باتت نقابة المهن الموسيقية في السنوات الأخيرة من أهم الأذرع الدعائية للنظام الحاكم في مصر، والذراع الأكثر فعالية في قمع الفنانين المستقلين والخارجين عن منظومة الغناء فيها. من جديد تدخل النقابة في معركة جديدة مع مطربين غير مقيدين لديها تلك المرة كانت مع مغني الراب “مروان بابلو” والذي صدر قرار بوقف التعامل معه.
النظام يناقض نفسه
في حفل أقامه مروان بابلو بتاريخ 1 أكتوبر بمركز المنارة الدولي بالتجمع، استضاف مروان مغني الراب الفلسطيني شب جديد في فقرة غنائية ليفاجئ شب جديد الحضور والمُضيف بقوله “مروان يا مروان” في محاكاة غنائية للابتهال الأشهر للشيخ النقشبندي: “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي”، الأمر الذي اعتبرته نقابة المهن الموسيقية تهكما وازدراء لرمز ديني من رموز المجتمع وقررت إيقاف مروان بابلو الذي لم يقل أو يفعل شيئا عن إحياء حفلاته في مصر.
لا تقبل نقابة المهن الموسيقية مغني الراب والمهرجانات ولا تمنحهما عضويتها كونها لا تعترف بتلك الأشكال الموسيقية كفن راق وتتعامل معهم بحالة من استعلاء، لكن هذا لا يمنع النقابة بمنحهم تصريح اليوم الواحد طالما يسددون الرسوم المالية المقررة عليهم والتي تصل لخمسة آلاف جنيها مقابل إحياء مغني مهرجان حفل زفاف، من هنا تُطبق النقابة الخناق على مغني الراب والمهرجانات الذين نالوا شهرتهم عبر الوسائط الرقمية العالمية الخارجة عن سيطرة الدولة كيوتيوب وغيرها من منصات، في النهاية لا يمكن إقامة أو إحياء حفل غنائي داخل مصر دون تصريح من النقابة.
من جهة أخرى يناقض قرار نقابة المهن الموسيقية منع مروان بابلو من الغناء في مصر توجهات الدولة ودعايتها القوية حول تجديد الخطاب الديني وحرية الاعتقاد وفتح المجال العام لمزيد من الحريات خاصة وأن ابتهال النقشبندي مهما علا مقامه في قلوب المصريين مجرد أبيات شعرية من تأليف عبدالفتاح مصطفى وألحان بليغ حمدي وليست آيات قرآنية أو أحاديث نبوية وبالتأكيد ليس أيا من النقشبندي أو عبدالفتاح أو بليغ رمزا دينيا.
ابتهال النقشبندي مهما علا مقامه في قلوب المصريين مجرد أبيات شعرية، ليست آيات قرآنية أو أحاديث نبوية وبالتأكيد ليس أيا من النقشبندي أو بليغ حمدي رمزا دينيا.
بابلو وشب جديد
مروان بابلو مغني ذائع الصيت في فن الراب، ومثير للجدل، وهذا ما يجعله دائم الحضور، حتى في غيابه حين قرر الاعتزال لفترة ما، وكانت أغنية بابلو التي خرجت من شوارع الإسكندرية ومناطقها الشعبية، استطاعت أن تعبر أحلام الجيل الجديد في عهد السيسي، الجيل الذي يحلم “بعيشة من النضيفة” على حد تعبير بابلو في أحد أغانيه، وحينما قرر بابلو الاعتزال والغياب عن الساحة، ظلت جماهير الراب في سنة كاملة من الترقب لعودته، وهو ما حدث بالفعل وكانت تلك الحفلة هي الأولى له بعد اعتزاله، بالمشاركة مع صوت آخر آت من خارج البلاد، ليؤثر فيها ويشكل وعيًا سياسيًّا جديد للشباب، هو صوت شب جديد.
شب جديد فلسطيني يعيش في مدينة القدس الشرقية وراء الجدار العازل للقدس الغربية المحتلة، وتعد منطقة القدس الشرقية من أكثر المناطق في العالم التي تعاني ضيقاً في العيش وندرة فرص العمل، لذلك كانت كلمات شب جديد ومشكلاته، تتشابه كثيراً والشاب العربي في مصر أو تونس أو اليمن، ولكن الشهرة الحقيقية لشب جديد تعود إلى مقطعين قدمهما على موقع يوتيوب، الأول تحت عنوان “أمريكا” وحقق 7 مليون مشاهدة، والآخر “إن أن” وحقق 27 مليون مشاهدة، ليضرب شب جديد أرقام قياسية في الاستماع لأغنية الراب العربية.
تناول شب جديد في أغنيتيه مواضيع سياسية بأسلوب شعبوي، فنجد تمجيداً لصدام حسين مثلاً كشهيد ورمز للعروبة في أغنية أمريكا، ورغم شعبوية أسلوبه، إلا أن الشب قد رمى حجراً في المياه الراكدة لأغنية الراب أو الأغنية السياسية العربية بشكل عام، وأدان بشكل عام الحكام العرب والشعب العربي بوصفهم متواطئين، واستطاعت أغنية “إن أن” التي تقدم صورة اعتزازية بشباب القدس وغزة، أن تكون خلفية موسيقية لأغلبية المقاطع الاستبسالية للمقاومة الفلسطينية في انتفاضات حي الشيخ جراح الأخيرة، وبتلك الحالة، استطاع الشب أن يطرح مواضيع السياسة من جديد، ليدلل على قيمة أغنية الراب، وخطورتها في آن واحد، ويبدو أن مصر ستفتقد حفلات شب جديد بعد الأزمة الأخيرة.
أنكر الأصوات!
أحيانا يغيب الفارق بين الراب والمهرجان عن غير المهتمين بتلك الأشكال الموسيقية، الراب أغنية شعبية، تحمل كلماتها تعبيراً عن هموم الشارع وآمال شبابه وتطلعاته، أما الفارق بينها وبين المهرجان فهو فارق في نوعية الموسيقى المستخدمة لا أكثر، ولكن يدخل النوعان في إطار كونهما أغاني “شوارعية” بالمعنى الإيجابي للكلمة عند أبناء الشارع، والسلبي عند النقابة. حيث تعبر الأغنية عن الشارع ولا تنفصل عن مشاكله في الغالب، وتختلف نوعية المشكلة المعبر عنها وفقاً للهامش السياسي المتاح، ففي المناخ السياسي الحالي، نجد المشكلة الاجتماعية أو الشخصية تحتل مساحة أوسع كثيراً من المشكلة السياسية.
يلتقي النوعان أيضاً، في كون ممارسي ذلك الفن من المغضوب عليهم من السلطات الثقافية الرسمية للأغنية المصرية، أي نقابة المهن الموسيقية -غير المعترف بها من الاتحاد الدولي للموسيقيين- لذلك، ولما تحمله كلماتهم من كلمات صريحة وجريئة وشوارعية، هم بمثابة ثورة ثقافية مضادة دائمة الحضور وفرض نفسها على الساحة والمجتمع، مهما حاولت السلطات تكميم أفواههم.
الراب أغنية شعبية، تحمل كلماتها تعبيراً عن هموم الشارع وآمال شبابه وتطلعاته، أما الفارق بينها وبين المهرجان فهو فارق في نوعية الموسيقى المستخدمة فقط
مكيالا النقابة
تعد المبررات الأخلاقية لموقف النقابة المناهض لتلك الفئة من المطربين واهية، فالنقابة التي لم تتعرض لعمرو دياب أو شيرين أو قامت بوقفهم يوماً واحداً عن العمل في معركتهم الشهيرة عام 2017، والتي شهدت على موقف مشين في عام 2012، حينما طارد عضو مجلس النقابة مصطفى كامل رئيس النقابة إيمان البحر درويش بمسدس داخل مبنى النقابة ولم يُشطب مصطفى كامل أو يمنع من الغناء والذي استطاع أن يكون رئيسها فيما بعد هي نفسها النقابة التي تطارد مغني الراب والمهرجانات على أقل هفوة وتحرمهم من ممارسة فنهم ومهنتهم التي يتربحون منها ويسددون نظيرها ضرائبهم للدولة.
خذ من أموالهم ضريبة
استطاعت تلك الطبقة الفنية الجديدة أن تحرر نفسها مالياً، من القواعد واللوائح المرهقة للنقابة من خلال الربح عبر الإنترنت. يمكن لأي أحد من خلال موقع Social blade إدخال اسم أي قناة يوتيوب أو غيرها لمطرب راب أو مهرجانات أو أي مقدم محتوى لترى حجم الأرباح التي يحققونها من خلال تلك المنصات. هذا النموذج التجاري الجديد، والذي تسعى الدولة حاليا لضبطه ماليا وتحصيل ضرائب الدخل على تلك الأرباح، هذا النموذج العالمي التجاري جعل بعضهم يحصدون المغانم دون الرضوخ لقواعد السوق التقليدي.
ولكن لماذا يتعارض الكسب الحر عبر الإنترنت مع النقابة؟ النقابة لا تجني أي أموال من عائدات هؤلاء المغنين لأنهم ليسوا أعضاء فيها، فوفقاً لكتيب القواعد الداخلي للنقابة البند 8 من المادة 58، فإن النقابة تمول جزئيًا من خلال الضرائب التي يدفعها أعضاؤها، وعائداتهم الموسيقية وأي دخل قد يتلقونه من نشاط موسيقي، وهذا يفسر طلب هاني شاكر رئيس النقابة من وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات زيادة سيطرتها على المحتوى عبر الإنترنت، ولأن هؤلاء المطربين المستقلين يحتاجون إلى إقامة حفلات في بعض الأحيان للاتصال بجماهيرهم، فهم يضطرون للتعامل مع النقابة، ومن هنا تستطيع النقابة أن تحتويهم وتدجنهم، من خلال سياسة العصا والجزرة والتلويح بمنع التعامل، وعموماً هناك السجن والاعتقال كحل أخير، لمن لا يستجيب لتلك السياسة.
ربما تنتهي تلك الإشكالية وتفتح النقابة أبوابها على مصراعيها حين تحصّل الدولة ضريبة الدخل على الأرباح المتحققة عبر الإنترنت، ففي النهاية المصالح المالية تتلاقى ورأس المال ينتصر.