لم يتخيل أهل قرية طماي الزهايرة، التابعة لمدينة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية (شمال شرق الدلتا بمصر)، أن الطفلة الصغيرة (أم كلثوم)، ابنة الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي، مؤذن مسجد القرية، منشد التواشيح الدينية، التي حفظت القصائد من والدها وأتقنتها حتى أجبرته على اصطحابها معه في الحفلات التي يحضرها في القرى المجاورة، ستصبح يوما ما “كوكب الشرق” أو سيدة الغناء العربي، وتنال هذه الشهرة الواسعة التي لا تهتز مهما مر عليها من زمن.
لم يكن طريق المجد سهلا كما يتخيل بعضهم، فالطفلة الصغيرة لاقت من المتاعب والعناء الكثير، حتى وصلت إلى هذه المكانة العالية، وكما هو المعتاد بالنسبة لأهل مصر، وخاصة في الزمن الماضي، لا بد أن ينتقل كل صاحب فكر أو موهبة إلى العاصمة (القاهرة)، فكان هذا الحلم يراود أم كلثوم في صغرها، حتى جاءت اللحظة المنتظرة، لكنها في الوقت ذاته، حملت صدمة قوية للصغيرة؛ إذ وجدت نفسها محبوسة في بدروم قصر مع الخدم! فماذا حدث؟
حبس أم كلثوم مع الخدم!
أجرى الكاتب الصحافي محمود عوض، عدة حوارات مع الراحلة أم كلثوم، كشفت فيها عن بعض الخبايا، جمعها في مؤلف بعنوان “أم كلثوم التي لا يعرفها أحد، وتكشف بنفسها عن تفاصيل هذه الواقعة، قائلة: “اكتشفت أن هناك مدينة جديدة اسمها القاهرة، اكتشفتها بمحض الصدفة؛ فقد حدث في أثناء حديث عابر بين الثري عز الدين يكن وناظر عزبته، أن قال صاحب العزبة إنه سيقيم في قصره بحلوان (أقصى جنوب القاهرة) كعادته كل عام احتفالا بليلة المعراج، فقال ناظر العزبة: (والله عندنا بنت صوتها حلو)، فقال صاحب العزبة: هاتها تغني لنا)”.
كانت تلك هي الفرصة التي تنتظرها أم كلثوم؛ إذ كانت تريد الغناء في حفلة بمصر يحضرها الأعيان والأكابر، بحسب حنفي المحلاوي، في مؤلفه “عبد الناصر وأم كلثوم علاقة خاصة جدا”، الذي يؤكد أنها “على الفور ألغت اتفاقا لإحياء أحد الأفراح بمدينة المنصورة (أكبر مدن محافظة الدقهلية)، كما رفضت تحديد أجرها مقابل السفر إلى القاهرة”.
مسحت بقدمي الصغيرتين القُطر المصري، قرية قرية.. قبل أن أضعهُما في القاهرة
أم كلثوم Tweet
وبالفعل سافرت أم كلثوم إلى القاهرة بصحبة والدها وشقيقها خالد، ويشير “المحلاوي”، وكان حنطور البيه بانتظارها على باب محطة القطار، وتقول كوكب الشرق في حديثها مع محمود عوض: “وسافرنا مع ناظر العزبة لأول مرة إلى القاهرة، وذهبنا إلى قصر عز الدين بك يكن، وخرج صاحب القصر لاستقبالنا”، لكن حدث ما لم يكن يتوقع.
وتكشف سيدة الغناء العربي، ما جرى بقولها: “نظر لي من تحت إلى فوق عدة مرات، ثم سأل في دهشة: (هي دي اللي هتقرأ في المولد؟)”، مؤكدة: “ولما هز ناظر العزبة رأسه موافقا صاح عز الدين بك: ايه لعب العيال ده، بلاش كلام فارغ، انزل مصر حالا، وروحوا هاتوا الشيخ إسماعيل سكر (أحد كبار المشايخ والمبتهلين آنذاك)، يحيي لنا الحفلة!، ووضعونا مع الخدم في البدروم، ولم أدهش من هذه المعاملة، ولم أشعر بأي إهانة لحقتنا، وجلسنا الساعات في البدروم، والشيخ إسماعيل سكر يغني للمدعوين”.
وتتفق رواية نعمات أحمد فؤاد مع ذلك؛ إذ تنقل على لسان أم كلثوم في مؤلفها “أم كلثوم وعصر الفن”، قولها: “فأنزلوني مع والدي وأخي إلى بدروم المنزل وأرسل البك يستدعي الشيخ إسماعيل سكر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة السهرة، ولم أشعر بأي إهانة لهذه المعاملة نظرا لصغر سني”.
لكن يخالف الكاتب سعيد الشحات، الروايتين السابقتين؛ إذ يقول في مؤلفه “أم كلثوم وحكام مصر”: “قضت أم كلثوم ليلة رهيبة في بدروم القصر تبكي، ولما أبلغ الخدم زوجة عز الدين ببكائها نزلت إلى البدروم، فارتمت أم كلثوم في أحضانها، وتتذكر ما قالته لها: (حرام كده نتحبس هنا.. طيب سيبونا نروح ما دام مفيش ليلة.. أعمل إيه حظي كده.. وأنا يا ست قد إيه كنت واضعة أمل في الليلة بتاعتكم دي.. كنت باقول في السكة لأبويا وأنا جايه إن السعد مواعدنا الليلة.. بعد المعازيم الكبار ما يسمعوني لكن ربنا يمكن له حكمة في اللي حصل)”.
ويشير “الشحات” إلى أن زوجة عز الدين يكن، ربتت على كتف أم كلثوم، وأحاطتها بذراعيها هامسة بصوت لا يسمعه إلا من في البدروم، قائلة: “إنت صعبانة عليه خالص والنبي”، وكشفت لها عن سبب رفض عز الدين يكن غنائها: “أصل عز بيه يا بنتي كان فاكرك مبهرجة زي الستات اللي بيغنوا في مصر”.
"احنا ناس بتوع ربنا"
عرفت الصغيرة التي تربت في بيت فلاح مصري، السبب الذي منعها من الغناء، فما كان منها إلا أن نظرت إلى زوجة البك وهي بين أحضانها، وقالت بصوت خافت: “أنا يا ست هانم غير دول.. أنا عايشة في الفلاحين.. ما أقدرش اتبهرج.. وألبس غير الحشمة.. احنا ناس بتوع ربنا.. بندور على لقمة العيش بعرقنا.. اللي جاي يدوب على قد اللي رايح.. إنتي عارفة يا ست هانم إن أهلي ما كانوش عايزني أغني وكان ليهم شروط، وكان أبويا منفذها قبل ما يقولوها.. شروطهم إني أكون كده.. بسيطة.. عادية.. غير مبهرجة.. وصحيح إزاي ألبس (أفرنجي)، وأنا بمدح وأقول التواشيح”.
ويؤكد سعيد الشحات أنه بعد هذه الكلمات، رق قلب الزوجة لأم كلثوم، وطلبت منها الغناء، فغنت قصيدة “سبحان من أرسله رحمة لكل من يسمع ويبصر”، وخرجت زوجة (البيه) والدموع تبلل خديها، ونجحت محاولاتها في إقناع زوجها لسماع هذا الصوت النادر.
ويكشف جورج خوري، رواية ثالثة في هذه الواقعة، يتفق فيها مع “الشحات” في بكاء الصغيرة داخل البدروم؛ إذ يقول في مؤلفه “حكايتي مع أم كلثوم”، على لسان الست أيضا: “وانكمشت في بدروم القصر مع أفراد فرقتي أبكي، إلى أن جاء الشيخ سكر، وقدم الوصلة الأولى، وأثناء الاستراحة هبطت زوجة عز الدين يكن بك إلى البدروم واستدعتني للغناء في السلاملك المخصص للرجال حتى يحين موعد الوصلة الثانية للمطرب الشيخ”.
وبحسب رواية محمود عوض، التي تتفق معها رتيبة الحفني في مؤلفها “معجزة الغناء العربي أم كلثوم”: “اطمأن صاحب الحفلة على نجاح حفلته، وبعدها قال الثري عز الدين يكن للخادم: (هاتوا البنت تغني.. ونشوف هتقول ايه!)”.
وهنا تقول نعمات فؤاد، نقلا عن السيدة أم كلثوم: “وعند منتصف الليل عرض عز الدين بك على أصدقائه ومدعويه فكرة استدعائي ولو للتجربة، لعل وعسى، فقبلوا الفكرة، وصعدت إلى الدار مسرعة من فرط السرور وظهرنا أخيرا على وش الدنيا”.
خرجت أم كلثوم ومن معها من البدروم إلى الدور الأول، وصعدت إلى كنبة (مثل كرسي خشبي)، وبدأت تغني، وطلب الحاضرون منها أن تعيد على أسماعهم ما غنته عدة مرات، ومنهم الشيخ إسماعيل سكر نفسه.
وتتحدث أم كلثوم عن نفسها في هذا الموقف، فتقول كما نقلت نعمات فؤاد: “غنيت بكل جرأة وانطلق صوتي كالصاروخ، مندفعا في ردهات الدار، ولا أحب وصف ما تملك الناس من طرب في تلك الليلة ويكفي أن الشيخ إسماعيل سكر الذي جاء لإنقاذ الليلة كان الواسطة لدي في إجابة طلبات (أعد وكمان، أي إعادة الغناء أكثر من مرة)”.
أما عز الدين يكن نفسه، فكما يقول سعيد الشحات: “لما استمع إليها توجه إليها وقال لها: (حقك عليا يا ابنتي.. سامحيني علشان خاطر النبي.. أنا هعوض لك كل اللي حصل.. هاديكي زي ما أنت عايزة… أنت تستاهلي مال قارون).
ولم ترحل أم كلثوم مباشرة، لكن بحسب حديثها مع محمود عوض، جاءها أحد الخدم، قائلا: “الست عاوزة تشوف البنت في الحرملك (المكان الخاص بزوجة صاحب القصر)”، وهذا ما ذكرته نعمات فؤاد أيضا.
وأيا كانت الرواية الأكثر صحة، فهذا لا يضر، فالحقيقة المسلم بها أن الحادثة قد وقعت بالفعل، وإنما جاء الاختلاف على تفاصيل بسيطة داخلها، بكت أم كلثوم أم كان الأمر عاديا بالنسبة لها، ومن كان صاحب استدعائها عز الدين يكن أم زوجته، وهذا لن يقلل من الجوهر ذاته.
القاهرة بلد العجائب: تتكلم فيها الغربان
بالفعل صعدت أم كلثوم إلى الحرملك برفقة شقيقها خالد، وكما تقول: “وأدخلونا صالونا كبيرا مليئا بالأثاث الفاخر، وسمعنا صوتا يقول لنا: (اتفضلوا)، والتفتنا نبحث عن مصدر الصوت، فلم نر أحدا في الصالون، وعاد الصوت يقول لنا: (اتفضلوا.. اتفضلوا)، وعدنا نبحث عن صاحب هذا الصوت في أرجاء الصالون، وعاد الصوت يقول: (اتفضلوا.. اتفضلوا.. اتفضلوا)، وهنا رأينا صاحب الصوت.. إنه طائر في قفص!، وأصبت بالفزع وصرخت: غراب يتكلم! غراب يتكلم!”.
خافت ابنة القرية الريفية البسيطة، وخرجت من الصالون مع شقيقها في فزع، واصطدمت عند الباب بزوجة عز الدين بك يكن، وكانت حينها ترتجف من شدة الخوف، وراحت السيدة تهدئ من روعها، وتسألها عن سبب فزعها، توضح سيدة الغناء العربي: “رحت أصرخ: غراب.. غراب يتكلم!، وضحكت صاحبة البيت وقالت لي إنه ليس غرابا.. إنه ببغاء.. والببغاوات تتكلم!”.
وتختتم أم كلثوم حديثها عن هذه الواقعة، بقولها: “وعدت إلى قريتي أحدث أصدقائي وصديقاتي عن القاهرة، بلد العجائب، إنها البلد التي تتكلم فيها الغربان!”.
ويشير الكاتب سعيد الشحات إلى أن هذه الواقعة كانت عام 1917، أما حفني المحلاوي فذكر أنها وقعت في عام 1923، وبحسب المؤلف الأول، ظلت أم كلثوم تردد هذا الحادث طوال حياتها؛ لأنه فتح لها عالمًا آخر، وكان العقد في هذه الليلة ينص على أن تتقاضى ثلاثة جنيهات، خلاف مصاريف الانتقال، وحال تأخرها سوف يدفع والدها عشرة جنيهات غرامة، مؤكدا: “الإعجاب الذي حظيت به ممن استمعوا لها في قصر عز الدين يكن، منحها المزيد من الثقة، خاصة أن ليلتها هذه جاءت بعد رفض توسلاتها بالغناء، وعلى كل حال كانت مثل هذه التجارب بمثابة تعبيد (تمهيد) للأرض التي تسير عليها أم كلثوم نحو محطتها للحلم، وهي محطة الانتقال إلى القاهرة”.
وتنقل رتيبة الحفني ما قالته كوكب الشرق بنفسها عن ذلك؛ إذ تؤكد: “مسحت بقدمي الصغيرتين القطر المصري، قرية قرية.. قبل أن أضع قدمي في القاهرة”.