"لحظة تتكثف عندها الأزمنة (الأبد هو الآن) " العنوان الذي تم اختياره لحدث جديد من نوعه على النشاط الفني في مصر وهو معرض للفن المعاصر على هضبة الأهرامات بمنطقة الجيزة.
أثر الزمن هو الفكرة الجوهرية لهذا المعرض. والذي أقيم على نهج شعبوي مختلف عن مفهوم المعرض الفني المتعارف عليه. فقد أقيم دون صالة عرض وظهر مباشرة لجميع زوار الأهرامات دون استهداف فئة معينة من جمهور الفن خاصة من لا يهتمون بزيارة صالات المعارض الفنية. وذلك في سبيل تحقيق فكرته الجوهرية لتمثيل فكرة الزمن بين الماضي والحاضر.
فكان لابد أن يقام حول الأهرامات التي تشارك كبناء مادي ممثلة لعنصر فني متصل ببعض الأعمال المعروضة. وكذلك أيضًا إعادة إحياء لحدث تشييد الأعمال الفنية أمام مختلف الفئات والثقافات كدعوة عامة لتلاشي الفروق بين جمهور الفن دون استهداف فئة محددة لهذا النوع من الفن المفاهيمي المعاصر.
تتنوع الوسائط المستخدمة في أعمال فن التجهيز في الفراغ “Installation” لتشمل كل ما هو متاح وعملي في أيدي الإنسان في يومه العادي وتتطور الوسائط بتطور حياة الإنسان العملية فتجربة الفن المفاهيمي “Conceptual Art” هي تجربة يومية عابرة أشبه بالتفاتة تتلاقى فيها عينا شخصين يعبران الطريق متقابلين في اتجاهين متعاكسين. على العمل المفاهيمي أن يثير تساؤلك عن تفاصيل الحياة العابرة ومتكررة والتي تتركب أمامك في مجسم ملموس من وسائط تألفها وتشكل جزء من حياتك.
فخرج الفن المفاهيمي من ظل المدرسة الدادية معلنًا عن ضم ممارسة الفن ونواتجه إلى حياة الأفراد العاديين باعتباره ممارسة للحياة لا ممارسة للفن. فالقصدية والصدفة في تركيب عناصر العمل الفني متساويتان في الأهمية. والوسيط الفني بدل من أن يكون سطح الرسم صار يضم كل مكون من مكونات الحياة وبما في ذلك من استخدامات اللغة والمجال الرقمي الافتراضي وجميع أساليب التواصل. فقبل أن يصبح الوسيط البصري أداة فنية في أيدي الفنان كان المتلقي هو من جعل منها فنًا في البدء باستخدامها في علاقات روحية ومادية.
وذلك ما يمثل الفن المفاهيمي وتطوراته انطلاقًا من رؤية (جوزيف كوزوث) حول أنه فن ذهني هدفه التفكير. مع تنازل الفنان عن جودة صنع العمل الفني والتجرد من الوسائط التقليدية والأحكام التقليدية عن الفن والتوقف عند حالة استفزازية بين العمل الفني والجمهور في إطار تجربة بصرية وليدة التفكير لا تهدف إلى خلق صورة جديدة للعالم المحيط وإنما مناقشة عقلية لجوهر الأشياء المادية والممارسات العملية من خلال إحياء لأشياء جامدة واعتيادية في الحياة من المحتمل أن تعكس معنى جديدًا.
وفيما يلي نقدم قراءتنا في بعض الأعمال المشاركة التي تتواصل بعلاقات بنيوية مع آثار الفن المصري القديم والحياة الروحية والعملية للمصريين القدماء وكيف ارتبطت بعلاقات جديدة مع الحياة المعاصرة.
صوت حتحور:
(ها هنا قد عدت) هو عنوان (شيرين جرجس) لعملها الفني المتمثل في مجسم جزئي للآلة الموسيقية الإيقاعية (السيستروم). تعلن عن صوت المرأة الذي يخرج إلى العالم. فيطل جسد (السيستروم) بثلاثة أرباعه في الفراغ. مغروسة قاعدته المقوسة تحت الرمال وترتفع رأسيا القضبان المسؤولة عند اهتزازها بإحداث نغم الآلة برعاية رأس الثور الذي يرمز إلى الإلهة حتحور والتي تمثل إلهة الأمومة والسعادة والفرح والخصوبة والجمال والموسيقى والسماء.
اتجهت (شيرين) إلى صناعة آلة موسيقية خاصة بها بوسيط معدن نحاسي اللون لكن لا يصدر عنها نغمات وإنما هي تمثيل للمرأة بجسدها وصوتها معًا. وصنعت شكلاً لوجه حتحور مُلخصًا في مثلث داخل دائرة وهو تجريد لوجه حتحور الذي كان ينحت على ذراع (السيستروم). تأخذ صاحبة العمل من القيمة الرمزية للمرأة في عصر فائت وتعكس بيه حقيقة ما تواجهه المرأة في عصرنا الحالي من صراع من أجل أن يسمع ندائها الذي يمثل كما (السيستروم) بإيقاعة حفيف أوراق البردي.
جمود الزمن:
يقدم النحات الإيطالي (لورينزو كوين) عمله متمثلاً في لحظة تلامس أنامل كفَّيْن مصنوعين من وسيط معدني شبكي هائل الحجم وأطلق عليه اسم (معًا). يؤكد (لورينزو) بأنه يتمنى ألا يدمج أحد في رؤيته للأهرامات وراء عمله الفني أي علاقات شكلية بين البنائين. ولكنه اختار هذا العمل بالتحديد ليقدمه أمام الأهرامات حتى يعتمد على مدلولها كتمجيد للحياة. يستعين بتلك الفكرة لإضافة حالة شعورية باستمرارية الزمن عند نهاية الوحدة والاغتراب ببداية التواصل والالتقاء من جديد بمن حولنا وبذواتنها وتاريخنا. وقد وضح (لورنيزو) بأن هذا العمل هو بمثابة تعبير عن اللحظة التي توقف فيها الزمن والتي يشارك فيها كل البشر دون تفرقة بفعل (انتشار فيرس كوفيد 19) فهي تجربة فضحت العالم الذي يعيش فيه الإنسان الآن.
إن الصورة النهائية للكفين والذراعين الشبكيين في مجسم هائل الحجم تعطي إيحاء بالتفريغ لطاقة هائلة مكبوتة تنفجر من خلال فراغات الهيكل الشبكي للذراعين والكفين والأنامل عند التقائهما في لحظة يحضر فيها الزمن من جديد.
تحية من الجيزة:
(جيه أر) المصور والمخرج الفرنسي صاحب العمل الفني (تحية من الجيزة) الذي يتكون من تركيب بين أكثر من وسيط. قد سبق وقدم (جيه أر) معارضه الفوتغرافية في الشوارع للمارة اهتمامًا منه لإدماج التفاعل مع فئات عريضة من الجمهور لفنه. وهنا أمام الأهرمات يقف عمله الفني كتمثيل له هو بشخصه يرفع يده اليسرى بصورة بطاقة بريدية بإيحاء أنها مقطوعة لجزئين وموضوعة كصورة مجتزأة من البناء الأصلي للهرم بذاته. ومع ألفة ذلك المشهد من الحياة اليومية عندما نستبدل غياب شخص في مكان ما بوجود افتراضي له من خلال دمج صورته الفوتوغرافية أو الرقمية بالمكان وحفظ تلك اللحظة بصورة جديدة بكادر تجمعنا مع الشخص الغائب بالمكان.
كذلك تكتمل الفكرة عند (جيه أر) دون الحاجة لتمثيل الأجزاء الناقصة تمثيلاً ماديًا. لأن بوجود اليد اليسرى تكتمل الصورة في أذهاننا عن اليد اليمنى التي تصور بكاميرا هاتف شخصي المشهد الكامل للبطاقة البريدية المرسوم عليها صورة الهرم في كادر يشمل الهرم بوجوده الواقعي والافتراضي،كلهم معًا في صورة نهائية واحدة.
يمنح (جيه أر) المتلقي لهذا العمل عينيه وهاتفه ليتبادلا الأمكنة ليعايش المتلقي تلك الصورة النهائية عوضًا عنه.
إن البطاقة البريدية هي إحدى أقدم الوسائل المرتبطة بالسياحة وزيارة الأماكن التاريخية. ويصنع من الصورة الواحدة لمكان ما أثري نسخًا غير محدودة لبطاقات بريدية تذكارية. فأضاف (جيه أر) وسيطًا آخر جديدًا من الوسائط المركبة لهذا العمل الفني. عن طريق رسم الهرم بالرموز غير القابلة للاستبدال وتتمثل في أصول مشفرة تتكون من أربعة آلاف وخمسمئة جزء بعمر بناء الأهرامات تتيح للمتلقي أن يشتري صورة رقمية أصلية للبطاقة البريدية. كما لو كان سيشتريها قديمًا عند زيارته للأهرامات.
إن تصوير رأس الهرم منفصلة عن بقية البناء هو جذب للمشاركة الذهنية التي أراد(جيه أر) أن يخوضها المتلقي مع فكرته. ليشعره تلقائيًا بأنها بطاقة فوتوغرافية مقطوعة ويمكن لصق جزئيها من جديد. إن فكرته عن أثر الزمن هي استحضار رمزي لأشياء غائبة وتمثيلها من جديد بل وتكثيفها في نسخ افتراضية وإعادة حالة معايشتها من جديد كالمرة الأولى.
مسيرة الحياة اللانهائية:
عمل تجهيزي لـ(الكسندر بونوماريف) تحت عنوان (الأوروبورس) الثعبان الذي يدور في حلقة مغلقة يلتهم فيها ذيله ويمثل رمز وعلامة الحياة لأنه يرمز لدورات الحياة الأبدية وحركتها الزمنية من الماضي إلى الحاضر نحو ولادة المستقبل ممثلًا للحتمية بين الحياة والموت لاكتمال ديمومة الحياة.
يظهر في هذا العمل هيكل الثعبان مستبدلاً بمركبتين ملتحمتين في حلقة مغلقة وتمر الساعة الرملية رأسيًا بينهما أي بين عالمين من الماضي والمستقبل. فمركب الشمس ومركب القمر ترتبطان معًا في دورة كتعاقب الليل والنهار. فتكتمل دورة اليوم ودورة الحياة في مسيرة لا نهائية للزمن.
إن خروج الأعمال الفنية من صالات العرض المغلقة إلى منطقة أثرية كالأهرامات بمثابة تحد كبير للفنانين المعاصرين بأن يخرجوا أعمالهم المفاهيمية أمام بناء ميثولجي قد صمم ونفذ بحسابات دقيقة وفق فلسفة البقاء والاستمرار ضد عوامل الزمن فهذا البناء الهائل مرتكزًا على تحقيق الشكل المثالي بناء على القوانين الهندسية في سبيل تحقيق الكمال المثالي وهو ما يتناقض مع فلسفة الفن المفاهيمي تمامًا والتي تتجاوز الشكل والذائقة الفنية الجمالية نحو تحقيق تساؤلات وأفكار تنفض عقل المتلقي عن كل الثوابت.
فوقوف الأعمال المعاصرة بجانب الأعمال الأثرية من المحتمل أن ينتج عنه رفضًا جماهيريًا أو عدم القدرة على لفت انتباه المتلقي للأعمال الفنية المعاصرة. لأن النموذج المألوف والثابت عنده عن مفهوم الفن موجود في خلفيتها. مما يدعو للتساؤل حول خصوصية هذا المعرض بالأهرامات كعنصر مكاني فتظهر بعض الأعمال متجاوزة لهذة العلاقة ومتأثرة فقط بالحالة الشعورية للمكان الأثري المرتبطة بماضي البشرية. ولكن هذا الحدث في مجمله بمثابة تجربة فنية من المحتمل أن تكون صادمة و كاشفة لطبيعة الاستجابة الثقافية لما هو جديد.