يعود الوجود الحضري في منطقة الكويت، بحسب مركز البحوث والدراسات الكويتية، إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، كما تشير بقايا بعض الأثار التاريخية التي عثر عليها في كاظمة وغيرها من مناطق وجزر الكويت.
وقد استوطن آل الصباح (فرع من قبيلة عنزة) مدينة الكويت في عام 1613 بعد أن خرجوا من نجد. ويقول الدكتور أحمد البسام، في لقاء أجرته معه روتانا خليجية، أن سبب خروج آل الصباح غير معروف، لغياب الوثائق المعتمدة والاكتفاء بالروايات المنقولة، وأكثرها تداولا روايتان حول خروجهم المحتمل من نجد إلى ما يعرف بكاظمة ثم القرين ثم الكوت والكويت. فالرواية الأولى تقول إن سبب خروجهم، والحديث للدكتور أحمد البسام، هو بسبب القحط الشديد الذي أصاب المنطقة، وكان خروجهم في بداية النصف الأول من القرن 1010 أو 1020هـ. بينما تعزو الرواية الثانية خروج آل الصباح من نجد إلى الكويت بسبب الخلافات مع أبناء العمومة.
وتشكلت الكويت، بعد تلك الهجرة، ووفود عدد من القبائل للسكن بها، بعد أن عمل أهلها في مهن متعددة، كان أهمها الغوص في البحر للبحث عن اللؤلؤ والتجارة به. وقد اختارت تلك القبائل حاكما لها من أسرة آل الصباح، وظلت هذه الأسرة تحكم الكويت منذ منتصف القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا.
بينما عن طبيعة العلاقة، بين الشعب الكويتي في بدايات الكويت وأسرة الحكم، يذكر لنا المؤرخ سيف الشملان، بأن حاكم الكويت الأول صباح بن جابر، “كان يشاور أهل الكويت في المهم من الأمور، ولا يقطع أمرا دون استشارتهم”. كما وذكر المؤرخ الشيخ يوسف بن عيسى، بأن حاكم الكويت الثاني عبدالله بن صباح، “كان رجلا حازما، قريبا من الحق، محبا للعدالة، حسن السياسة، لا يبت في أمر إلا بعد مشاورة جماعته، ولا يخالفهم فيما يرونه صوابا”.
وتواصل هذا النهج التقليدي القريب من الشعب لفترات طويلة، وفي بيت الحكم وشيوخه لزمن ليس بالقليل، إلى أن تشكلت مفاهيم سياسية أخرى، نتاج التواجد والتأثير البريطاني في الحكم الكويتي وسياسته المطلوبة. فظهرت إلى العلن (الحياة البرلمانية الدستورية)، الديمقراطية والدستور ومجلس الأمة والاقتراع الانتخابي، بمعزل شبه كامل عن تواجد وتمكين الثقافة الديمقراطية في المجتمع القبلي المتدين البسيط.
ما هو أخطر من الممارسة السياسية الديمقراطية، غياب ثقافتها في المجتمع وعقول الأفراد
ومن يقرأ التاريخ، أو يرى نماذج الدول والمجتمعات المتقدمة، يتأكد تماما بأن ما هو أخطر من الممارسة السياسية الديمقراطية، هو غياب ثقافتها في المجتمع وعقول الأفراد، وخصوصا فيما يتعلق بالحريات الفردية والمواطنة والمساواة وحرية الاعتقاد والعدالة الاجتماعية وتداول السلطة.
وتمثل الممارسة الديمقراطية الكويتية، نقطة الطلاق الأول بين تواصل أسرة الحكم (آل الصباح) مع الشعب الكويتي، بشكلها التقليدي المتوارث. حيث يدخل إلى مجلس حاكم الكويت، في ديوانه أو منزله، العديد من الأفراد ممن لهم مظالم أو ممن يريد الشكوى أو النصيحة أو النقاش حول تجارته ومصالحه، ليستعين بالحاكم، أو ممن معه، في إعطاء النصائح والتوجيهات، كما يكون ديوان الحاكم مقرا لإدارة شؤون المجتمع وعلاقاته مع جيرانه ومع الإنجليز والعثمانيين وغيرهم كما يخبرنا التاريخ القديم للكويت.
وبعد استقلال الكويت في يونيو 1961، وبعد أن ألغت بريطانيا معاهدة الدفاع، واستبدلتها باتفاقية الدفاع والصداقة، أعلن عن إنشاء الدستور الكويتي في عام 1962، الذي جعل من الأمير عبدالله سالم الصباح رئيسا للدولة وللحكومة، كما نص الدستور الكويتي على أن الكويت إمارة وراثية محصورة في الذكور من أبناء مبارك الصباح.
اتخذت الممارسة البرلمانية الكويتية، منذ بدايات مجلس الأمة (استقالة 8 نواب في المجلس الأول 1965) وحتى 2011 (وهو عام اقتحام مجلس الأمة وتخريبه، وما نتج عنه من انقسام سياسي حاد)، اتخذت نهجا حادا في التعامل السياسي مع الحكومات الكويتية، مما ألقى بضوئه على الواقع الاجتماعي والاقتصادي بمختلف التحديات والتراجعات والإخفاقات، وأشعلت التجربة الديمقراطية الكويتية، العديد من حالات الغضب والاستهجان والامتعاض، من وجودها في بعض الأحيان (من قبل دول إقليمية وعربية)، ومن تأثيرها وتخريبها لمفهوم الديمقراطية أحيانا أخرى من قبل آراء بعض المثقفين والكتاب.
ورغم محاولات الحكومة الكويتية بالتدخل في مسار الانتخابات البرلمانية (تزوير انتخابات 1967) لصالح دعم جهود الموالاة سياسيا (يتهم البعض أسرة الحكم وأطراف كبيرة داخلها)، إلا أنها لم تنجح إلا في زيادة الاحتقان وصب الزيت على النار وشراء العديد من الولاءات و الإعلام والصحافيين. كما وتتهم عدة أطراف سياسية واجتماعية أسرة الحكم تحديدا بأنها السبب الرئيسي في إخفاق التجربة الديمقراطية، من خلال تدخلها السياسي ودعمها لبعض المرشحين وتمويلهم ماديا، رغم أن أسرة الحكم، رجالًا ونساءً لا يترشحون لمجلس الأمة كأعضاء برلمان، وذلك بشكل عرفي وليس رسمي ابتعادا عن الإحراج السياسي والتجريح الشخصي.
الموالاة إلى حد الخنوع، هي نقطة الطلاق الثانية بين أسرة الحكم وبين الشعب الكويتي. حيث استمرت، حالة الخنوع لأسرة الحكم، وهنا لا أقصد نفي حالة احترام أسرة الحكم وتقديرها لدى غالبية الشعب الكويتي، وإنما أشير إلى بداية الانقلاب على مفهوم “الشيوخ أبخص”. فلم تعد هناك حاجة أن يكون الشيخ الكويتي أفضل من المواطن الكويتي في مجال الوعي أو الحكمة أو الفهامية أو التعليم، فالكثير يقول بأن المواطن الكويتي عمل ودرس وسافر وتعلم وجرب وقرر وتحدى ونجح بدون مساعدة من شيخ.
لم يعد مقبولا أن يكون بعض الشيوخ اليوم في مناصب يستحقونها لمجرد أنهم أمراء في أسرة الحكم
لم يعد مقبولا أن يكون بعض الشيوخ اليوم في مناصب يستحقونها لمجرد أنهم أمراء في أسرة الحكم. لم يعد مقبولا أيضا أن يتكلم الشيخ والكل يسكت أو يصفق، بل عليه أن يتقبل النقد والمساءلة والمحاسبة (ما عدا أمير البلاد دستوريا). لم يعد اليوم مقبولا أن نحمل في أيدينا دستورا ينادي ويطالب بالمساواة، بينما مجتمعيا نتعايش بطبقية وتمييز وخوف من المواطن الشيخ. لم يعد مقبولا أيضا أن يتوارث المواطن الكويتي تاريخ الكويت، بكل ما فيه من فئوية سابقة (تجارًا وفقراء)، (ذوي بشرة سوداء وبيضاء)، (داخل السور وخارجه)، ويمارسه من جديد، رغم اختلاف الكويت عن السابق، وخصوصا في مجال التعليم والفرص الوظيفية والوفرة الاقتصادية والوعي المفتوح.
عدم محاربة الفساد، والسكوت عن منهجية سرقة الكويت، هي نقطة الطلاق الثالثة بين أسرة الحكم وغالبية الشعب الكويتي. حيث مع تزايد الكشف عن السرقات المليارية من المال العام، وفشل الكثير من المشاريع التنموية، وعدم محاسبة المسؤولين عن الفساد، وإبقاء ملفات البدون وتزوير الجنسية الكويتية ولاجئو الخارج الصادر بحقهم أحكام سجن على خلفية قضايا رأي واقتحام مجلس الأمة، بدون حلول دائمة ونهائية، خلق حالة من عدم الثقة بأسرة الحكم. حيث يعتقد الكثيرون بأن السكوت عن مثل هذه الحالات، إنما هو بفعل تضامن شبه كامل مع منهجية الفساد وتدمير الكويت وسرقتها.
وقد أسهمت الديمقراطية الكويتية، وتلاعب كثير من نواب الأمة بمصالح الشعب وثرواته وهمومه وقضاياه، بإفساد الكويت، ودعم الخط السياسي الفاسد، بل والمساهمة مع بعض الأطراف في السلطة في تأصيل الفساد وتدني مؤشرات الكويت وتخريب الذوق العام وتعطيل التنمية والتعليم.
إن ما ينادي به الشعب الكويتي في غالبيته، ليس في التخلص من أسرة الحكم (الغزو العراقي دليل على التمسك بأسرة آل الصباح)، وإنما في أن تصبح الكويت دولة مؤسسات وقانون ودستور لا تخضع للتدخلات والواسطات وتجاوز المساءلة. أن تصبح الكويت رائدة كما كانت في مجال الثقافة والتعليم والسياسة والرياضة والفنون. أن تصبح الكويت دليلا على إرادة شعب، تجاوز احتلال دولة، وحافظ على مؤسسة ديمقراطية رائدة في المنطقة، وقدم العديد من المكاسب الخارجية، وتفوق في العديد من الجوائز الدولية. أن تصبح الكويت بلدا نظيفا، لا يعاني شعبه من تمييز أو ظلم أو قهر أو حبس بسبب الجنس أو الدين أو العرق أو اللون أو الرأي أو العمل أو الصحة.
اقرأ أيضا: ثمن (الله لا يغير علينا) في الكويت
إن ما ينتظر الكويت، الكثير من العمل الجاد والمخلص والدؤوب. وما ينتظر أسرة الحكم، أن تكون أسرة حكم وليس خيطا في أي ألاعيب سياسية أو تصفيات بين خصوم. وما ينتظر الشعب الكويتي، أن يكون أكثر فهما للديمقراطية، وأفضل شعبا في تمثيل الديمقراطية، وأقدر شعبا على احترام الدستور، وليس في شتم واحتقار أسرة الحكم، أو تحميل أسرة الحكم سبب الفساد والتردي دون تحميل الشعب (إن كنا منصفين) مسؤولية تلك الملفات التي تضخمت بسبب مصالح سياسية، ورغبات فاحشة بالثراء الفاسد وغياب ولاء الوطن والمواطن.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.