بينما كانت جماعة الإخوان المسلمين في أوج حضورها السياسي والاجتماعي في الفترة من 2005 إلى 2010 عبر مئات من ممثليها في مجلس الشعب، والنقابات المهنية، والتنظيمات الطلابية بالجامعات، كان الصحفي والباحث المصري حسام تمام (1972-2011) يركز في كتابته على رصد وتحليل التغيرات والصراعات والتحديات التي تعيشها الجماعة على المستوى العقائدي والتنظيمي.
الجماعة التي طالما روجت صورة قوية ومثالية عن قدرتها على العمل الدعوي والسياسي، ظهرت في كتابات حسام تمام كتنظيم يوشك على الانقراض، محاصر بأزمات كبيرة داخليًا وخارجيًا تُنبئ بتفكك أيديولوجية الجماعة، وهو حديث بدا صادمًا لبعضهم ومبالغًا في تقديره للموقف وقراءته للمشهد في حينها.
“تعيش حركة الإخوان المسلمين حالة تحول تعاني جراءها مخاض تغيرات كبرى وجوهرية تخرج بها من حالة السكون أو الجمود التي اعتادها منظار كثير من الباحثين والمراقبين، كما أنها تخرج أيضا عند حالة الثبات التي تسيطر على الخيال الإخواني فتحيله إلى صورة طوباوية عند الجماعة الصامدة، إنها حالة تحوّل تجعلنا حين التدقيق بإزاء حركة إخوان أخرى غير التي كنا نعرفها قبل عقدين أو ثلاثة”.
بهذه الكلمات افتتح تمام كتابه “تحولات الإخوان المسلمين.. تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم” الصادر في طبعته الثانية عن مكتبة مدبولي بالقاهرة عام 2010، مشيرًا إلى حجم التغيرات والصراعات الكبيرة التي تعيشها الجماعة منذ تسعينيات القرن العشرين وتجلياتها مع السنوات الأولى للألفية الجديدة، لدرجة جعلته يرى أننا بصدد جماعة أخرى.
"تعيش حركة الإخوان المسلمين حالة تحول تعاني جراءها مخاض تغيرات كبرى وجوهرية تخرج بها من حالة السكون أو الجمود التي اعتادها منظار كثير من الباحثين والمراقبين، كما أنها تخرج أيضا عند حالة الثبات التي تسيطر على الخيال الإخواني فتحيله إلى صورة طوباوية عند الجماعة الصامدة، إنها حالة تحوّل تجعلنا حين التدقيق بإزاء حركة إخوان أخرى غير التي كنا نعرفها قبل عقدين أو ثلاثة".
حسام تمام Tweet
تحقيق النبوءة
حسام تمام الذي رحل عن عالمنا في 26 أكتوبر عام 2011، تحققت نبوءته سريعًا، فبينما ظنت الجماعة أن الأرض أخذت زُخرفها وازينت لقادتها بوصولهم لسدة الحكم في مصر وتونس، وظنوا أنهم قادرون عليها، جاءت النهاية والانهيار الكبير، وعكس ما بدا من كون تلك النهاية ناتجة عن تداعيات خارجة عن الجماعة سواء عبر صدام الجماعة مع شركاء ثورة 25 يناير أو مؤسسات الدولة المصرية فقط، إلا أن صراعات الجماعة الداخلية المتراكمة منذ سنوات لعبت دورًا بارزًا في السقوط المدوي للجماعة.
تميزت كتابات تمام بتعامله مع التنظيمات الإسلامية الحركية في سياق أوسع من المسألة العقائدية أو التنظيمية، انطلاقًا من الإطار المجتمعي بتمثلاته السياسية والاقتصادية والمعرفية، مشيرًا إلى أن هذه الجماعات والتنظيمات هي نتاج لمجتمعاتها، ورغم تركيز تمام في كتابته على جماعة الإخوان باعتبارها التنظيم الأكبر والأكثر فاعلية، إلا أنه لم يغفل باقي الحركات والتنظيمات التي أثرت وتأثرت بالإخوان ومن أبرزها التنظيمات السلفية الوهابية والجماعة الإسلامية.
موضحًا أن التغيرات التي عاشتها جماعة الإخوان في سنوات ما قبل الثورة، تتسم بسمتين أساسيتين وهما:
في مجملها تغيرات غير واعية أو مخطط لها مسبقا، بقدر ما هي أقرب إلى التغيير الذاتي الذي يجري وفق منطق الصيرورة الاجتماعية، وهو منطق تسبق فيه الحركة التنظير.
رغم أن معظم هذه التغيرات وليدة الدخول الكثيف للجماعة في الحقل السياسي والعمل العام، لكنها تجاوزت المجال السياسي لتنتقل بتأثيراتها إلى كل مسارات الجماعة مشروعا وتنظيما وأفرادا بل وروحا.
مشيرًا إلى حالة الانفصام بين الخطاب والفعل التي تعاني منها الجماعة، فبينما مارست جماعة الإخوان أفعالًا سياسية تنتمي إلى لحظة الدولة الوطنية الحديثة عبر المشاركة في الانتخابات في البرلمان والجامعات والنقابات، لكن ظل إطارها الفكري والتربوي قائمًا على تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمي إلى ما قبل ظهور الدولة القومية، وحتى عندما تضطر الجماعة لمراجعة خطابها فإنها تقوم بذلك تحت حرج اللحظة وضغط الخصوم وليس عن قناعة ذاتية.
تميزت كتابات تمام بتعامله مع التنظيمات الإسلامية الحركية في سياق أوسع من المسألة العقائدية أو التنظيمية، انطلاقًا من الإطار المجتمعي بتمثلاته السياسية والاقتصادية والمعرفية
سلفية الإخوان
واحدة من الظواهر البارزة التي رصدها تمام في تتبعه لمسيرة جماعة الإخوان هي ظاهرة “تسلف الإخوان” وقد أصدر بحثًا مفصلًا عن هذه الظاهرة ضمن سلسلة “مراصد” التابعة لمكتبة الإسكندرية عام 2010، ونشر أيضًا هذا البحث ضمن كتاب “جماعة الإخوان سنوات ما قبل الثورة” الصادر عن دار الشروق، يشير في مقدمته إلى أن المكون “السلفي” حاضر منذ تأسيس الجماعة، فالإخوان المسلمون في رؤية حسن البنا هي: “دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية”.
موضحًا أن سلفية حسن البنا تختلف عن السلفية الوهابية؛ من حيث إنها تضم كل المكونات الثقافية للمجتمع، فضلًا عن روحها الصوفية الحاضرة بقوة في البناء التنظيمي للجماعة، ومقررات التربية في الحركة، مشيرًا إلى أن جماعة الإخوان بدت في سنوات التأسيس الأولى وريثة للسلفية الإصلاحية التي كان الشيخ رشيد رضا أبرز رموزها قبل تلك الفترة، لكنها سلفية جامعة وتجميعية تقع في أقصى مناطق المرونة، كما أن ظروف البيئة المحيطة لعبت دورًا بارزا في بلورة اتجاه السلفية الإخوانية نحو طابع عروبي إسلامي جامع لا ينفي أن في الأمة مكونات مختلفة قابلة للاستيعاب، وهذا ما كان البنا يدركه جيدًا.
لكن صدام الجماعة مع النظام الناصري وتعرضهم للسجن، وهجرة كثير من قياداتها لدول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، نتج عنه تغير في بنية الجماعة وميل قوي نحو السلفية الوهابية، وفي فترة السبعينيات ومع ميلاد حركة إسلامية جديدة بتوجه سلفي واضح مدعومة بأموال الخليج ومزاج مجتمعي غارق في الثقافة الاستهلاكية والتدين الظاهري، اندفعت الجماعة نحو السلفية الوهابية.
تحت عنوان “ترييف الجماعة” يشير تمام إلى أن الجماعة شهدت في العقود الثلاث الماضية حالة من “الترييف” دفعت بقوة نحو مزيد من السلفية الوهابية “لقد تراجع (أفندية) حسن البنا الذين تولوا إدارة الجماعة تاريخيا مثل حسن الهضيبي وعمر التلمساني وحسن عشماوي ومنير الدلة وعبدالقادر حلمي وفريد عبدالخالق، تواروا لمصلحة الريفيين الذين تقدموا لاحتلال الصفوف الأولى حتى داخل القاهرة مثل محمد مرسي، وسعد الكتاتني وغيرهم”، موضحًا أن هذا التغير صاحبه عدم الاهتمام بالثقافة والتقاليد القانونية واستدعاء ثقافة القبيلة وروابط الدم.
مشيرًا إلى أنه مع انتقال الإخوان من الدعوة السلفية الاصلاحية والتوفيقية إلى السلفية والوهابية، بدأ الاهتمام بمسألة الهدى الظاهر، كما ظهرت الالتباسات السلفية في أزمات ملاحقة الكتب والأعمال الفنية والرقابة الأخلاقية: “يعكس هذا تحولاً طال الأرثوذكسية الإخوانية التي انتقلت من استعادة الهوية الإسلامية في مواجهة الوافد الغربي في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين نحو مفهوم الحاكمية في مواجهة الدولة والمجتمع في السبعينيات، قبل أن تتجه نحو التركيز على فكرة الدفاع عن الأخلاق العامة من داخل مؤسسات النظام في التسعينيات ووصولاً إلى أرثوذكسية سلفية مفارقة للثقافة وللمجتمع على نحو ما يحدث اليوم”.
خلص تمام في بحثه إلى أن جماعة الإخوان رغم هذه التغيرات السلفية الأكثر انغلاقًا على المستوى العقائدي والتنظيمي، لكنهم على المستوى الاقتصادي أصبحوا جزءًا رئيسيًا وفاعلًا في منظومة الثقافة الاستهلاكية، عبر شركاتهم القائمة على الوساطة والربح السريع، وهذا التغير وضع الجماعة في مواجهة تحدي التفاوت الطبقي بين أعضائها وبعض القيادات التي جمعت ثروة كبيرة في سنوات معدودة، فضلًا عن تضارب المصالح بين الدعوة والمال، والمصلحة الشخصية والعامة، بالإضافة لتماهي رجال أعمال الجماعة مع السياسات الاقتصادية الحاكمة، وعدم قدرتهم على تقديم بديل اقتصادي أو اجتماعي يتيح حياة أفضل للمواطن المصري.
حسام تمام صحفي وباحث متخصص في شؤون الإسلام السياسي، شغل منصب مدير تحرير قطاع الحركات الإسلامية في موقع «إسلام أون لاين»، وصدرت له كتب وترجمات عدة في الحركات الإسلامية أبرزها: «مع الحركات الإسلامية في العالم: رموز وتجارب وأفكار”