على وقع انقطاع منتجات فيسبوك لمدة تجاوزت ست ساعات، وقفت طويلاً مستغرقاً -يعجبني استخدام هذه الكلمة هنا حيث يصفها الرومي في كتاب فيه ما فيه بأنها تعني الانغماس والاتحاد بالموضوع، ولذا أظنها معبرة- في التفكير بشأن ما الذي يحدث، كنت نائماً كالعادة وصحوت في الساعات الآخيرة للانقطاع لأجد نفسي وحيداً في المنزل أيضاً. جربت إغلاق كاسر الحجب وفتحه مرةً آخرى ولأكثر من مرة. عندما لم تفلح هذه الحيلة كنت قد وصلت لاستنتاج “الأخ الأكبر أغلق فيسبوك نهائياً”، لاحقاً اعتذرت له.
على الرغم من التحليلات التي بدأت أشاهدها كشخصٍ عاديٍ تلاحقه روايات بوليسية وتحليلات المؤامرات التي ملأت تغريدات الجماهير النازحة لتويتر، وقفت أنا بدوري لأتساءل ما الذي حدث، بدأت أقارن الأمر بمشهدٍ سينمائيٍ يصور انهيار الحضارة الإنسانية مع وقوع قنبلةٍ كهرومغناطيسية تقضي على عالم الأتمتة والتقنية، سيتوقف العالم، وبالتأكيد سيتوقف عملي الذي أزاوله عن بعد.
بعيداً عن فانتازية هذا المشهد، كان هنالك في ذهني سؤالٌ ظننت أنه يستحق الطرح في هذه القصة. قبل أن أسأله، هنالك الكثير من أجاب عليه على صفحات التواصل، الكثير تمنى أن يغلق الفيسبوك نهائياً، آخرون تمنوا أن يلحق به تطبيق تويتر وبقية وسائل التواصل الاجتماعية. السؤال هو، ما الذي يمكن أن يحدث لو اختفت وسائل التواصل الاجتماعي؟
ذات يوم، وكأن رأيي مهماً، شاركت في استطلاع لفيسبوك أردت أن أعترض فيه على معايير المجتمع. واجهني سؤالٌ في ختام هذا الاستبيان يقول: “هل ترى أن فيسبوك مهمٌ للعالم؟”. سؤالٌ تتعقد إجابته، وهو ذاته السؤال الذي تطرحه قصة وسائل التواصل الاجتماعي، ما الذي يمكن أن يحدث إذا ما اختفت وسائل التواصل الاجتماعي؟
هل ترى أن فيسبوك مهمٌ للعالم؟ وما الذي يمكن أن يحدث إذا ما اختفت وسائل التواصل الاجتماعي؟
محاولة للإجابة
مع فائض الوقت، واستمرار انقطاع وسائل التواصل، بدأت أفكر بأننا كنا نعيش قبل أن توجد وسائل التواصل الاجتماعي، وفعل أسلافنا ذلك قبل وجود الإنترنت. لم أكتفِ عند هذا الحد واستدعيت هراري، كان بودي أن أقدم له شيئاً ولكنني لم أكن قد تناولت شيئاً حينها، ولذا قررت الحديث معه على الناشف. يقول هراري بأن إنسان اليوم عاجزٌ عن أن يعيش نمط الإنسان الجامع ما قبل مجتمع الثورة الزراعية. الغابة لم تعد منزلنا. وأظنني أوافقه الأمر، خرجت مرةً للتخييم وفشلت في إيقاد الحطب وعدت مباشرةً في اليوم التالي.
في التسعينيات، كانت الثورة الجديدة على الأبواب، عالمٌ أكثر قرباً. كانت ثورة الإنترنت، وفي العقد الأول من الألفية كانت ثورة التواصل الاجتماعي على الأبواب. سلسلةٌ من الثورات التي تلمس تأثيراتها أنماط حياتنا، وتحقق ذات الفرضية التي طرحها هراري في تاريخ الإنسان العاقل. بدأت أتساءل أيضاً “هل نستطيع العيش كما هو الحال عليه قبل أي من هذه الثورات؟ أم أن متلازمة عجز العودة للوراء (ما قبل الثورة) تنطبق على كل تحولات الحضارة الإنسانية؟
قلت لنفسي: “لمَ لا أناقش الأمر عكسياً؟ سأقلب الأسئلة لأعرف ما الذي سأفقده أو يفقده العالم إذا ما اختفت وسائل التواصل الاجتماعي يوماً ما. سيكون السؤال الآن “ما الذي أضافته وسائل التواصل الاجتماعي للعالم؟ لماذا هي مهمة للعالم كما تدعي منصات التواصل؟”
ما الذي أضافته وسائل التواصل الاجتماعي؟
في دراسة لـ”ريجينا سالانوفا”، باحثة في معهد كتلان الدولي في برشلونة، في العام 2012 تناقش تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في التحولات السياسية في مصر وتونس في تجربة الربيع العربي، خلصت لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي الحاسم في التحولات الاجتماعية والمشاركة في الشأن العام للشعوب، إذ لعبت دوراً بديلاً لوسائل الإعلام وأسهمت في صناعة تشكيلاتٍ ثورية واسعة يسهل التواصل فيما بينها في كلا البلدين المستهدفين في الدراسة.
إذن حرية الرأي والتعبير، أن يجد كل شخصٍ صحيفةً يكتب فيها ما يريد أن يكتب ويعبر عن رأيه. لن يكون هناك رئيس تحرير أو مباحث أمنية تحتاج لموافقتها قبل أن تنشر ما تريد. كانت هذه النتيجة الأولى التي توصلت إليها وأنا لم أنهض بعد من على السرير وأسجل الملاحظات على الهاتف.
وسائل إعلام بديلة
مع تطور تقنية الهواتف الذكية ووصولها للطبقات الأدنى من المستخدمين واستمرار تطورها، أصبح جمهور التواصل الاجتماعي أوسع مما هو عليه وإمكانية وصول أي شخصٍ له أكثر سهولة. لا أحتاج لصحيفةٍ لأكتب عليها، بإمكاني أن أصبح صحيفةً كاملة، سأكتب عشرات المنشورات وأغرد عشرات التصريحات وأتحدث عن كل ما أريد. يمكنني أن أهنئ صديقي بخطوبته أمام العالم دون أي تكاليف. والأهم لن أحتاج لنشر صورتي على عمود التعارف في الصحف لأصادق فتاةً ما، فالماسنجر مجاني وأكثر خصوصية.
لقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي طبيعة العمل الإعلامي ورفعت من مستواه، كما أنها كسرت احتكار السلطة السياسية لوسائل الإعلام
بدأت أتحدث بجديةٍ مع نفسي. لقد غيرت وسائل التواصل الاجتماعي طبيعة العمل الإعلامي ورفعت من مستواه، كما أنها كسرت احتكار السلطة السياسية لوسائل الإعلام وسيطرتها على الخطاب العام وتوجيه الرأي العام وأصبح بإمكان أي ساذجٍ أو حاذقٍ أن يوجه الرأي العام. لم تعد الجزيرة منبر من لا منبر له كما تدعي، وأصبحت منصات التواصل منبر الجميع.
ماذا عن الاقتصاد؟
أشعلت سيجارةً وبدأت أتابع الأخبار، كانت خسارات زوكيربيرغ أول ما لفت انتباهي. بدأت أتقمص مارك واكتشفت أن خسارة مليارديرٍ لملايين الدولارات أو مليارات الدولارات بسبب خللٍ تقني شعورٌ سيئٌ حقاً. من هنا من “مواطن” أعلن تضامني معه في هذا المقال.
جوجل ما زال موجوداً، قرأت بعد البحث بأن منصة يوتيوب تقدم نسبة 58% من صافي أرباح الإعلانات لصانعي المحتوى على المنصة فيما تكتفي الشركة بنسبة 42%، لا أعلم لماذا حضرت لحية ماركس النورانية وهو يبتسم في هذه اللحظة. بعد بحث وجدت بأن أرباح يوتيوب لعام 2020 بلغت 46 مليار دولار، هذا يعني بأن صانعي المحتوى حصلوا على ما يقارب ثمانيةً وخمسين مليار دولار، قلت تقريباً لأنني لست جيداً في الرياضيات في هذه المرحلة من العمر. هذا الرقم يعني موازنة اليمن لستة سنوات قبل الحرب.
هذا الرقم يكبر سنوياً، واختفاء منصة تواصل اجتماعي كيوتيوب يعني اختفاء هذا الرقم، وبالتالي اختفاء مصادر دخلٍ لمعتوهٍ يمنيٍ يتحصل على ملايين المشاهدات يومياً من مقاطع الشتائم التي ينشرها على المنصة. لن أشاهد الدحيح أو أحمد سعد زايد، كما ستتوقف مصادر دخلهم من هذه المنصة كذلك. لا تعرفون كم أن هذا أمرٌ مؤسفٌ بالنسبة لشخصٍ مثلي أنا لا ينتج محتوًى على يوتيوب. أنا أعني ذلك.
العالم أصغر
في رواية محمود ياسين، تبادل الهزء بين رجل وماضيه، كان هنالك شخصٌ يدعى عبدالرحيم ويلقب بصديق نساء المغتربين، وكان يؤدي دوراً أشبه بدور فلورنتينو في “الحب في زمن الكوليرا” كقارئٍ بين نساءٍ لا يجدن القراءة والكتابة ويردن كتابة الرسائل لأزواجهن المغتربين في الخليج. لاحقاً كانت التقنية قد وجدت حلاً من استغلال عبدالرحيم وفلورنتينو. إنه شريط التسجيل، يسجل فيه المغتربون رسائلهم لزوجاتهم ويسجلن بدورهن رسائلهن على الوجه الآخر من الشريط. لقد حلت شرائط التسجيل هذه المشكلة، لكن ما زالت مشكلة الوقت عائقاً، إذ تستغرق شرائط التسجيل وقتاً طويلاً في السفر والتنقل بين البلدان، كما أنها لا تتمتع بخصوصية، إذ يمكن للرسل أن يستمعوا لمحتوى التسجيلات قبل وصولها لأصحابها. قدمت وسائل التواصل الاجتماعي الحل.
كمغتربٍ في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أستطيع التواصل مع عائلتي بالصوت والصورة في أي وقتٍ أرغب بذلك. غمرتني مشاعر الامتنان وأنا أفكر بذلك. سأتحدث لساعات مطولة وأتبادل النكات مع والدي ونمارس الكثير من الغيبة والنميمة، وأوجه الكثير من النصائح لإخوتي الصغار من شخصٍ لا يفقه شيئاً في هذه الحياة على تطبيق جوجل ميت، كما أنني أقضي ساعاتٍ كثيرة في اتصالٍ واحد مع صديقي الشاعر والكاتب فارس العلي نناقش فيها مأزق هوسرل في محاولته تفسير ظواهر بلادنا العظيمة.
الوصول للمعلومة
كشخصٍ كسولٍ يعتبر حضور محاضرات الجامعة قبل أن تحذف من قائمة مواد الترم، كان كوفيد 19 بمثابة هديةٍ في عصر التواصل الاجتماعي، استطعت أن أنهي الترم الأخير من مرحلة البكالوريوس وأنا ممددٌ على أريكة غرفتي نائماً وحاضراً للمحاضرة عبر برامج التواصل الاجتماعي. امتناني الآن أكبر وأنا أفكر بذلك.
قبل أيام، اتصل بي أخي يطلب مني أن أدرس معه لامتحان اللغة العربية، قلت في نفسي: “يا لهذا الترف الذي يعيشه هذا الصغير”. كان مقطعان على اليوتيوب كافيان لإخراجي من هذا المأزق. أرسلتهما له عبر الواتساب وقلت له شاهدهما إنهما أفضل مما يمكن أن أفعله لك. اغرورقت عيناي بدموع الامتنان. جميلةٌ كلمة اغرورقت. كنت أشعل سيجارةً أخرى وأستغرق أكثر في التفكير، حتى لو عادت وسائل التواصل فلن ينقطع حبل التفكير هذا، هنالك أسئلةٌ وجودية تشغلني. فجأةً وصلني إشعار على الهاتف: “محمد هلال أضاف منشوراً”. لقد عاد الفيسبوك، عاد العالم من جديد.
فتحت التطبيق وفتحت صفحة صديقي هلال، كان المنشور يقول: “خسرت البشرية في السبع ساعات الماضية، كماً عظيماً من الآراء العظيمة التي سيكتبها المستخدمون على صفحاتهم في فيسبوك”. لن يثنيني ذلك أيضاً عن استمراري في التفكير، هذه ظاهرةٌ تستحق الدراسة. ما الذي سيحدث إن اختفت وسائل التواصل الاجتماعي؟ سيختفي كل هذا الذي تحدثت عنه والكثير أيضاً مما سأتحدث عنه.
اقرأ أيضا: ”الصحافة الرقمية هي رهان المستقبل“
لاحقاً، كانت حبال التفكير تطول وأنا أستغرق، سمعت مفتاح باب الشقة. كانت شيماء زوجتي قد عادت حاملةً كعكةً لتحتفل بالذكرى الثامنة والعشرين لأول خازوقٍ لي في هذا العالم. دخلت تشتكي من واتساب إذ كان رصيدها كالعادة قد انتهى وواتساب لا يعمل، كانت غاضبةً وكأني أنا من فصل قابس شركة فيسبوك. صحوت من استغراقي في التفكير وبدأت أغني مع ابنتي فطوم التي كانت تظن أن الاحتفال خاص بعيد ميلادها هي، “هابي بيرث داي تو يو”.