تعبتني يا فضيلة الإمام
“تعبتني يا فضيلة الإمام” عبارةٌ للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وجهها للإمام الأكبر أحمد الطيب يمكنها أن تختزل تباينات رغبات التغيير والإصلاح وتشدد المواقف التقليدية بين سلطة النظام المصري والسلطة الدينية المتمثلة في الأزهر. فيما تمثل قوانين ازدراء الأديان العصا الغليظة لتيار الموقف التقليدي التي تلوح بها في وجه تيار التنوير الثقافي والإصلاح الديني.
مؤخراً يواجه المستشار والباحث المصري أحمد عبده ماهر تهمة ازدراء الأديان التي يمثل بموجبها أمام القضاء المصري، والذي أطلق نداء استغاثةٍ للرئيس السيسي للتدخل لوضع حدٍ لما يمكن أن يحدث له، حيث تحدد عقوبة الإدانة بهذه التهمة بالسجن لفترةٍ تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات، وهي أحكام سبق وتعرض لها الكثير من الشباب والناشطين المصريين على خلفية نقدهم للموروث الديني الإسلامي وسلطة الأزهر.
إستراتيجية حقوق الإنسان
تعتبر مسألة حرية الفكر والاعتقاد وممارسة النقد العلني للأديان أو طرح أفكار الإصلاح الديني والتنوير إحدى أهم المسائل الشائكة والمثيرة للجدل على الساحة الثقافية العربية عموماً والمصرية على وجه الخصوص. هذا وتختلف التفسيرات والسياسات في التعامل مع هذه المسألة في مصر.
وفي السياق ذاته، في مؤتمرٍ دشنته الرئاسة المصرية سبتمبر الماضي، أعلن الرئيس السيسي عن إستراتيجية وطنية لحقوق الإنسان تهدف لتطوير سياسات وتوجهات الدولة المصرية في التعامل مع الملفات ذات الصلة لتعزيز احترام جميع الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والتي كان حرية الفكر والاعتقاد أحد أهم النقاط التي ركز فيها الرئيس المصري حديثه في كلمته في المؤتمر.
من جهةٍ أخرى، يواجه الكثير من الباحثين والناشطين المصريين مخاوف المقاضاة بتهمٍ تتعلق بتعبيرهم عن آرائهم في المسائل الدينية ومخالفة الموروث والمؤسسات الدينية القائمة عليه كالأزهر. الأمر الذي يراه بعضهم بأنه تناقضٌ يظهر تباينات التوجهات الإصلاحية في السلطة ومقاومة المؤسسة الدينية لحركة التغيير التي يحاول التيار التنويري والسلطات المصرية فرضها لتحسين أوضاع حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب.
الكاتب والروائي اليمني، عبدالرحمن الخضر، في حديثٍ له في ذات السياق لـ”مواطن” يشير إلى التيارات المتعارضة المواقف داخل السلطة ذاتها في هذا الشأن، حيث يقول: ” السيسي أو النظام القائم سيكون محكوماً بالنظم والقوانين واللوائح المعمول بها في مصر، وخلال الهيئات والمؤسسات ومراكز التأثير فيما نسميه بالدولة العميقة”.
يضيف الخضر : “..عملية التغيير في مصر تتطلب ولاشك وقتاً كافياً وطويلاً، فحين نقول بالاحتكام إلى الدستور والقانون، والفصل بين السلطات، والاشتغال على المؤسسية، وهي مفاهيم ديمقراطية شكلاً، فإن الأزهر في مصر مؤسسة، وقانون العقوبات الذي يحتوي ويحدد العقوبة اللازمة فيما يتعلق بازدراء الأديان، وتعريف هذا المفهوم هو قانون يشتغل عليه القضاء، ومتضمنٌ في الدستور بصورة أو بأخرى. وهنا فالخلل واقعٌ في الأسس ذاتها التي تقوم عليها الدولة، القوانين السارية، وواحد منها هو الانتقاص الكبير والواضح لحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقه في التعبير عن الرأي”.
السيسي أو النظام القائم سيكون محكوماً بالنظم والقوانين واللوائح المعمول بها في مصر، وخلال الهيئات والمؤسسات ومراكز التأثير
عبد الرحمن الخضر Tweet
أما الكاتب والباحث المصري، سامح عسكر، فيقول في حديثٍ له مع “مواطن” بأن : “هناك تناقضًا بين كلام الدولة وفعلها على الأرض يجب أن نكون صُرحاء، فالوقت وقت مكاشفة، إن الذي يحدث على الأرض مختلف عن الذي يجري في الإعلام بشكل كبير، لكنه ليس بشكل مطلق فمن الواضح أن خطة الرئيس بنشر الحريات الفكرية والعقائدية يطبق منها جزء بسيط، وأنا شخصيا كانت لي حلقة في الفضائية المصرية تحدثت فيها عن التنوير بأريحية..لكن قضايا ازدراء الدين تنسف كل ما سبق وتعيد مصر مرة أخرى للقرون الوسطى كعقل وتفكير.. وربما طريقة عيش فيما لو نجح الدواعش لا قدر الله من حكم مصر”.
المادة 98
تحدد المادة 98 من قانون العقوبات المصري عقوبةً بالسجن مدة تراوح بين 6 أشهر و5 أعوام وغرامة لا تقل عن 500 جنيهٍ مصري ولا تجاوز 1000 جنيهٍ مصري، أي ما يقارب 31 و63 دولاراً أميركياً لكل “من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية”.
على الجانب الآخر، يعتبر الكثير من الناشطين المصريين هذه المادة عائقاً في وجه الإصلاح الديني ومواجهة الأفكار التقليدية التي تمثل مرجعاً لسلوكيات التيارات المتطرفة حسب زعمهم ويطالبون بعملية إصلاحٍ قانونيةٍ وقضائية تبدأ بهذه المادة والقوانين ذات الصلة التي يمكن لها أن تحد من حريات الرأي والتعبير والتي تمنح المؤسسة الدينية الحماية من النقد.
يقول الباحث سامح عسكر في جوابٍ له على سؤالٍ طرحته “مواطن” حول إمكانية أن تشهد المنظومة القانونية تحولاً للأفضل بخصوص القوانين المتعلقة بالازدراء وحريات الاعتقاد والفكر: “أتمنى ذلك وأتوقعه بشدة، فقانون الازدراء صار سيئ السمعة وقضاياه في الإعلام باتت مثيرة وتصيب أبرياء بشكل كبير. والقاعدة التشريعية أن عجز القانون عن الإدانة وكثرة حالات البراءة بشكل يقترب من الظاهرة يستدعي فوراً إعادة النظر في القانون سواءً بإلغائه أو تعديله”.
ويضيف: “ومعلوماتي أن أغلب قضايا ازدراء الدين حصلت على البراءة، لكن تأثيرها الاجتماعي النفسي يظل سيئاً على المتهم، مما يعني أن دوافع المدعين في تلك القضايا هي تشهير واغتيال معنوي أكثر منها غيرة على الدين واستجلاء الحقائق”.
أغلب قضايا ازدراء الدين حصلت على البراءة، لكن تأثيرها الاجتماعي النفسي يظل سيئاً على المتهم
سامح عسكر Tweet
أما الكاتب والروائي اليمني عبدالرحمن الخضر فيرى بأن المشكلة أساساً تتجاوز المنظومة القانونية وقانون العقوبات المصري، إذ يقول : “المشكلة برأيي تتحدد أساسا في الثقافة التقليدية النقلية للمجتمع، واستجابة المجتمع التلقائية والفورية فيما يشبه الغريزة إلى كل دعوة تحت يافطة الدفاع عن الدين، وهي دعاوى عادة ما تكون تحريضية تشتغل على العقل الباطن للمجتمع المسلم ولا تتطلب جهداً يذكر للتثقيف بها، فهي متراكمة ومحفوظة في العقل الباطن للمجتمع المسلم وقابلة للاستدعاء فوراً مقارنة مع ما تتطلبه عملية التنوير والتحديث في العقل العربي من جهود جبارة وبرامج معقدة وتكلفة كبيرة على المستويين الشخصي والعام”.
الإصلاح الديني والدين التقليدي
في مؤتمر حضره رئيس جامعة القاهرة وشيخ الأزهر، يناير 2020، شهد سجالاً بين الاثنين في الوقت الذي كان رئيس جامعة القاهرة محمد الخشت ينتقد الموروث الديني الذي اعتبره أحد أسباب التأخر الحضاري ويطرح ضرورة فكرة الإصلاح الديني في الإسلام ورفضه شيخ الأزهر أحمد الطيب قائلاً للخشت “ابحثوا عن مشكلةٍ غير التراث” مشيراً إلى أن المشكلة لا تتعلق بالدين وإنما بالسلطة والإدارة.
يصف عبدالرحمن الخضر هذا الموقف المتشدد للتراثية بما يقوله بأن: “الإصلاح الديني مفهوم، أو هو مصطلح غير أصيل في منظومتنا الدينية، بل -فوق ذلك- فهو ومن هذا المنظور ضدٌ على الدين كيفما كان، لأن الدين كامل وتام وحاوٍ لكل متطلبات حياتنا، ومتطلبات آخرتنا، وأي دعوة لإصلاحه فهي اعتراف بنقص أو خلل فيه، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق. وهذا ما يشتغل عليه الأزهر أو أي مؤسسة أو هيئة دينية في منطقتنا العربية، فكل الأمور قد حسمها الفقهاء مع نهاية القرن العاشر، وكل شيء حتى قيام الساعة قد تمت الإحاطة به هناك، وأي جديد ليس غير ضلالة”.
ويعلق الخضر متسائلاً حول جدوى الإصلاح الديني في المنظومة الإسلامية: “وبرأيي فلن تكون من جدوى من عملية إصلاح تشتغل على الأدوات الدينية ذاتها، وتعيد تدوير المشكلة ذاتها، فهل من نتائج ترتبت على تلك المحاولات التي تمت سابقا لمحمد عبده وعلي عبدالرازق وجمال الدين الأفغاني وغيرهم؟”.
ويضيف الخضر: “ثم إن المفهوم الذي سيضعه بين أيدينا مصطلح الإصلاح الديني يكاد يكون تكرارا غير موفق لعملية الإصلاح الديني كتجربة تمت فعلاً في أوروبا خلال القرون الوسطى. تلك التجربة التي استندت في نسبة كبيرة منها على التراث الفلسفي والحضارة الرومانية فيما أسموه بـ المدرسية. وهنا يمكننا أن ننعت توما الأكويني وهو رائد عملية الإصلاح الديني في المسيحية بالفيلسوف ورجل الدين في آن واحد. فلقد تتلمذ هذا” القديس” على يد “أستاذ فلسفة” هو ألبير الكبير. في عملية الإصلاح في المسيحية خلال القرون الوسطى كانت هناك صلة بين مفاهيم الكنيسة والمفاهيم الفلسفية، مما أتاح مجالا واسعا ومرنا لتلاقح الأفكار وتبادل الرؤى بين الدين والفلسفة، والعلوم لاحقا. لكنا نحن سنطلق على رجال الدين لدينا صفة” أولي العلم” والعلم هنا يعني الإلمام بكل صغيرة وكبيرة، بخلاف كل الفئات الأخرى في المجتمع، بمن فيهم علماء الطبيعة والاجتماع، ولذلك فهم وحدهم من يتولون شرح وتفسير وعرض ليس المسائل الدينية فحسب، بل وحتى مختلف شؤون حياتنا”.
المستشار عبده ماهر
المستشار والباحث المصري أحمد عبده ماهر والذي تم إحالته لمحكمة جنح أمن الدولة بعد تقديم المحامي سمير صبري بلاغاً بحقه يتهمه فيه بازدرائه الأديان والظهور على القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي والإساءة للسنة النبوية والدين الإسلامي والصحابة ومؤسسة الأزهر، الأمر الذي حدا بالمستشار ماهر مناشدة الرئيس السيسي للتدخل في قضيته.
هذا ويحذر الباحث سامح عسكر من مغبة تعرض شخصٍ مثل المستشار ماهر للسجن حيث يقول: “المستشار عبده ماهر ليس مفكرا عادياً، هذا من أوائل الذين انتقدوا التراث في الإعلام والصحافة، وله جمهور كبير جدا في العالم العربي والإسلامي، وتأثيره يتخطى الحدود لوضوحه الشديد. وعندي أن الوضوح قوة، مما يعني أن حضرة المستشار هو من مراكز قوى التنوير إذا جاز الوصف، والإجهاز عليه بسجنه يمثل ضربة كبيرة للتيار المستنير وخصوم الشيوخ بالمجمل”.
ويضيف عسكر: “من مصلحة رجال الدين أن يقفوا مع المستنيرين أمثال المستشار عبده ماهر وإسلام بحيري وغيرهم، فصراعاتهم البينية لا حل لها سوى بالتكفير والكراهية والحرب، بينما تيار التنوير يضع تلك الصراعات في موضعها الحقيقي وهو (التنوع) تحت إطار من السعة والقبول. لكن رجل الدين في الغالب لا يفكر بهذا الشكل، فهو يريد إعلاء مذهبه الديني وأئمته فوق العالم ككل وليس فقط على العرب والمسلمين. عقلية أحادية لا تعرف سوى الأبيض والأسود، وقليل فقط منهم من يوافقون التيار المستنير لكنهم ضعفاء وليسوا بالشوكة المؤثرة..”.
أما الكاتب والروائي اليمني الخضر فيقول معلقاً على واجب التيار التنويري تجاه قضية مثل قضية المستشار ماهر: “برأيي أننا بحاجة إلى تيار مدني قوي وفاعل، وليس إلى رجال دين معتدلين أو غير معتدلين، ليس لأجل الدفاع عن الدكتور أحمد ماهر كحالة فردية فحسب، بل للضغط والتأثير على المنظومة الحاكمة من أجل إعادة النظر في القوانين السارية، ومدى ملاءمتها واستجابتها للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي تفعيل المؤسسات المدنية الليبرالية للعب دور فاعل ودائم ومتطور لخلق الظروف اللازمة لإحداث التغيير نحو الاعتراف بحق الاختلاف ومواكبة العصر”.
الازدراء والإرهاب
في معرض سؤالٍ وجهته مواطن للباحث سامح عسكر والكاتب عبدالرحمن الخضر حول تأثير قانون الازدراء في انتشار الإرهاب وتوسع أنشطته الفكرية المستمدة من الموروث المتطرف حسب زعم أنصار التنويري وبين الغاية الحقيقية لقانون الازدراء أجاب عسكر بقوله: “هذا قانون معيب كونه يعطي حصانة لرجل الدين لا الدين نفسه، يعطي حصانة للمتحدثين باسم المعتقدات لا المعتقد نفسه..”.
أما الخضر فقد كان رده بأن استمرار هذا القانون يمثل غطاءً يمكن له أن يسهل انتشار الإرهاب المستند على الموروث المتطرف كفكرٍ في الحد الأدنى منه، حيث يقول: “ممكن جداً، إذا ما بقيت المنظومة القانونية على ما هي عليه متضمنة العقوبات القديمة على ما يسمى بالازدراء الديني، فهو مفهوم مطاط وغير محدد، ومتربص وكيدي. وفوق ذلك فهو يشتغل على درجة عالية من الحساسية لدى المجتمع مادام الأمر يتعلق بالمسألة الدينية. دعنا نستعرض المادة 98 من قانون العقوبات المصري فيما يتعلق بالتهم التي ذكرتها هذه المادة في إطار الازدراء الديني، فسنجد أن كل تهمة من هذه التهم تتوفر على سيولة فائقة في التفسير، بحيث يمكن استخدامها لتكميم الأفواه، ولتحقيق مصلحة الحاكم، ولتبرير-بصورة أو بأخرى- أعمال العنف ما دامت هي بحق هذا الذي أثار الفتنة وأضر بالوحدة الوطنية”.