كتابة السيرة الذاتية مُهمةٌ عسيرة، وكذلك لون أدبي يقوم المؤلف أو الأديب بالتفكير عدة مرات يصاحبها تردد وقلق قبل أن يساوره ذاك اليقين لكي يبدأ بالعمل على مثل القالب الأدبي. إنها اللحظات التي يستدعي فيها الإنسان أناه، فيتأملها ويقلبها ويفككها ويركبها لتجود له بالتفاصيل والأحداث والشذور واليوميات. فالسيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية ما هي إلا عملية انتقاء من الذاكرة لما تطيب أن تكتبه الأقلام. وبالطبع قد يكون هذا القلم انتهازياً مخادعاً فيذكر أحداثاً بعينها لتخدم غرض تأليفه لتلك السيرة، وتراه يغض طرفه عن نواقص النفس وهفواتها، وقد يكون نرجسياً يمتاز بالصلف فتراه يدور حول الذات الطيبة النقية التي لم ترتكب فحشاً ولم تقترف أية جرائم طيلة أيام حياتها، وقد يكون هذا القلم موضوعياً شجاعاً فيكتب ما تلقمه إياه ذاكرته دون اختيارٍ وانتقاء ودون مواربة أو محاباة؛ فهذا القلم الأخير يكتب بكل حيادية فيُعري نفسه أم نفسه قبل أن يُعريها أمام القارئ والجمهور.
وما أكثر ما كتبه العرب في هذا الحقل الأدبي؟! فقرأنا ترجمات العقاد وطه حسين وأنيس منصور وتوفيق الحكيم ونوال السعداوي ولويس عوض وسلامة موسى ومحمود السعدني ..إلخ؛ فلم نرَ في تلك المؤلفات إلا استحضاراً للمحيطات الاجتماعية والبيئية التي نشأ فيها هؤلاء الناثرون، وعهدنا تلك المؤلفات تأريخاً يؤسس لأحداثٍ ومواقفٍ بعينها دون التركيز على تفاصيل الأنا ومراحل تحولها وتقلباتها الفكرية والنفسية، ورأينا سرداً لمراحل حياتهم المختلفة في محيط الأسرة وفي الجامعات وفي الصالونات الأدبية وفي أوساط الفن والفكر والصحافة، وبدورنا كباحثين يقرؤون قدر المستطاع ما جاد به العرب والغرب في هذا اللون الأدبي- نسأل: أين الذات المتدنية في التراجم الذاتية العربية التي تهبط كثيراً بالإنسان لتغلب الأنا؟! ألم يقل توفيق الحكيم: ما أرخص الأدب لو أنه كان مثل السياسة طريقاً لاكتساب الثقة؟! ألم يقل الدكتور نجيب محفوظ في بداية سيرته “حياة طبيب”: إذا لم تكن أعطيت الناس “نفسك” فأنت لم تعطهم شيئاً؟!
وبدورنا كباحثين يقرؤون قدر المستطاع ما جاد به العرب والغرب في هذا اللون الأدبي- نسأل: أين الذات المتدنية في التراجم الذاتية العربية التي تهبط كثيراً بالإنسان لتغلب الأنا؟! ألم يقل توفيق الحكيم: ما أرخص الأدب لو أنه كان مثل السياسة طريقاً لاكتساب الثقة؟!
ومن هُنا نرى أن الأدباء العرب بالنسبة لعلاقتهم بحقل السيرة الذاتية فهم ثلاثة أصناف: الصنف الأول من يعفي نفسه من ورطة الكتابة في هذا اللون الأدبي على أن حياته ليست بالشيء الهام الذي يجب الكتابة والتأليف عنها كما يدعي أنصار هذا المبدأ، ولذا يعمد كثيرٌ من الناقدين والباحثين للكتابة عن الآخرين أمثالهم -المتمردين على كتابة سيرتهم- ويقومون بسبر أغوار ذاتهم وحيواتهم دون مشاركةٍ من المُؤلِف الأصلي موضوع العمل. ويكأنهم يتبرؤون من حياتهم! ويجعلون الآخرين يتحدثون بالنيابة عنهم. ولكننا نرى نماذج كالدكتور جونسون عندما قال قديماً: لا يوجد من هو أقدر على كتابة حياة المرء من المرء نفسه! والصنف الثاني –ينتمي إليه غالبية كُتاب السيرة الذاتية- يعمد إلى كتابة سيرته بالإشارة إلى ذاته وأناه ولكن في إطار صراعها وتفاعلها مع أحداث العالم الخارجي
وتجد تلك الأعمال تقص للقارئ سنوات الكفاح والنجاح وانتصارات الكاتب على هؤلاء ممن حاولوا الزج به في بئر الفشل والهاوية دون سردٍ لخلجات النفوس ونواقصها وضعتها ولذلك فلا مجال للصدفة عندما نقرأ تعريف د. جابر عصفور لفن السيرة الذاتية على أنه نوع من التاريخ الفردي الذي يتصل بالتاريخ العام وبالطبع يؤسس هذا التعريف لذهنية الناثر العربي في استيعابه لفن التراجم الذاتية، والصنف الثالث الذي يرسم أناه من خلال شخصياته الأدبية دون الارتكان إلى كتابة سيرته مباشرة حتى يستطيع أن يقول ما يريد دون خوفٍ من القارئ أو من مطرقة الرأي العام التي تري الأديب قديساً لا يخطئ ولا تدنو به النفس أبداً كالدهماء والعامة، ولعل أبلغ مثال على هذه الحالة ما فعله الأديب محمد حسين هيكل في روايته “زينب” التي كتبها عام 1914، فجعل بطله حامد يتحدث عن مبادئه العلمانية الليبرالية التي لا يستطيع أن يفصح عنها بنفسه! وقد نشر أبو الوجودية الفيلسوف جان بول سارتر جانباً من سيرته الذاتية بعنوان “الكلمات” وقرر أن يكمل عمله في القالب التخييلي للرواية قائلاً: “لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيراً لا يمكن أن أقولها إلا في عملٍ تخييلي”.
ورأينا محاولات عربية يسيرة للحديث عن الذات في قالب الاعترافات كما كان يفعل الغرب ولكنهم لم يُقابلوا إلا بالازدراء وبسخط وحنق المقربين قبل الرأي العام كالأديب نجيب محفوظ عندما اعترف بأنه كان يرتاد بيوت الدعارة السرية والعلنية، وفي الوقت نفسه غضب الناقد والمفكر د. رمسيس عوض مهاجماً سيرة أخيه –لويس عوض- (أوراق العمر سنوات التكوين) لأنه قام بالتشهير بعائلته على حد قوله، أما لدى الغرب فافتتح القديس أوغسطين هذا الفن في عام 400 م. في اعترافاته التي كتبها في ثلاثة عشر كتابًا وتحدث فيها عن نزواته وعن مراحل الشك والإيمان، واعترف الأديب الفرنسي جان جينيه بلصوصيته وبمثليته الجنسية التي قال عنها في سيرته “يوميات لص” بأنها فرضت عليه كما فرضت على عينيه ألوانها، وقال أديب فرنسا ومفكرها العظيم جان جاك روسو في مذكراته التي نُشِرَت في أجزاء عدة: “أريد أن أعرض الإنسان طبقاً لطبيعة حقيقته البشعة، وهذا الإنسان هو أنا”؛
رأينا محاولات عربية يسيرة للحديث عن الذات في قالب الاعترافات كما كان يفعل الغرب ولكنهم لم يُقابلوا إلا بالازدراء وبسخط وحنق المقربين قبل الرأي العام
ولذا رأينا روسو يقول في اعترافاته بأنه كان لديه انحراف جنسي شاذ واعترف بارتكابه لعمليات السرقة، واعترف الممثل الأمريكي المكسيكي شارلي شابلن بمغامراته الجنسية وقال أيضاً في مذكراته أنه كان يلعب أحياناً أدواراً ليكسب المال لأجل عائلته؛ لأنهم يحبون الراحة وذلك يكلف غالياً أما هو فيمكنه العيش بسروالين فقط على حد تعبيره، وتحدث أديب روسيا العظيم ليف تالستوي في اعترافاته الأدبية عن رغبته في الانتحار وتساءل عن حقيقة الإله والوجود، وقال أيضاً: ليس في قاموس الجرائم جريمة واحدة لم أرتكبها! ولذلك قرأنا عن اتجاهات بحثية نقدية ترى أنه لا وجود للسيرة الذاتية العربية؛ وذلك لعدم توافر أهم مقومات هذا الفن الأدبي وهو عنصر “الاعتراف” و”التجرُد” والبوح بحرية ودون خوف!
وبدورنا نسأل: أغرض كتابة السيرة الذاتية هو التأريخ والشهادة أم استحضار الذات والاعتراف والبوح؟! نجيب فنقول: على الرغم من أنه يصاحب الاعتراف الأدبي الشعور بالخجل والذنب والنقص ونبذ المجتمع وأفراده في حال البوح بتلك الأسرار ونشرها لأول مرة على الرأي العام إلا أنه لا يُعَد سلوكاً سلبياً؛ فهناك مجتمعات يرزح فيها الفرد تحت وطأة القيم الشمولية ولا يستطيع البوح بحرية ويشعر دوماً بالخجل عند الكتابة عن تلك التفاصيل المشينة التي تغضب المقربين ومتابعينه، تلك المجتمعات التي لا تجيد الفصل بين حياة الكاتب الشخصية وإبداعه ومن هُنا يشعر الكاتب برقابته الداخلية التي تقترن بالخجل الذي ينبع بالتأكيد من الرقابة الخارجية، وهناك مجتمعات يعترف فيها الأديب بكل نواقصه ويعترف بكل ما فعله دون استحضار لصورة المقربين والرأي العام الذي يفهم أن الكاتب ليس إلهاً أو قديساً يعيش في صومعة تعزله عن التدني والنواقص، وهذا النوع الأخير يرتبط في ذهنية القارئ الغربي بشجاعة الكاتب وجرأته واتساقه مع ذاته وتقبله لنفسه رغم ما هي عليه!
لذا فمن المهم أن ننظر عند تقييمنا لقالب السيرة الذاتية عند العرب والغرب إلى مساحة الحرية التي تتوفر للكاتب الغربي بالنسبة للمساحة التي تُفْرَد للكاتب العربي، وقد قال المفكر الفرنسي رولان بارت –أهم مفكر ومُنَظِر فرنسي في القرن العشرين بعد المفكر جان بول سارتر- في سيرته الذاتية الجريئة (بارت بقلم بارت): “أن تكتب عن نفسك يمكن أن تبدو فكرة طموحة؛ ولكنها أيضاً فكرة بسيطة شأنها شأن فكرة الانتحار”
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.