفاقم الخلافات بين الأنظمة العربية وصولًا لاحتلال الجيش العراقي الكويت صيف 1990 وصلنا إلى مؤتمر مدريد صيف 1991 الذي انفتحت فيه شهية الأمريكي والصهيوني على المفاوضات الثنائية، فمارست واشنطن أقصى درجات الضغط على الجانب الفلسطيني وبقية الوفود العربية التي حضرته.
ليولد بعد سنتين اتفاق أوسلو 13 سبتمبر 1993 بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن دخلت في مفاوضات سرية مع العدو الصهيوني في أوسلو بالنرويج ثم توج ليوقع في واشنطن علنًا.
أحدث هذا الاتفاق شرخًا كبيرًا بين الفلسطينيين الذين كانوا يعانون أصلًا من جراح ما تزال مفتوحة وما تزال تدمي من آثار الغزو الصهيوني للبنان ومجازر صبرا وشاتيلا والموقف الرسمي العربي المتفرج على الغزو والقتل بلا حساب.
موقف كان يدفع نحو تيئيس الفلسطينيين ورميهم لقمة سائغة في فم الصهاينة. لقد سادت حالة من التيه والاضطراب في الوسط الفلسطيني خصوصًا في سنوات ما بعد الخروج من بيروت وحصول الاقتتال الفلسطيني-الفلسطيني وتصاعد هذا التوتر الداخلي ليتسع الفتق وينحو منحًى خطيرًا يصعب على الراقع رتقه. هذا التيه الذي عانى منه بعض الفلسطينيين وقاده إلى تأييد اتفاق أوسلو بشكل فاقع.
كما هو الحال مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي صدقت أن دولة فلسطينية في الأفق تلوح حدودها، وبين غالبية فصائل الشعب الفلسطيني وهيئاته ومكوناته التي وجدت في هذا الاتفاق كارثة جديدة تشبه النكبة، وقد عبر عنها الروائي الصهيوني عاموس عوز بالقول “13 أيلول ثاني أكبر نصر في تاريخ الصهيونية”، وفق ما نقل عصام محفوظ في كتابه (أبعد من السلام).
ماذا يعني التطبيع؟
هناك أكثر من نوع وتعريف للتطبيع، لكننا سنشير هنا إلى نوعين: الأول محايد في الشكل إلى حد ما وهو إعادة العلاقة بين طرفين إلى حالتها الطبيعية بعد أن اختلفا على قضايا يمكن أن تكون رئيسية أو ثانوية وقررا إنهاء الخصومة أو العداء. حدث هذا كثيرًا في التاريخ بين الدول المتحاربة وتلك التي عانت من النزاعات البينية بسبب الحدود أو تقاسم الثروات وغيرها.
أما النوع الثاني فهو التطبيع الخطر الذي يريد الكيان الصهيوني فرضه على الفلسطينيين والعرب ويتضمن إقرار الأمة وقبولها “باغتصاب فلسطين والاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة طبيعية وعضو فاعل في منظومة دول المنطقة، وإقامة علاقات طبيعية معه”، كما يرى سمير أحمد.
ويشرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق بنيامين نتنياهو مفهوم الصهاينة للتطبيع والسلام الذي يريدونه وطبيعة العلاقة التي يسعى إليها مع دول المنطقة، فيقول في كتابه (مكان بين الأمم)، أن "القوة العسكرية الإسرائيلية هي عامل الحسم الحيوي في السلام، ولا بديل عنها".
وهذا هو الموقف الثابت الذي تنسجم معه الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي تتعهد باستمرار التفوق الصهيوني على مجموع الدول العربية في مختلف المجالات وأهمها التفوق العسكري الذي يضمن بقاء الاحتلال وتمدده، وهذا ما يفسر التحالف الاستراتيجي المستمر بين الاحتلال الصهيوني والولايات المتحدة.
والذي يؤدي الكيان بموجبه الوظيفة المطلوبة منه والمتمثلة في التوسع والسطو واحتلال ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية تماشيًا مع الأطماع الأمريكية في النفط العربي سواء في استهلاكه أو في استخدامه لممارسة الضغوطات على الدول التي تختلف معها الإدارة الأمريكية، كما هو الحال في الوقت الراهن مع الصين.
تأثير التطبيع في فلسطين
بعد نحو أسبوعين من توقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين والكيان الصهيوني، وقع رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق بنيامين نتنياهو، على بناء أكثر من خمسة آلاف وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية.
رئيس مجلس السامرة الإقليمي يوسي دغان قال لوكالة "سبوتنيك" الروسية: إن "السلطات الإسرائيلية تتوقع من نتنياهو تطبيق السيادة الكاملة على مستوطنات الضفة الغربية وتعزيز الاستيطان، وذلك يتم بمصادرة أملاك وأراضي الفلسطينيين وتوطين الإسرائيليين".
تلك الموافقة تؤكد على أن الادعاءات بأن اتفاقيات التطبيع ستوقف الاستيطان ليست إلا كلام في الهواء. وأشارت الوكالة إلى أن “هذا التوسع الاستيطاني يندرج ضمن سياسة تسمين المستوطنات، ضمن مشاريع الحكومة الإسرائيلية للسيطرة على مناطق أوسع في الضفة المحتلة”.
إذا كان اتفاق أوسلو قد ولد من رحم اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين الكيان ومصر، وإذا كان تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الكيان ضاعف من بطش العدو في تعاطيه مع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي أراضي الـ48 أيضًا فإن تطبيع بعض الأنظمة العربية تحت يافطات الاتفاقات الإبراهيمية، هو استمرار لمحاصرة الشعب الفلسطيني والتضييق عليه.
فمنذ توقيع اتفاق أوسلو فتح الباب للعدو للمزيد من الاستيطان والاستيلاء على الأراضي وسلب ثروات فلسطين بما فيها المياه. ويشير التقرير السنوي الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في 2014 إلى السرقات الصهيونية العلنية للموارد الطبيعية من الضفة خاصة في مناطق (ج) ما يحرم الفلسطينيين من 3.5 مليارات دولار سنويًا موارد تلك المناطق.
ويضيف التقرير أن الكيان يستولي على أكثر من 62 بالمئة من أراضي الضفة الغربية. في السياق ذاته، كشف مركز أبحاث الأراضي التابع لجمعية الدراسات العربية، أن حجم التوسع الاستيطاني تضاعف بنحو أربع مرات، بعد مرور ربع قرن على توقيع اتفاق “أوسلو”، أي في 2018.
وأن عدد المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة تضاعف من 144 مستوطنة قبل توقيع اتفاق أوسلو إلى 515 مستوطنة وبؤرة استيطانية في العام 2018، وأشار إلى تضاعف “عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بأكثر من ثلاث مرات مرتفعًا من 252 ألف قبل أوسلو عام 1993 إلى حوالي 835 ألف مستوطن اليوم في العام 2018”.
وتابع المركز، بأن “مساحة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها لصالح الاستيطان الصهيوني، والتي كانت تبلغ قبل اتفاق أوسلو حوالي 136 ألف دونمًا أصبحت مساحتها حوالي 500 ألف دونم أي بزيادة قدرها حوالي 368% مقارنة ما كانت عليه”، مُضيفًا أن “الاحتلال الإسرائيلي أمعن في تقطيع أوصال الضفة، وإنشاء جدار الفصل العنصري، ونشر حوالي 839 حاجزًا للفصل وعزل التجمعات الفلسطينية بعضها عن بعض”.
وبعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، زادت العلاقات التجارية بين الكيان و11 دولة عربية في العام 2006 وبلغ مجمل صادرات الكيان لتلك الدول العربية أكثر من 400 مليون دولار وارتفع خلال السنوات اللاحقة بشكل مطّرد حتى وصلنا للعام 2020 الذي تم التوقيع فيه على الاتفاق الإبراهيمي.
كما أنه وفي ظل الانقسام الفلسطيني منذ 2007، الذي ساعد على إنجاح عملية التطبيع، حدثت اختراقات أخرى أراحت العدو ليفرض معادلة “السلام مقابل السلام” بدلًا من “الأرض مقابل السلام” التي نادت بها القمة العربية التي عقدت في 2002 في العاصمة اللبنانية بيروت، وذلك نظرًا لما يمتلكه الكيان الصهيوني من قوة فرضها على النظم التي هرولت للتطبيع وأغمضت أعينها عن جرائم الاحتلال واستمراره في قضم الأراضي، وتم تطبيق مبدأ “حق القوة” بدلًا من مبدأ “قوة الحق”.
خطورة التطبيع العربي الجديد
إن خطورة التطبيع العربي الجديد، “ليس فقط الاعتراف بالكيان الصهيوني الاستعماري وإقامة علاقات دبلوماسية معه فحسب، بل في تبني بعض المطبعين للرواية الصهيونية التي تزعم بأن الكيان كان دومًا يسعى للسلام وأن المقاطعة العربية والمقاومة الفلسطينية هما العائق أمام تحقيق سلام يعم المنطقة والعالم”، كما يراها د. إبراهيم أبراش.
لقد شعر الفلسطينيون بإهانة ومرارة وهم يشاهدون أشقاء لهم يلهثون وراء التطبيع وعقد الاتفاقيات مع قاتلهم ومحتل أرضهم، وضاقت على الفلسطينيين الدنيا بما رحبت وهم يشاهدون ما يشاهده العالم من حالات انسجام غير مسبوقة في البيت الأبيض بينما تمارس كل أساليب النازية الجديدة في فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها، دون أن تتحرك الجامعة العربية ولم تنطق ببنت شفة.
فقد كان مسؤولوها يصفقون مع غيرهم من المطبعين بما أنجز من اختراق صهيوني سندفع جميعًا نحن العرب ثمنه وليس الفلسطينيين وحدهم.
رغم كوارث التطبيع إلا أنه لا يغير شيئًا من الحقيقة إزاء طبيعة العدو الصهيوني بأنه كيان استعماري عنصري. ورغم أن للتطبيع الدور الكبير في تمرير الاتفاقيات المشينة، وتنفيذ مخطط ضم مناطق جديدة من الضفة الغربية وتزايد الخطى لتهويد مدينة القدس إلى الكيان وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية.
إلا أن الصحيح المجرب هو أن الوحدة الفلسطينية الداخلية هي من تمكن من إفشال صفقة القرن، وهي من أعطى الزخم للقضية الفلسطينية في المحيط العربي والعالمي.
إن التطبيع ليس قدرًا علينا تقبله والإقرار به، بل هو تعبير عن موازين قوى، المؤكد أنها موازين متغيرة لصالح القضية الفلسطينية رغم ما نعيشه من كوارث سببها الصهيونية والداعمون لها والأنظمة العربية المطبعة.
نخلص إلى القول بأن مسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية هي مربط الفرس وهي العنصر الذي ترتكز عليه القضية والشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وتحرير أرضه، وهي بالتالي ليست ترفًا تمارسه بعض القيادات المتنفذة، إنما هي ضرورة، وضرورة قصوى.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.