على الرغم من الموثوقية والاعتبارية التي يحظى بهما الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه – والمشهور اختصاراً باسم صحيح البخاري – في الأوساط السنية، فإن نوعاً من أنواع الغموض يلف المنهج العلمي الذي اعتمد عليه الإمام البخاري أثناء تصنيفه لهذا الكتاب ذائع الصيت، ولا سيما في مسألة اختياراته لشيوخه والرواة الذين خرج لهم في كتابه.
النظرة الفاحصة لأسماء رجال البخاري، ستكشف أن الكثير منهم قد وجهت لهم سهام النقد والتشكيك، ومن هنا فقد تساءل الكثير من العلماء عن أسباب تخريج البخاري لهؤلاء الرجال تحديداً، ولما عجزوا عن العثور عن أسباب واضحة، فإنهم قد قالوا في نهاية المطاف إن من خرج له البخاري “قد جاوز القنطرة”، في إشارة لتعطيل قواعد علم الجرح والتعديل، والاكتفاء برأي الإمام البخاري وحده في تعديل هؤلاء الرواة الذين تم تجريحهم من قِبل غيره من العلماء.
اللقاء: شرط البخاري الذي رفضه مسلم
على العكس من الكثير من معاصريه، لم يبدأ الإمام أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه صحيحه بمقدمة يشرح فيها منهجه وطريقته في تصحيح الأحاديث، الأمر الذي شجع العلماء على مر القرون، على استقراء صحيح البخاري واستنطاقه بشتى السبل وذلك في محاولة منهم للتعرف على منهج مؤلفه.
الأغلبية الغالبة من علماء الحديث الشريف، قرروا أن البخاري قد اشترط أمرين للتأكد من صحة سند أي حديث أو رواية قبل أن يخرجها في صحيحه، وهما على الترتيب المعاصرة واللقاء. المعاصرة هنا تعني أن يكون كل راو قد عاصر الراوي السابق له والذي أخذ منه الحديث، أما اللقاء، فيعني أنه يجب أن يثبت خبر لقاء كل راوٍ بالراوي الذي يسبقه.
من المهم هنا أن نلاحظ أن تلك القاعدة -والتي تشترط اللقاء فضلاً عن المعاصرة- قد تعرضت لانتقاد شديد من جانب بعض علماء الحديث المعاصرين للبخاري، وعلى رأس هؤلاء مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى 261ه، والذي أظهر في مقدمة صحيحه رفضه لمنهج البخاري دون أن يذكره بالاسم، فقال “وزعم القائل… أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به غير أنه لا نعلم له منه سماعاً ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث
لم يبدأ الإمام البخاري صحيحه بمقدمة يشرح فيها منهجه وطريقته في تصحيح الأحاديث، الأمر الذي شجع العلماء على استقراء صحيح البخاري واستنطاقه بشتى السبل في محاولة للتعرف على منهج مؤلفه.
إن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء كهذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما أو يرد خبر فيه بيان اجتماعها وتلاقيهما مرة من دهرهما فما فوقها، فإن لم يكن عنده علم ذلك ولم تأت رواية تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة وسمع منه شيئاً لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك والأمر كما وصفنا حجة وكان الخبر عنده موقوفاً حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قل أو كثر في رواية مثل ما ورد. وهذا القول -يرحمك الله- في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه…إلخ”.
المفارقة المثيرة للتفكر ها هنا، أن الإمام البخاري وإذا كان قد تشدد كثيراً في مسألة التأكد من الاتصال بين الرواة الثقات وبعضهم بعضًا، فإنه –في الوقت ذاته- قد تساهل إلى حد بعيد فيما يخص إثبات عدالة الرواة الذين خرج لهم في كتابه.
القرب من السلطة وقبول الهدايا
تُعد هذه المسألة من بين المسائل محل الجدل والنقاش بين الكثير من المحدثين القدامى، لكون العديد منهم قد اعتقد بأن قرب الراوي من الدوائر السياسية أو تكسبه من الحكام، من شأنه أن يميله ويجذبه إلى صف السلطان، وهو ما يُخشى معه على حديثه.
الإمام البخاري سار على نهج قبول رواية الراوي القريب من السلطة أو الذي يرتزق منها، حيث خرج في صحيحه للكثير من الرجال الذين كانوا يغشون السلاطين والحكام، وكان لا يرى أن هذا الأمر قادحاً في عدالتهم، وممن روى عنهم وكانوا على تلك الصفة، كل من مروان بن الحكم، وعبد الله بن ذكوان، وعاصم بن سليمان الأحول، وخالد بن مهران الحذاء، كما روى في الوقت ذاته عن الشيوخ المعروفين بقبولهم الهدايا أو الأجرة على التحديث، ومن هؤلاء كل من الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم.
خوارج وشيعة ومرجئة: الرواة المتهمين بالبدعة
كانت هناك الكثير من الصفات التي اتفق المحدثون منذ القرون الأولى على أنها من أسباب القدح والتشكيك في عدالة الراوي، ومنها (الكذب-الفسق-الجهالة…إلخ)، ومن تلك الصفات أيضاً، البدعة، وهي الوصف الذي أطلقه علماء وفقهاء أهل السنة والجماعة على جميع من خالفهم في أصول الاعتقاد، مثل الخوارج والشيعة والمرجئة.
الاتجاه التقليدي عند المحدثين الأوائل كان يقف في صف رفض الرواية عن المبتدع، أو على الأقل، تضعيف حديثه لكونه قد تم القدح في عدالة صاحبه، أي أن الابتداع كان من أسباب القدح في العدالة، ومن ثم عدم تصحيح الحديث. هذا الاتجاه يتضح في القول المشهور لمحمد بن سيرين “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”.
قول ابن سيرين كان في حقيقته يتوافق ويتماشى مع ازدياد وتصاعد الفتن السياسية التي انتشرت في الدولة الإسلامية بدايةً من النصف الثاني من عهد الخليفة عثمان بن عفان، إذ كان أصحاب كل مذهب يعملون على اختلاق الحديث ونسبته إلى الرسول، في محاولة منهم لصبغ مذهبهم بالصبغة الشرعية، ولتأصيل مبادئه وأصوله من خلال ربطها بحديث الرسول.
هذا التوجه الرافض لقبول رواية المبتدعة، والذي ينزع للاحتياط والحيطة والحرص، عبر عنه الإمام مالك بقوله المشهور “لا يؤخذ العلم عن أربعةٍ: سفيهٍ يُعلن السفهَ وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعةٍ يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنتُ لا أتَّهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدِّث به”، وقد توافق هذا التوجه مع الكثير من القواعد الأخرى التي وضعها المحدثون، والتي تهدف في مجملها لصيانة الحديث النبوي من التحريف أو الوضع، ومن تلك القواعد إنه إذا اجتمع في شخص واحد جرح وتعديل، فالجرح مقدم، فالذي عليه جمهور العلماء “أن الجرح أولى بالرعاية والاعتبار”.
لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم
ابن سيرين Tweet
ولكن إذا رجعنا لكتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري، لوجدنا أن صاحبه قد تغافل عن تلك القاعدة، إذ خرج لما يقرب من السبعين رجلاً ممن أُتهموا بالبدعة وبالانحراف عن مذهب أهل السنة والجماعة، وذلك بحسب ما ورد في كتاب “منهج الإمام البخاري في الرواية عمن رُمي بالبدعة” للباحثة إندونيسيا بنت خالد محمد حسون.
البدع التي نُسبت إلى هؤلاء الرواة، لم تتحدد في بدعة واحدة، بل تنوعت ما بين الإرجاء، والتشيع، والقول بعقائد الخوارج، والاعتزال، إلى غير ذلك من العقائد المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وكان من بين أشهر هؤلاء الرواة الموصوفين بالابتداع، كل من شبابة بن سوار، الذي اتُّهم بالإرجاء، وخرج له البخاري 13 حديثًا، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وقد اتُّهم بالتشيع، وخرج له البخاري 98 حديثًا، وعكرمة مولى عبد الله بن العباس، وقد اتُّهم بأنه من الخوارج، وخرج له البخاري 76 حديثًا.
علماء السنة لم يستطيعوا أن يضعوا شرطاً واضحاً للأسباب التي دفعت البخاري للتخريج لمن خرج لهم في صحيحه من أهل البدعة تحديداً دوناً عن غيرهم، ومن هنا فقد قالوا بعدة أقوال لتفسير هذا الأمر، منها على سبيل المثال، أن البخاري قد خرج لأصحاب البدع في الشواهد والتعليقات، ولم يخرج لهم في الأصول، ومنها أن البخاري قد صدع بالرواية عن المبتدعين بشرط التأكد من صدقهم وثبوت مقالاتهم ونقولهم، ومنها أن صاحب الصحيح قد أخذ بروايات بعض المبتدعين بشرط ألا يكونوا قد دعوا لبدعتهم، أو أنه قد أخذ برواية بعض المبتدعين الذين لا يكذبون، مثل الخوارج، واستدل أصحاب هذا الرأي بما نُسب إلى أبي داود من قوله “ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج”.
لماذا لم يخرج البخاري للإمام جعفر الصادق؟
أثارت تلك النقطة جدلاً شديداً حول كتاب الجامع الصحيح، وذلك لأن الكثير من الباحثين قد عابوا على البخاري عدم تخريجه للأحاديث المروية عن طريق الإمام جعفر الصادق، وهو الإمام الفقيه الذي أشاد بعلمه ووثاقته القاصي والداني.
الكثير من علماء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية على وجه الخصوص، اعتبروا أن تغافل البخاري عن التخريج للصادق، من سقطاته التي لا تغتفر، والتي تقدح في موثوقية كتابه بالجملة، حيث استنكروا تخريجه لأحاديث مروية عن عدد كبير من الخوارج والنواصب، في الوقت الذي يتوقف فيه عن إيراد أحاديث سليل الدوحة النبوية المطهرة.
بالنسبة للرأي السني –الذي يدافع عن البخاري-فقد عمل على تقديم بعض الأجوبة التي تبرر عدول البخاري عن التخريج للصادق، ومن تلك الأجوبة، أن البخاري لما كان يهتم بالمقام الأول بعلو الإسناد، فإنه قد تغافل عن التخريج لبعض الثقات الذين لم يربطه بهم إسناد عال، فكان عزوفه عن التخريج للصادق مشابهاً ومماثلاً لعزوفه عن التخريج لبعض من الأئمة والأعلام من أهل السنة والجماعة، ومنهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي على سبيل المثال. أو أن أحاديث الصادق لم تصل إلى البخاري، وذلك بسبب الحصار الخانق الذي فُرض على الأول بتحريض من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. أما أشهر الأقوال في تلك المسألة، فهو ذاك الذي يذهب إلى أن البخاري كان قد عزف عن التخريج لجعفر الصادق بسبب رأي شيخه يحيى بن سعيد القطان، والذي كان لا يوثق جعفر الصادق.
في الحقيقة، امتناع البخاري عن التخريج لأحاديث الصادق، يمكن أن نفسره بالارتباط الوثيق بين المذهب والسياسة. فمما يجب أن نلتفت إليه أنه –أي البخاري- لم يتغافل عن التخريج للصادق وحده، بل تغافل أيضاً عن التخريج لجميع الأئمة الإثنا عشرية الذين تبعوا جعفر الصادق، من أمثال موسى الكاظم وعلي الرضا، بل إنه رفض أن يخرج لأحاديث ثلاثة من الأئمة الذين عاصروه وعاصرهم، وهم محمد الجواد، علي الهادي، والحسن العسكري.
وقد يثار السؤال هنا، عن السبب في اختلاف تعامل البخاري مع الخط الإمامي الشيعي، بحيث لا يرى إشكالاً في التخريج للأئمة الخمسة المتقدمين منهم –علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر-، في حين يمتنع عن التخريج لمن بعدهم؟
يمكن أن نعزو ذلك لكون التأسيس الفعلي –لا المُتخيل- للمذهب الشيعي الإمامي، قد وقع في بدايات عهد الإمام السادس جعفر الصادق، إذ ظهر الخط الإمامي كخط شيعي مستقل ومتمايز عن الخط الشيعي التقليدي الزيدي الذي أظهر عن نفسه في ثورة زيد بن علي بن الحسين في الكوفة عام 122ه.
معنى ذلك أن البخاري –وللحفاظ على توجهاته السنية- قد اختار أن ينقي كتابه من أي إشارات مذهبية سياسية مخالفة للمنهج السني، ولذلك رفض التخريج للصادق ومن بعده من الأئمة، حتى لا يُستغل ذلك فيما بعد بشكل سياسي في صالح الحزب الشيعي الإمامي.
من المهم في هذا السياق أيضاً، أن نذكر أن منهجية البخاري في التعامل مع الصادق تحديداً، كان لها سوابق مشهودة عند أهل السنة من المحدثين، فعلى سبيل المثال توقف الإمام مالك بن أنس عن الرواية عن جعفر الصادق، وكان أستاذه المباشر، طوال عهد الدولة الأموية، فلما وصل العباسيون للسلطة، بدأ مالك في الرواية عن جعفر، وذلك بحسب ما يذكر الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء”، وكان ذلك بسبب أن العباسيين في بداية عهدهم قد منحوا العلويين الحرية والأمان لبعض الوقت، قبل أن ينقلبوا عليهم ويبطشوا بهم.
أيضاً يجب ألا ننسى أن الخليفة العباسي المتوكل على الله، والذي عاصره البخاري وكتب جزءاً كبيراً من صحيحه في زمنه، كان شديد الوطأة والتحامل على العلويين والشيعة، حتى وصف بالنصب وبعداوة آل البيت، كما ذكرت بعض المصادر التاريخية، تعسفه في البطش بمن روى شيئاً في مناقبهم، فعلى سبيل المثال يذكر الذهبي، أن المُحدث الكبير نصر بن علي الجهضمي، لما حدث بحديث ورد فيه أن النبي أخذ بيد الحسن والحسين، فقال “من أحبني وأحب هذين وأبيهما وأمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة”، فإن المتوكل قد غضب، وأمر بضربه ألف سوط.
وهكذا، يمكن القول إن اختيارات البخاري للرواة الذين نقل عنهم في صحيحه، قد اتسقت مع الظروف السياسية التي عاصرها البخاري نفسه، كما تماشت مع الخطوط العامة لمنهج أهل السنة والجماعة.