تمثل الأراضي المقدسة في فلسطين أهمية كبرى لدى مسيحيي الشرق والغرب، الأرض التي شهدت مولد وقصة السيد المسيح، لذا اعتاد المؤمنون بالمسيحية، منذ القرن الثالث الميلادي، الحج إلى مدينة القدس/أورشليم، الأمر الذي أفسح المجال لظهور ما يسمى بتجارة “الذخائر المقدسة”، خاصة أن من استطاع اقتناء شيء من تلك الذخائر نال المجد والرفعة حين يعود إلى بلاده.
وفي ذلك يقول الدكتور قاسم عبده قاسم في مؤلفه “عصر سلاطين المماليك“: “قد كان الحج إلى الأراضي المقدسة التي شهدت قصة المسيح حركة اجتماعية دينية ذات مضمون عاطفي منذ وقت مبكر، وتخبرنا النصوص التي تركها الرحالة الأوروبيون في ذلك الوقت المبكر قبل عصر الحروب الصليبية أن المسيحيين القادمين من الغرب الأوروبي إلى فلسطين كانوا يحرصون على الأكل في كهف أكل فيه المسيح مع حوارييه، أو يستحمون في مياه نهر الأردن التي تم تعميده فيها (يقصد بالتعميد غمس الجسم أو جزء منه في الماء أو رشه، وبعضهم يكون ذلك عنده بالتغطيس ثلاث مرات)”.
وتحدث أيوب الطيب في مؤلفه “صلاح الدين والطوق الحجري“، عن هذا الأمر أيضا، قائلا: “وغدا الذهاب في رحلة من رحلات الحج إلى أحد الأماكن المقدسة شيئا كثير الحدوث منذ القرن الثالث الميلادي فصاعدا، وتصارعت المدن في الغرب للحصول على الذخائر المقدسة من الشرق ولو بأساليب غير أخلاقية، حتى أصبح للرحلات المقدسة والحج توبة تضاهي الصيام والإيذاء البدني للنفس”.
ما هي الذخائر المقدسة؟
يعرفها الدكتور قاسم عبده قاسم في مؤلفه “ماهية الحروب الصليبية“، بقوله: “الذخائر المقدسة بالنسبة للمسيحيين هي رفات القديسين وملابسهم وأدواتهم الشخصية وما إلى ذلك”، ويوضح أيضا في كتابه الآخر المعنون بـ”عصر سلاطين المماليك”، أنها “الملابس والأدوات والأشياء المادية التي ينسب إلى الأنبياء والقديسين استخدامها، أو بعض أجزاء من رفاتهم”.
أما إمام حمودي، فيقول عنها في كتابه “الرؤى والأحلام المقدسة: عصر الحروب الصليبية“، إنها “عظام القديسين أو أي شيء آخر قد خلفوه وراءهم، أو أي هدف قد حققوه وأثّر في حركة التاريخ، كذلك ما ألفوه من كتب وأسسوه من مدارس”، وفي مؤلفه “لمصر.. لا للأقباط“، يشير ياسر بكر إلى أنه “راجت تجارة الذخائر المقدسة أثناء حملات الفرنجة على الشرق”، موضحا أن الذخائر المقدسة هي رفات القديسين وملابسهم وأدواتهم الشخصية، حتى أن بعضهم ادعى أنه عثر على خشبة الصليب المقدس التي صلب عليها السيد المسيح، ولم تكن هذه الأشياء سوى تذكارات مزيفة.
ويؤكد عيسى الحسن في مؤلفه “تاريخ العرب: من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية“، أن تجارة الذخائر المقدسة لعبت دورا هاما في إثارة الاهتمام بالأرض المقدسة في المخيال الأوروبي.
لم يقف الأمر عند حدود الاهتمام فقط بل وصل إلى ضرورة اقتناء شيء من هذه الذخائر المقدسة عند العودة إلى البلاد، من أجل المجد والرفعة، يكشف عن ذلك الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “ماهية الحروب الصليبية”؛ إذ يقول: “وقد استقر في أذهان الناس بالغرب الأوروبي آنذاك بكل ما ميزه من تدين عاطفي مشوب بالخرافات والخزعبلات، أن الحاج الذي يجلب معه شيئا من الذخائر المقدسة يكتسب مجدا ومكانة في عيون أهل بلده”.
وقد استقر في أذهان الناس بالغرب الأوروبي آنذاك بكل ما ميزه من تدين عاطفي مشوب بالخرافات والخزعبلات، أن الحاج الذي يجلب معه شيئا من الذخائر المقدسة يكتسب مجدا ومكانة في عيون أهل بلده
قاسم عبده Tweet
ويوضح المؤلف أن تلك الأشياء كانت توضع في الكنائس لكي تزينها، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى حقيقة أخرى حول هذه التجارة، فيقول: “بطبيعة الحال كانت هناك مواد كثيرة مزيفة في تلك التجارة التي راجت في الغرب الأوروبي برواج الحج إلى فلسطين، وقد نسجت قصص خيالية كثيرة حول الرحلات والذخائر المقدسة، مما زاد في تأجيج الجو النفسي المتشبع بالأفكار الألفية والأخروية منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي، أو قبله بسنوات قليلة”، مضيفا: “ومن المؤكد أن رحلات حقيقية كثيرة قد غادرت الغرب الأوربي لهذا الغرض”.
ويدعم هذا الطرح، محمد مؤنس عوض؛ إذ يقول في كتابه “الرحالة الأوروبيين في مملكة بيت المقدس الصليبية: 1099-1187 ميلادية“: “اتصل برحلة الحجاج إلى بيت المقدس اقتناء الذخائر المقدسة مثل رفات القديسين والشهداء وملابسهم ومتعلقاتهم الشخصية، وقد اكتسب أولئك الحجاج بعد عودتهم إلى بلادهم مكانة مرموقة من خلال اقتنائهم لتلك المقتنيات التي تعود إلى عهود المسيحية المبكرة وقد تم استخدامها من أجل تزيين الكنائس، كذلك فإن الملوك والأمراء في الغرب الأوروبي حرصوا على اقتنائها إعلاءً لشأنهم في نظر رعيتهم”.
ممارسة الدعارة مع العزاب قربة دينية!
ويرى المؤلفان سيد حمودي وإمام الشافعي في كتابهما المعنون بـ”الانحراف الجنسي في عصر الحروب الصليبية (1095 – 1291م/ 489 – 690 هـ)“، أن فرسان الغرب الأوروبي كانوا “لا يفهمون من الدين سوى أنه حيازة الذخائر المقدسة، أو الهبات التي كانوا يغدقونها بسخاء على الأديرة والكنائس تكفيرا عن ذنوبهم؛ إذ كان التكفير عن الذنوب أيسر لهم من الالتزام بالفضيلة”.
ويشيران إلى أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل “كانت بعض العاهرات الأوروبيات تعتبر أن ممارسة الدعارة مع العزاب من الأوروبيين في الأراضي المقدسة قربة دينية لا يساويها أي ثواب”، بحسب قولهما.
كانت بعض العاهرات الأوروبيات تعتبر أن ممارسة الدعارة مع العزاب من الأوروبيين في الأراضي المقدسة قربة دينية لا يساويها أي ثواب
سيد حمودي ، وإمام الشافعي Tweet
وبالطبع كان هناك قطع خاصة ذات أهمية كبرى بالنسبة للمسيحيين، يوضحها إمام حمودي بقوله: “ومن أهم قطع الذخائر المقدسة التي أعارها الصليبيون اهتماما ما يعرف بصليب الصلبوت أو الصليب الحقيقي الذي صلب عليه المسيح، حسب الاعتقاد المسيحي، مع أن القدس لا تملك الصليب الحقيقي الذي جرى نقله إلى القسطنطينية في عام 635 م/ 14 هـ، إنما تحتفظ فيما تواتر من القول عن قطعة منه، موجودة في كنيسة القبر المقدس (كنيسة القيامة تقع داخل أسوار البلدة القديمة في القدس)”.
واختفت هذه القطعة قبل الحملة الصليبية الأولى (أطلقها البابا أوربان الثاني سنة 1095 لإعادة السيطرة المسيحية على المدينة المقدسة)، وأعيد اكتشافها في 5 أغسطس 1099 م/ 493 هـ من جانب البطريرك أرنولف الشوكي، بطريرك بيت المقدس، على مقربة من القبر المقدس، وجرى الاحتفاظ بها في كنيسة القبر المقدس، خلال القرن الثاني عشر الميلادي/ السادس الهجري، وبما أنهم كانوا يحملونها أثناء المعارك، فقد ضاعت خلال معركة حطين سنة 1187 م/ 583 هـ، بحسب إمام حمودي.
وتحدث ابن الأثير الجزري في مؤلفه “الكامل في التاريخ” عن ذلك، بقوله: “أخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت، ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك”.
أما عن الصليب الحقيقي، فيشير “حمودي” إلى أنه “يمكن القول بأنه لا يوجد ما يعرف بالصليب الحقيقي من الأساس، فإن الشكل الذي قتل عليه المسيح –حسبما يعتقد المسيحيون– مازال محل خلاف بينهم حتى الآن”. ويؤكد فان هام اليسوعي، في كتابه (الكوكب الوضاح في تاريخ الإصلاح: ردا على ما اخترعه خدمة البروتستانت)، أن تكريم الذخائر المقدسة الجاري في الكنيسة الكاثوليكية مقترن اقترانا شديدا بتكريم القديسين.
تجارة البركة وعلاقتها بالذخائر المقدسة
وعلى غرار تجارة الذخائر المقدسة، جاءت ما تسمى بـ”تجارة البركة”، التي يقول عنها ياسر بكر في مؤلفه (حرب المعلومات): “هذه التجارة امتداد لتجارة الذخائر المقدسة، التي راجت في أوروبا بعد الحروب الصليبية ببيع البعض قطع من الخرق على أنها قطع من ثوب المسيح وقطع الأخشاب على أنها قطع من الصليب”.
وتجارة البركة مربحة يحصل بمقتضاها القائمون على الكنيسة على الملايين من بيع المياه والزيت والصلبان والأيقونات والصور والبخور والتذكارات و”التيشرتات” التي تحمل صورة المسيح المتخلية، وصور العذراء المتخيلة ورسم الصليب، وفقا لـ”بكر”.
ويشير المؤلف إلى أن “العبث وصل إلى بيع الرمال في أكياس صغيرة بعشرات الجنيهات بزعم تحقيق البركة لكون تلك الرمال، حسب زعم القائمين على هذه التجارة، قد جلبت من قبور القديسين”.