في ظل ما تعانيه المجتمعات العربية من تمزق وصراع مذهبي وعقائدي، لم تعد أسئلة “حرية الاعتقاد” و”التعددية الدينية” تُطرح بوصفها رؤى فلسفية وأفكارًا نخبوية، بل ضَرورة إنسانية واحتياجًا مجتمعيًّا رئيسيًّا لبقاء وتطور الدول العربية أو ترديها وتلاشيها.
ورغم قدم سؤال حرية الاعتقاد في التراث الإسلامي وغيره من الأديان، إلا أن الشواهد التاريخية تشير إلى أن حرية الاعتقاد طالما ارتبطت بالتوجه السياسي للسلطة الحاكمة أكثر من ارتباطها بالشأن الديني فقط، وربما هذا الثنائية السياسية/الدينية تفسر لنا جزءًا من اختلاف وتناقض الخطابات الدينية من مرحلة لأخرى.
“إن بحث التعددية ليس ترفًا فكريًا، بل واقع موضوعي تم تجاهله، لأننا استغرقنا في ذاتنا ولم نعِ أن هنالك آخر يملك نصيبًا متساويًا في الحقيقة التي يملكها أي منا. وقد بين الاحتكاك اليومي مع أتباع الأديان في العالم، أن هذه الأخيرة ليست فعلًا تاريخيًا عارضًا، بل هي مشهد أصيل من نسيج المجتمعات الإنسانية. فكما أن التاريخ الإنساني عبارة عن سياقات متداخلة لتمظهرات إنسانية متعددة ومتنوعة، كذلك فإن تاريخ العلاقة مع الله هو تاريخ لتيارات روحية ودعوات ونبوءات وبشارات وتجارب شخصية وجماعية”.
عبر هذا المقطع من مقدمة ترجمته لكتاب (التعددية الدينية في فلسفة جون هيك) يشير الباحث وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية وجيه قانصو إلى قدم سؤال حرية الاعتقاد ورسوخه في التراث الإنساني، إلا أن الشواهد التاريخية تشير إلى أن حرية الاعتقاد طالما ارتبطت بالتوجه السياسي للسلطة الحاكمة أكثر من ارتباطها بالشأن الديني فقط، وربما هذا الثنائية السياسية/الدينية تفسر لنا جزءًا من اختلاف وتنوع وتناقض الخطابات الدينية من مرحلة لأخرى.
يوضح قانصو أن البحث في التعددية يستدعي بالضرورة وبشكل تلقائي وفقًا لوجهة نظره، البحث في أعمال المفكر الإنجليزي الكبير جون هيك. إذ يعتبر هذا الأخير، في نظر الكثيرين، رائد البحث التعددي الأول. والسبب في ذلك، أن التعددية بالنسبة إليه، ليست موضوعًا في البحث العلمي أو اللاهوتي فقط، بل تمازجت تجربته الفكرية مع تجربته الشخصية، فكانت رؤاه ثمرة تحول ذاتي، وحصيلة تجربة مع الآخر، وخلاصة مسار معرفي ولاهوتي طويل.
يرى جون هيك أن التعددية الدينية ملازمة للتعددية المجتمعية. كذلك، فإن الاستجابة للدين والانجذاب لحقائقه والإذعان لأدلته هو أيضًا متعدد، لأنه يحصل عبر نمو النفس وفي مراحل تشكل الذات داخل مجتمعها ومحيطها. من هنا، يعتقد المؤلف أن الالتزام بالقيم والانجذاب إلى حقائق التعالي، والرغبة في توليد تجربة روحية داخلية، لا تنبع، فقط، من دوافع فطرية، بل تأتي أيضًا في سياق تجربة الاستجابة للآخر الكبير الذي هو المجتمع.
إن الأديان العظمى في العالم هي استجابات مختلفة لذات الحقيقة المحتجبة بذاتها عن أي إدراك بشري
“إن الأديان العظمى في العالم هي استجابات مختلفة لذات الحقيقة المحتجبة بذاتها عن أي إدراك بشري، إلا أنها، مع ذلك، حاضرة في وجودنا ونتعرف إليها ونتفاعل معها عبر نظم دينية متعددة، يتضمن كل منها نصوصًا مقدسة، وتجارب روحية، ونظم معتقدات، وذاكرة دينية جمعية، وتعابير ثقافية، وقوانين وعادات وأشكالًا فنية، تمثل، جميعًا، كيانات دينية تاريخية ذات طبيعية معقدة وشاملة. وهي تعبر عن استجابات بشرية متنوعة للحقيقة الإلهية القصوى”.
يشير مصطلح “التعددية الدينية” إلى أن جميع الأديان متساوية في الإيمان بالله، ولا يوجد دين أفضل من الآخر، ولا طائفة مختارة من الله ومميزة دون أخرى، فالجميع يبحث عن الله بطريقته الخاصة، ويمارس إيمانه بالصورة الأنسب له، وترتكز التعددية الدينية في جوهرها على تقبل الآخر المختلف عقائديًا، نطلاقًا من مبدأ الحرية والمساواة في ظل سيادة القانون إحدى الركائز الأساسية للدولة المدنية الحديثة.
برز مفهوم التعددية الدينية في الغرب بالتزامن مع عصر الإصلاح الديني في أوروبا، كمحاولة لوضع أساس نظري في العقيدة المسيحية للتسامح تجاه الديانات غير المسيحية فضلًا عن التسامح مع الطوائف المسيحية المتعددة التي ظلت لعقود طويلة في حالة صراع وقتال طائفي بين الكاثوليك والأرثوذكس ثم بين الكاثوليك والبروتستانت، نتج عنها أكثر من خمسة ملايين قتيل، بالإضافة لتدمير مدن بأكملها.
وفي الشرق حظى مفهوم “التعددية الدينية” بحضور متزايد مع بدايات القرن العشرين ضمن دعوات الحداثة والتحديث لكنه خفت تدريجيًا لصالح دعوات التحرر الوطني وما تبعها من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، ومع بدايات الألفية الجديدة والقرن الحادي والعشرين عادت من جديد أسئلة “التعددية الدينية” و”حرية الاعتقاد” لتتصدر المشهد العام في ظل عالم جديد ومتغير بصورة متسارعة للغاية.
في افتتاحية كتاب “الصراطات المستقيمة.. قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية” يستدعي الباحث الإيراني عبد الكريم سروش أستاذ العلوم والفلسفة بجامعة طهران السابق، مقطعًا شعريًّا موجزًا وبليغًا للمتصوف محيي الدين ابن عربي يعبر فيه عن جوهر التعددية الدينية “لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي/ إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني/ لقد صار قلبي قابلًا كلّ صورةٍ/ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان/ وكعبةُ طائفٍ وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ/ أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهــت ركائبه/ فالحبُّ ديني وإيماني”.
تشير نظرية التعددية إلى أنه ليس لدينا حق واحد، بل هناك الكثير من أشكال الحق، فالواقع ذو أبعاد متنوعة، لذلك يتنوع الحق ويتعدد
يشير سروش إلى أن “التعددية الدينية” تقف في مقابل “الانحصارية الدينية/ الأحادية الدينية” التي ترى أن الهداية والسعادة تكمن في اتباع دين معين وأن المخالفين والمنكرين لهذا الدين يتسمون بالعناد عن الحق، في حين تشير نظرية التعددية إلى أنه ليس لدينا حق واحد، بل هناك الكثير من أشكال الحق، فالواقع ذو أبعاد متنوعة، لذلك يتنوع الحق ويتعدد، والحق هنا من قبيل “الحق بالنسبة إلي”، لا الحق المطلق، فالمطلق هو الله الذي يعبده الجميع بصور مختلفة.
يبني الباحث الإيراني أطروحته عن التعددية الدينية على ركيزتين أساسيتين هما: “التنوع في فهم النصوص الدينية”، و”تفرد وتميز التجربة الروحية لكل إنسان”، مشيرًا إلى أن الناس يحتاجون في مواجهتهم للكتب المقدسة إلى تفسير وبيان، وإزالة ستار الإيهام عن المتن الصامت أو التجربة الدينية الخام واستنطاقها.
“هذا الاكتشاف والاستنطاق لا يكون على شكل واحد بل يتميز بالتنوع والتعدد، فلا يتمثل الدين في مذهبٍ أو فئة، بل الدين هو مجموع تفاسيره ومذاهبه، وهذا ما يؤدي للقول بأن تعدد التفاسير للمتن الديني يمثل وجوهًا متعددة لحقيقة الإيمان، وهذا التعدد لأوجه الإيمان يسميه سروش أيضًا بـ”البلورالية” تشبيهًا بالأحجار الكريمة التي يكون تعدد أسطحها سببًا لتعكس جمالية الألوان والشكل”.
أصَّل سروش على مدار الكتاب لمفهوم التعددية بمعناها الشامل من خلال التأكيد على أن التعددية السياسية والاجتماعية لا تنفصل عن التعددية الدينية؛ فالتعددية ليست أداة ولا وسيلة نستخدمها في أمور ونعطلها في أخرى، بل هى مبدأ وركيزة أساسية تبنى عليها حياة الإنسان “التعددية في فهم النص لها مفهوم واضح هو عدم وجود تفسير رسمي وواحد للدين أبدًا، ولذلك لا يوجد مرجع ومفسر رسمي له ولا يوجد أي فهم مقدس وخارج حدود النقد، فكل إنسان يتحمل مسؤوليته على عاتقه ويحشر وحيدًا أمام ربه”.