مستخلص
لطالما كانت المواطنة هدفاً سامياً تسعى إليه الشعوب منذ القدم، وما تزال كذلك في الوقت الراهن ومنها العديد من الدول خاصة الأفريقية منها وذلك لتفشي الفساد والدكتاتورية والفقر في أغلبها، ولطالما شغلت فكرة المواطنة العديد من الدارسين والباحثين من مختلف التخصصات والمدارس العلمية، وذلك راجع لكون المواطنة متشعبة من حيث أبعادها السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، وفي هذا السياق، تأتي هذه الورقة البحثية بهدف الكشف عن طبيعة العلاقة بين المواطنة والريع، إذ ما كان للاقتصاديات الريعية تأثير سلبي في واقع المواطنة، وفي سبيل ذلك اعتمدنا على استعراض ومناقشة الأدبيات العلمية ذات العلاقة بالموضوع، وكذا الاستدلال ببعض المؤشرات الجزائرية لدعم ما توصلت إليه الورقة؛ في أن الدول التي تعتمد في اقتصادها على مصادر ريعية بشكل أساسي، هي الغالب تكون دولا شمولية تتراجع فيها مؤشرات ومقومات دولة المواطنة.
مقدمة إشكالية
تتجسد المواطنة في واقع الكثير من شعوب العالم الثالث كهدف يستوجب النضال من أجل بلوغه، وبذلك تعددت الآليات والمقاربات المنتهجة والمعتمدة لبلوغها، فمنها المقاربات السياسية؛ التي تعمل على إحداث توافقات وترتيبات سياسية من شأنها تحقيق مبدأ المواطنة، ومنها التعليمية والتثقيفية؛ التي تنشط ضمن سياقات الفكر والإبداع العلمي والفني لتعزيز مفاهيم دولة المواطنة لدى الشعوب والأفراد، ومنها الاجتماعية، والتي تقتضي ترقية طبيعة العلاقة السلوكية بين أفراد المجتمع من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى.
إلا أنه ومن وجهة نظر العديد من الباحثين فإن المقاربة الاقتصادية تظل الأكثر أهمية؛ إذ إنه لا يمكن للفرد أو المجتمع أن يفرض منطق المواطنة ودولة القانون المنشودة في ظل تبعية مطلقة لنظام سياسي يعمل من خلال اقتصاد الريع على تقييد إرادة الفرد والمجتمع، والحيلولة دون بلوغ استقلاليتهما، الشأن الذي يجعل من مشاركتهم في الحكم أمرا مستبعدا؛ أي أن الدول الريعية تعمل من خلال عائدات اقتصاد الريع على تسيير شؤون البلاد ومن ثمة خلق زبائنية ريعية تعمل على تكريس التبعية السياسية للفرد والمجتمع وبذلك فإنها تعمل على الحيلولة دون بلوغ دولة المواطنة وسيادة القانون.
وانطلاقاً من هذا الطرح، تبرز إشكالية هذه الورقة والمتمثلة في طبيعة العلاقة بين المواطنة والريع باعتبار هذا الأخير أحد أبرز النماذج الاقتصادية انتشارا في دول العالم الثالث، فهل يؤثر اقتصاد الريع في مستوى المواطنة في مثل هذه الدول؟ وانطلاقا من هذا التساؤل العام سنحاول من خلال هذه الورقة البحثية الإجابة عنه، من خلال تفكيكه لمجموعة من التساؤلات الفرعية وهي كالآتي:
- ما الدولة الريعية؟ وكيف تتشكل زبائنية الريع؟
- ما الدولة المواطنة؟ وما علاقتها بالريع الاقتصادي: تعزيز أم تثبيط؟
وكذلك سوف نعرج في ذات السياق على المؤشرات الاقتصادية في الجزائر الخاصة بسنة (2020)، وعرض بعض من مؤشرات دولة المواطنة للكشف على انعكاسات هذا النموذج الاقتصادي –الريعي- على واقع المواطنة فيها.
أولا: الدولة الريعية وزبائنية الريع
سوف نحاول من خلال هذا العنصر تفكيك مفاهيم “الريع ودولة الريع” و”زبائنية الريع” لنكشف بذلك كيفية تشكل زبائنية الريع في ظل الدولة الريعية.
1. مفهوم الريع
ورد في قاموس المعاني على الخط بأن الريع هو “المرتفع من الأرض” وأنه “الجزء الذي يُؤديه المستأجر إلى المالك من غلة الأرض مقابل استغلال قواها الطبيعية التي لا تقبل الهلاك”(1) وبذلك فإن الريع من حيث اللغة هو العائد الذي يظفر به المرء إثر استغلاله لما ينمو من الأرض (استغلال الأرض) وأنه العائد من استغلال المرء للطبيعة وخيراتها وأنه ليس للإنسان دور فيه كما هو الحال في الصناعة.
وتعرفه الموسوعة السياسية بأنه “دخل مالك الأرض أو أجر استخدام الأرض من غير مالكها”(2) وفي الموسوعة البريطانية ورد بأنه “الدخل المتأتي من ملكية الأرض وغيرها من هبات الطبيعة”(3) ويمكن كذلك ترجمة هبات الطبيعة إلى الموارد والخيارات إشارة إلى الثروات الباطنية للأرض.
ويعتقد بأن المؤرخ المغاربي (ابن خلدون) من الأوائل الذين تطرقوا لمفهوم الريع في مؤلفه الشهير المقدمة والذي عرفه بأنه “كسب دون عمل”(4) وبهذا فإن ابن خلدون يستبعد عمل الإنسان من حيث الصناعة أو الحرف في الدخل في ما يخص الريع، أي أنه ذلك المكسب الذي يتحقق للإنسان من خلال ملكه للأرض وتأجيرها، أو من خلال الاشتغال على الأرض بطاقته العضلية لتحقيق الكسب.
ويعرفه مؤسس علم الاقتصاد (Adam Smith) في كتابه ثروة الأمم على أنه “الدخل الذي يحصل عليه الشخص دون أن يزرع أيْ حصدا دون زرع”(5)، وهنا يربط آدم سميث الدخل من الأرض بالريع لكنه ينفي المجهود العضلي كما سبق وأشرنا إليه آنفا، في حين يعرفه David Ricardo “في تفسيره لظاهرة الريع على الندرة والتفاوت بين الأراضي الزراعية من حيث الجودة… وبالتالي يصبح الريع من الندرة، ويتلخص مفهوم الريع لدى (دافيد ريكاردو) على أنه العائد من الأرض وبالتالي فهو مرتبط ارتباطا كليا بالأرض”(6) بينما يرى (Karl Marx) في كتابه رأس المال على أن الريع “كل ريع عقاري هو جزء من فائض القيمة، والريع بشكل خاص مرتبط بفائض القيمة المنتزع من عمل العمال المنتجين، بمعنى هو ذلك الجزء من قيمة السلعة الذي يتمثل في فائض القيمة، ملكية القوة الطبيعية ليست لها علاقة بإنتاج ذلك الجزء من فائض القيمة وبالتالي من سعر السلعة المنتجة بفضل هذه المصادر الطبيعية”(7) وبذلك فإن كارل ماركس وعلى خلاف أدم سميث الذي أبعد الجهد البشري في استغلال الطبيعة عن مفهوم الريع، فإن كارل ماركس وخلافاً عليه فإنه يرى في القيمة المضافة أي العائد الذي يتحقق بفعل المجهود البشري في استغلال الطبيعة يعد ريعاً.
وبناء على ما سبق طرحه من تعريفات ومفاهيم لغوية واصطلاحية عن الريع، فإننا نعرفه على النحو التالي: الريع هو ذلك المكسب أو الدخل الذي يعود على الإنسان من خلال، إما استغلاله للأرض وإما تأجير الأرض للاستغلال، ولذلك فإن الريع يكمن في قيام الإنسان باستغلال الطبيعة وثرواتها من أجل تحقيق مكاسب مادية، وبذلك فإنه يعد نشاطًا غير صناعي، قائمًا في أساسه على استغلال الطبيعة وثرواتها.
2. مفهوم الدولة الريعية
بناء على تعريفنا للريع فإن مفهوم الدولة الريعية سيتشكل من خلال إسقاط صفة الكسب من الريع على الدولة؛ بمعنى أن الدولة الريعية هي تلك التي تعتمد في نشاطها الاقتصادي على استغلال الثروات الطبيعية للوطن كـ(البترول، الغارز، المعادن، الذهب…) وأن الدولة الريعية هي التي تشتمل عائداتها أو معظمها على الثروات الباطنية، وأنها الدولة التي لا تنوع من مصادر دخلها.
فالريع الاقتصادي وبحسب الخبير الاقتصادي العراقي (صبري زايد السعدي) “الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على الريع الاقتصادي المتولد من النفط والغاز المملوك كليا للطاقات الإنتاجية والاحتياطية للدولة”(8) ومن جانب آخر يرى بعض الاقتصاديين أنه وفي حال تجاوزت مساهمة القطاعات غير الإنتاجية أو الريعية 50% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما، عندها يوصف الاقتصاد ريعياً.
وبحسب الموسوعة السياسية، فإن البدايات الأولى لظهور مصطلح الدولة الريعية تعود لدراسة المفكر الإيراني (حسن مهداوي) في بحثه الموسوم بـ: نمط ومشاكل التنمية الاقتصادية في الدول الريعية –حالة إيران- سنة (1970) على أنها “الدولة التي تحصل على جزء كبير من عوائدها من دخل ريعي يأتي من مادة أولية، فالدولة في هذه الحالة تعتمد اعتمادا كلياً على دخل واحد يمتاز باستدامته ويأتيها من الخارج ولا يشارك الاقتصاد المحلي في إنتاج النفط وتصفيته، وأبرز بذلك ثلاث صفات للدولة الريعية وهي:
- الميل للتضخم في حجم الدولة،
- تضخم القوات الأمنية المسلحة،
- ميل الدولة إلى الديكتاتورية”(9) (الشمولية).
وبناء على ما سبق فإن الدولة الريعية هي التي ترتكز في مواردها بشكل أساسي على عائدات المواد الأولية أو الطبيعية بشكل منتظم، وتعتمد على هذه الموارد في تسيير شؤون البلاد من خلال تصديرها، وبذلك فإن نشاطها الاقتصادي (الدولة الريعية) يتسم بالضعف وانعدام القدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وبذلك فإن هناك العديد من الباحثين من يسحب عن النشاط الريعي صفة الاقتصاد، وذلك لأن الريع لا يعد نشاطا إنتاجيا بقدر ما هو نشاط استهلاكي بحت، يقوم على الاستنزاف المستمر والمستدام للثروات الطبيعية دونما خلق أية قيمة مضافة، فضلا على أن جميع الدول التي تعتمد في مجملها على الريع فإن نشاطها الاقتصادي من حيث الصناعة والتحويل غالبا ما يكون ضعيفا جدا الشأن الذي ينسحب على قدرة الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي وبلوغ مفاهيم الأمن القومي بمفهومه الشامل، وذلك نظرا لكون الدولة مرهونة بعاملين اثنين:
- الموارد الريعية وديمومتها ومدى حاجة السوق العالمية لها،
- الدول الأجنبية التي تستهلك موارد الريع ضمن دورتها الاقتصادية.
3. زبائنية الريع.
ظهر مصطلح الزبائنية أو الزبونية في بادئ الأمر ضمن سياق سياسي، ويعنى به أن يقوم سياسي أو حزب سياسي ما بتشكيل طبقة موالية لها من خلال إسداء خدمات لهم كالمناصب السياسية والمنافع الاقتصادية وغيرها من الخدمات، ويعد من أحد أشكال الممارسة اللاأخلاقية السياسية، بحيث تربط الزبونية السياسية الولاء السياسي بمنافع شخصية للزبائن (الموالين) دون مراعاة للمصلحة الوطنية أو المفاضلة بين البرامج والمنافسة السياسية الخلاقة.
ومصطلح زبائنية الريع يظهر أكثر في الدول المتخلفة أو الدول الريعية كدول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث إن الأنظمة الحاكمة في مثل هذه الدول تعتمد على توزيع عائدات الريع بطريقة هرمية على الأكثر ولاء إلى الأقل ولاء، وبذلك يتحول مصدر الشرعية السياسية (شرعية الحكم) من الشعب من خلال الاقتراع العام على البرامج السياسية والاقتصادية، إلى زبونية ريعية من خلال قيام الأنظمة على شراء الذمم والولاءات السياسية من خلال توزيع عائدات الربع.
وإن أحد أهم الأسباب التي تعمل على تشكل زبائنية الريع يكمن في طبيعة النشاط الاقتصادي الذي فيه تتحكم السلطة بطريقة مطلقة على واردات الريع من خلال استئثار الدولة وتفردها في التصرف في الثروات الطبيعية، ومن ثمة تعمل هذه الأخيرة باعتبارها المتحكم الأوحد في الثروة باستغلالها للبقاء في الحكم وذلك من خلال تشكيل طبقات متفاوتة في استفادتها من عائدات الريع شريطة الولاء السياسي المطلق للنظام والسلطة.
أي أن المعادلة السوسيو اقتصادية تتشكل على النحو التالي: كلما زاد ولاء الفرد أو الجماعة إلى السلطة، كما زادت نسبة استفادتهم من أموال الريع.
وأمام هذا الواقع تتشكل جماعات زبونية توالي السلطة للاستفادة من العوائد الاقتصادية الريعية وبذلك سميت بالزبائنية الريعية، وتتسم هذه الجماعات بالولاء المطلق للنظام والسلطة وانعدام الأخلاق السياسية، الشأن الذي يتجلى منه انعدام للتوزيع العادل للثروة وتكريس الطبقية الاجتماعية والانحراف عن القوانين، وأمام هذه المعطيات تندرج إشكاليات المواطنة في ظل الدولة الريعية وهذا ما سنتطرق إليه في العنصر الموالي.
ثانيا: المواطنية في ظل دولة الريع
من خلال هذا العنصر سوف نحاول التقرب من مفهوم المواطنة من أجل إبراز طبيعة العلاقة بينها وبين دولة الريع، ومن ثمة سنعرج لقراءة بعض المؤشرات الاقتصادية بالجزائر ومقارنتها بواقع المواطنة فيها.
1. مفهوم المواطنة
ورد في بوابة المجلس الأوروبي (Council of europe portal) في مقال بعنوان ” المواطنة والمشاركة” بأن أصل المواطنة يعود إلى اليونانية القديمة عندما كان المواطنون هم الذين لديهم الحق القانوني في المشاركة في شؤون الدولة، وفي النطاق القانوني فإن المواطنة تُعنى بالعلاقة القانونية بين الفرد والدولة، وعُرفت كذلك ضمن الاجتماع التشاوري لبرنامج التربية على المواطنة والديموقراطية لمجلس أوروبا عام (1996) بأنها عملية معقدة وواقع متعدد الأبعاد تحتاج إلى وضعها في سياقها الثقافي والتاريخي… والمواطنة الديمقراطية تحديدا تشير إلى المشاركة النشطة للأفراد في نظام الحقوق والمسؤوليات التي هي رأس مال المواطنة في المجتمعات الديموقراطية، ويبرز كذلك المجلس الأوربي أربعة أبعاد رئيسية للمواطنة تكمن في المشاركة الفعالة للمواطنين في: السياسة، الاقتصاد، المجتمع، والثقافة.(10)
وتشير الموسوعة السياسية إلى أن المواطنة هي “المكان الذي يستقر فيه الفرد بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركا في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها، ويتمتع بشكل متساوٍ دون أي نوع من التمييز- كاللون أو اللغة- مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق، ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها، بما تشعره بالانتماء إليها، ويترتب عن المواطنة الديموقراطية أنواع رئيسية من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين كالحقوق المدنية (civil rights) والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية….”(11) وتشير ذات الموسوعة إلى أن للمواطنة ثلاثة مقومات هي: المساواة والعدالة، الولاء والانتماء، والمشاركة والمسؤولية، بينما تعرفها الموسوعة البريطانية Britannica بأنها “العلاقة بين الفرد والدولة التي يدين لها بالولاء والتي يتعين عليها حمايته، وهي بذلك تعني الحرية مقابل المسؤوليات المصاحبة لها… وتعد المواطنة من أهم أشكال الجنسية امتيازاً، وبذلك فإن المصطلح يشير إلى العلاقات المختلفة بين الفرد والدولة التي لا تمنح بالضرورة حقوقاً سياسية ولكنها تنطوي على امتيازات أخرى، لا سيما الحماية في الخارج.” (12)
وبناء على التعريفات السابقة فإن المواطنة هي جملة العلاقات التي تجمع الفرد مع الدولة والتي تتجلى في مجموعة من الحقوق والواجبات التي تحددها القوانين، ومن بين تلك الحقوق تشير أغلبية التعريفات على ضمان الحقوق الاقتصادية للفرد، وبذلك فإن المواطنة تضمن للفرد الحق في المساواة والعدالة والمشاركة الاقتصادية، مما يمنح الفرد الحق في تملك وإقامة المشاريع الاقتصادية، كجزء مما يعرف بتمكين القطاع الخاص، وبذلك فإن النموذج الاقتصادي الأكثر مواءمة مع المواطنة يتمثل في التركيز على القطاع الخاص ودعمه وبخاصة (الإنتاجي والخدمي) منه، وبذلك فإنه كلما تعززت قيم المواطنة في بلد معين كلما كانت المساهمة الاقتصادية للقطاع الخاص أعلى، وأمام هذه العلاقة الطردية، سوف نحاول في العنصر الموالي التعرف على طبيعة العلاقة ما بين الريع والمواطنة.
2. طبيعة العلاقة بين الريع والمواطنة
في كتابه “مليار نسمة تحت خط الفقر لصاحبه “بول كوليير” والذي درس فيه الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان الواقعة تحت خط الفقر، ولقد خلص في ذلك الى أن معظم الدول القابعة تحت خط الفقر تكون قابعة تحت أحد من الفخاخ الأربعة ومن بينها “فخ الموارد الطبيعية” ولقد وصف هذه البلدان قائلا: “إن البلاد القابعة تحت خط الفقر تعيش مثل غيرها في القرن الحادي والعشرين، بيد أنها تنتمي –واقعياً- إلى القرن الرابع عشر”(13) إذ إن هذا القرن اتسم بكثرة الحروب الأهلية والكوارث والجهل، كما أن مثل هذه البلدان أصبحت عاثرة في الفقر بمكان أصبح عليها تجاوز أزمة الفقر أمرا صعباً من دون الانفلات من هذه الفخاخ “أن البلدان التي تعيش تحت خط الفقر هي أقلية عاثرة الحظ، لكنها أقلية عالقة”.(14)
يرى الكاتب بأن فخ الصراع ليس الوحيد الذي يقض مضجع الدول ذات المليار نسمة، إذ يرى أن تلك الدول التي تعتمد في اقتصادها على الموارد الطبيعة وترتكز عليها ارتكازاً أساسياً قد تخفق في تحقيق تنميتها وتسقط في القاع، فـ”الدخل السريع، والمتقلب الناتج من عائدات الصادرات تصعب إدارة شؤونه”(15)، كما أن البلدان التي تعتمد على مثل هذه الموارد تميل لأن تكون دولًا غير ناجحة سياسياً وخصوصاً من ناحية التسيير لما يقع من اختلاسات وغيرها من الأمور التي تجعل من مثل هذه الدول سيئة “عائدات الموارد الطبيعية تجعل الحكومات أكثر سوءاً”(16) وتتمثل لعنة الموارد الطبيعية في كون عائداتها تجعل من النظم الديموقراطية عاجزة عن أداء مهامها بالطريقة المثلى، وذلك راجع للاحتكارات وسيطرة رجال الأموال والعصبات على مثل هذه الموارد و”من دون وجود عائدات من الثروات الطبيعية تتفوق الديمقراطيات على الأوتوقراطيات”(17) كما أن الكاتب استخلص أن “عائدات الموارد تؤدي إلى تآكل القيود المفروضة على السلطة. وهذا يؤدي الى انفلات المنافسة الإنتاجية من القيود التي تقتضي العملية الانتخابية وجودها، وهكذا تصبح الأحزاب السياسية طليقة للتنافس في الأصوات عن طريق المحسوبيات إنْ هي اختارت ذلك”(18).
وبناء على هذا المنطلق، الذي يرى فيه “بول كوليير” أن الموارد الطبيعية ليست نعمة على البلدان بقدر ما تشكل نقمة عليها، وإن كان قد خلص وبشكل صريح إلى كون الاقتصاديات التي تعتمد على الموارد الطبيعية تعزز من الأوتوقراطيات والديكتاتوريات السياسية فإن ذلك كان في سياق الحديث عن الفقر، إلا أن هناك الكثير من الباحثين الذين اشتغلوا عن طبيعة العلاقة بين الريع والنظام السياسي القائم في البلدان.
بحيث استخدم كل من “sachs” و”warmer” مصطلح “نقمة الموارد الطبيعة” وأكدوا على وجود علاقة سلبية بين الموارد الطبيعية وديمقراطية النظام السياسي(19) إذ إنه ومن الناحية المالية فإن الدولة الريعية تكون في استقلالية تامة عن المجتمع وذلك لاعتبار التمثيل مرهونًا بالضريبة “فلا تمثيل من دون ضريبة، وغياب الضريبة يمنح استقلالية للدولة وحرية التصرف”(20) ويؤكد (Mikmoore) في دراسة بعنوان political undevolopments على الفرضية القائمة على كون الدولة الريعية دولة غير ديموقراطية في قوله “في ظل غياب الضريبة لا يتم فقط إنتاج الديكتاتورية، وإنما التخلف السياسي كذلك، ويعود السبب في ذلك إلى:
- استقلالية القيادة الحاكمة في الدولة عن المواطنين من الناحية المالية،
- عدم الشفافية في الاتفاقات العامة.”(21)
ولقد أكدت دراسة (wanetchemom) و(jenesn) سنة 2000 بعنوان “political regime in africa” أن هناك علاقة بين الموارد الريعية والنظام التسلطي، وأنه كلما زادت نسبة الصادرات من الموارد الأولية بـ1% في الناتج القومي كلما زادت إمكانية الحصول على نظام تسلطي بـ8%. هذا ويلاحظ من تصنيفات المنظمات الدولية لمحاربة الفساد أن الدول الريعية تحتل مراتب متقدمة فيما يتعلق بانتشار الفساد، وبذلك فإن السياسة التوزيعية للدولة الريعية تؤدي إلى:
- شراء المعارضة ومختلف الجماعات السياسية الموجودة في الدولة عن طريق التوزيع الانتقائي للخدمات والمزايا للحصول على السلم الداخلي،
- بسط نفوذ الدولة على المجتمع وكسب الرضى الشعبي وطاعة الجماهير،
- ينحصر دور السلطة في ظل الدولة الريعية التوزيعية في إعادة توزيع الريع الخارجي،
- تجعل السياسة التوزيعية المواطنين متسامحين تجاه اللاعدالة والرشوة،
- يقوم النظام السياسي كذلك برشوة سياسية حيث تحتكر (الأسرة أو النخبة الحاكمة) السلطة في عقد اجتماعي يقوم في مقتضاه على ضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية، وفي المقابل فإن المجتمع يستفيد من هذه الخدمات لا كحقوق بل كهبات يقوم بمقابلها بالصمت ومنح حرية التصرف للقيادات من دون معارضة.(22)
3. قراءة في المؤشرات الجزائرية
تعرف الجزائر بأنها أحد أبرز دول شمال أفريقيا والعالم تصديراً للموارد الطبيعية وبخاصة منها (النفط والغاز)، وبأن الجزائر تعتمد وبشكل كلي على عائدات الريع في تسيير شؤون البلاد كغيرها من دول العالم الثالث، وفي السياق ذاته فإن الجزائر قد شهدت في العام (2019) حراكاً شعبياً هائلاً يطمح لإقامة دولة المواطنة والذي كان شعاره البارز “دولة مدنية ماشي عسكرية” إلا أن هذا الحراك كغيره من الهبات التي حصلت في السودان ومصر وليبيا ولبنان والعراق واليمن وسوريا وغيرها، باء بالفشل على الرغم من إحرازه لبعض التقدمات التي سرعان ما تراجعت للوراء أسوأ مما كانت، والملاحظ في هذا الشأن بأن الأنظمة دائما ما تنتصر في تفكيك هذه القوى الجماهيرية بفعل احتكار كل من (القوة، والثروة)، فإذا كان من الطبيعي على النظام بأن يحتكر القوة باعتباره ممثلا للدولة وأن الدولة هي الوحيدة المخولة لها استخدام القوة والعنف، فإنه من غير الطبيعي على الدولة أو النظام أن تحتكر الثروة، إلا أن واقع اقتصاد الريع يفرض ذلك بحيث يجعل من الدولة أو النظام محتكراً لأهم عنصرين يعيقان التحول الديمقراطي أو قيام دولة المواطنة ألا وهما (القوة والثروة)، ومن خلال هذا العنصر سوف نحاول استقراء بعض المؤشرات والدلالات الاقتصادية بالجزائر ومقارنتها بالترتيبات والتصنيفات ذات العلاقة بمقومات دولة المواطنة.
من خلال الجدول -01- وتمثيله البياني واللذين يبينان أن مداخيل الجزائر من مصادر الريع وبخاصة من قطاع المحروقات تجاوزت الـ(69%) مقارنة بالمداخيل خارج قطاع المحروقات (الصناعات الإنتاجية) والتي شكلت ما نسبته (4%) من مداخيل الجزائر لسنة (2020)، ومن خلال ذلك فإنه يمكن اعتبار الجزائر دولة ريعية بامتياز، إذ سبق لنا أن عرفنا الدولة الريعية بأنها تلك الدولة التي يتجاوز مساهمة القطاعات غير الإنتاجية أو الريعية فيها 50% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما، وبناء على ذلك فإن الافتراض النظري الذي انطلقت منه هذه الورقة والذي يفيد بأن هناك علاقة قائمة بين الموارد الريعية والنظام التسلطي، وأنه كلما زادت نسبة الصادرات من الموارد الأولية في الناتج القومي كلما زادت إمكانية الحصول على نظام تسلطي، وهذا ما تثبته الترتيبات الدولية للجزائر في ما يخص بعض مؤشرات المواطنة وهي ممثلة في الجدول التالي.
يبين الجدول (02) أن الجزائر تحتل مراتب متأخرة جدًّا في ترتيب دول العالم في ما يخص مؤشرات دولة المواطنة، وأنها تعاني من أمراض “سوسيو اجتماعية” متعددة كتدني مستوى الديموقراطية والحرية وسيادة القانون، فضلاً عن انتشار الفساد والمحسوبية، وكل هذه الأمراض تجعل من الدول –الجزائر في هذه الحالة- أبعد ما يمكن من تجسيد دولة المواطنة المنشودة، وهذا ما سبق أنْ أشرنا إليه في مقدمة هذه الورقة، وفي أن المقاربات التي من شأنها تعزيز قيم المواطنة عديدة ومن أهمها المقاربة الاقتصادية، فإن الطبيعة الريعية للاقتصاد يعزز من سلطوية النظام؛ فبحسب حسن المهداوي فإن الريع يؤدي إلى الميل للتضخم في حجم الدولة على حساب القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وبذلك بيروقراطية أكثر وهو المناخ الأكثر ملائمة لانتشار الفساد الإداري والمالي، فضلا عن ضعف الرقابة التمثيلية التي تفرز مزيدا من التعديات على سلطة القانون، وفي أن الريع يشجع على تضخم القوات الأمنية والمسلحة فذلك يؤول بالضرورة إلى تراجع في مستوى الحريات بالمفهوم العامة وبخاصة الصحافية منها والتي تعد أهم أدوات السلطة الديموقراطية، وفي أن نموذج الاقتصاد الريعي يخلق طبقات اجتماعية متفاوتة بحسب قربها من نظام الحكم وبعدها عنه، فإنه -وبخاصة في الجزائر- يشجع على خلق تراتبية جنسية بحيث يخضع النظام صاحب الثروة المواطنين، ويخضع المواطنون –الرجال- النساء باعتبارهم الطبقة الأكثر احتكار للثروة مقارنة بالعنصر النسوي؛ أي أن النموذج الريعي للاقتصاد الجزائري أثمر تراتبية طبقية مختلفة عن المفهوم الكلاسيكي للمصطلح، بحيث إن هذه الطبقية الجديدة قائمة على أساس الاستفادة من أموال الريع بشكل هرمي، كالشخصيات السياسية والعسكرية النافذة التي تشكل أعلى الهرم الطبقي وبذلك فهي الأكثر استفادة من الريع، ومن ثم تليها طبقة رجال الأعمال وكبار التجار وتليهم طبقة الياقات البيضاء… وتستمر ذات التراتبية إلى قاعدة الهرم الطبقي حيث الطبقة المتوسطة، ومنه فإن مؤشرات المواطنة ترتبط بشكل وطيد بالحرية والاستقلالية المالية التي يفرضها النظام الاقتصادي.
خــــــاتمة
تقوم دولة المواطنة على أسس من العدالة والمساواة بين المواطنين باعتبارها مصدرا للشرعية السياسية، وذلك لا يتحقق إلا من خلال نظام اقتصادي يضمن الكرامة الإنسانية لهم، ويتيح الفرص المتساوية لجميع المواطنين للعمل والإنتاج “دعه يعمل، دعه يمر” فالاقتصاد الإنتاجي الذي يقوم في أساسه على الإنسان وملكاته الذهنية يمُكنه من المشاركة الفعالة في محيطه الاجتماعي والسياسي وبذلك يخلق نوعًا من الموازنة في توزيع الثروة التي تضمن للمواطن حقوقه الإنسانية الكاملة وتأهله في الوقت ذاته لأداء واجباته تجاه الوطن.
ومن ثمة، فإن اقتصاد الريع يجعل من المواطنين مجرد مستهلكين للثروات الريعية ومن الدولة مجرد موزع لعائدات الريع، وأمام هذا الوضع؛ تخبو المساهمة الفعلية للمواطنين في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتتحرر السلطة من سيادة القانون، وعلى إثر ذلك يتبلور واقع سياسي سلطوي يدفع بالدول نحو الانهيار التام، ويحول واقع المواطنين إلى سجن أوتوقراطي يتنافى والقيم الإنسانية.
ومن خلال ما تقدم نستنتج بأن طبيعة العلاقة الكامنة ما بين الريع والمواطنة هي علاقة تضاد، بمعنى أنه كلما زادت نسبة الريع في دولة معينة كلما كانت هذه الدولة أقرب إلى الديكتاتوريات وأبعد عن مفاهيم المواطنة، بحيث أن اقتصاد الريع يعتمد على الموارد الطبيعية في أغلب الأحيان وتكون مصادره خارجية من خلال تصدير هذه الموارد والمتلقي لعائدات الريع يكون النظام أو الحكومة بشكل حصري، الشأن الذي ينعكس في إضعاف دور المواطن في العملية السياسية والمشاركة في السلطة واتخاذ القرار.
إلا أنه ومن أجل بلوغ دولة المواطنة لا بد من جميع القطاعات الخاصة بالدولة أن تدور في فلك المواطن وأن يكون المواطن مصدرا لها، أي أنه كلما كانت الدولة تعتمد على اقتصاد إنتاجي يكون المواطنون طرفاً أساسياً فيه فإن الدولة وأجهزتها تصبح طرفا من بين الأطراف المتعددة لإنتاج الثروة والرقابة عليها من خلال تحصيل الضرائب، الشأن الذي سيفرض على النظام أو الحكومة التعامل مع المواطن باعتباره مصدراً للثروة ومن ثمة مصدراً للسلطة والشرعية.
مراجع
قاموس المعاني. متاح على: https://www.almaany.com
الموسوعة السياسية. مفهوم الريع. متاح على: https://political-encyclopedia.org
Paul lincoln kleinsorge. Rent. Britanica : https://britanica.com
الراجحي، عصام الدين. مدخل إلى مفهوم دولة الريع والزبونية: تاريخ كرتالات العائلات المتنفذة بتونس. عربي21، 2020. متاح على: https://m.arabi21.com
الموسوعة السياسية. مرجع سابق.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه.
عماني، لمياء؛ زغيب، شهرزاد. إدارة الموارد بين الدولة والسوق والتنمية المستدامة في الاقتصاديات الريعية –حالة الجزائر.
المرجع نفسه.
- https://www.coe.net/ar_JO/compass/citizenship-andparticipation
الموسوعة السياسية. مرجع سابق.
Britanica. Citizenship. Avolibal at : https://www.britanica.com/topic/citizenship
بول كوليير. مليار نسمة تحت خط الفقر: لماذا تخفق البلدان الأشد فقرا في العالم؟ وما الذي يمكن عمله حيال ذلك؟. المملكة العربية السعودية: العبيكان للنشر، 2010. ص. 21.
المرجع نفسه. ص. 25.
المرجع نفسه. ص. 88.
المرجع نفسه. ص. 90.
المرجع نفسه. ص. 93.
المرجع نفسه. ص. 100.
حياة، طراب؛ شهيرة، زغدود. الاقتصاديات الريعية في المنطقة المغاربية وتأثيرها على التنمية: دراسة حالة الجزائر 1986- 2015. ماستر: علوم سياسية وعلاقات دولية: جامعة مولود معمري،2016، ص.35-38.
المرجع نفسه. ص. 35-38.
امنصورات، سوهيلة. الفساد الاقتصادي ومشكلة الحكم الرشيد وعلاقته بالنمو الاقتصادي. ماجيستار. كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير.2006، ص. 105.
حياة، طراب؛ شهيرة، زغدود. مرجع سابق، ص. ص.35-38.