اشتهرت بلاد فارس منذ عشرات القرون، بكونها ذلك البلد الذي أسهم بالقدر الأكبر من التأثيرات الدينية السائدة في الشرق الأدنى القديم. إيران التي كانت مهد الزرادشتية، شهدت تصاعد المانوية والمسيحية النسطورية، كما أنها احتضنت الإسلام ولعبت دوراً مهماً في تقديم نسختيه الشيعية والصوفية، فضلاً عن أن النسخة السنية منه قد تم تطويرها على يد الكثير من العلماء والمفسرين من ذوي الأصول الفارسية الأعجمية.
تعدد الديانات والمعتقدات في إيران، جرى تفسيره بكونه انعكاساً للاختلافات البيئية والجغرافية، ذلك أن اختلاف شكل التضاريس الإيرانية وتنوعها ما بين الغابات المدارية والوديان والصحراء، قد ساعد في خلق مناخ ثقافي- ديني متنوع، يعمل على الجمع بين المؤثرات الشرقية القادمة من الهند والصين من جهة، والمؤثرات الغربية القادمة من بلاد الرافدين واليونان من جهة أخرى.
رغم تلك الحالة الدينية الفسيفسائية المثيرة للإعجاب، تبقى الزرادشتية أشهر الديانات الإيرانية القديمة التي تمكنت من البقاء حتى اللحظة، الأمر الذي يتطلب إلقاء المزيد من الضوء على تلك الديانة الفارسية التي أثبتت وجودها في العالم القديم.
الكوستي، والأفيستا، والداخما: منظومة الطقوس الزرادشتية
على الرغم من الشهرة الكبيرة التي تتمتع بها الديانة الزرادشتية، إلا أن أكثر ما نعرفه عن مؤسسها زرادشت، يبقى قليلاً، وغير موثق. في الحقيقة توجد الكثير من الآراء المتضاربة التي تحيط بالفترة التاريخية التي عاش فيها زرادشت، منها أنه عاش في بداية الألف الأول قبل الميلاد، ومنها أنه قد عاش في القرن السابع قبل الميلاد، وكما هو ملاحظ فإن الاختلاف بين الرأيين واسعٌ لدرجة كبيرة، الأمر الذي يكشف عن الحيرة التي تحيط بشخصية هذا المؤسس الغامض.
بحسب المعلومات المتوافرة، فإن زرادشت قد عاش في شمال شرق إيران، ولا نعرف الكثير عن حياته، وإذا جاز لنا أن نصدق الأساطير التي روجت عنه، فإنه قد عمل على نشر الزرادشتية في موطنه الأول، ولما قوبل بالرفض والعنت من أهله، هرب إلى مكان جديد، وتمتع بحماية أحد الملوك، ولم يلبث أن دخل الناس في دينه بعدها أفواجاً.
تعاليم الزرادشتية الأهم، وصلتنا من خلال سبعة عشر نشيداً، تُعرف باسم “الغاثا”، أما الكتاب المقدس عند الزرادشتيين فيسمى بـ”الأفيستا”، وقد تم تدوينه بحسب أرجح الأقوال في القرن الخامس الميلادي، وفي القرن التاسع الميلادي دونت بعض الكتب الزرادشتية التي حاولت أن تدافع عن الدين ضد الدعاية المسيحية والإسلامية، وحفظت لنا تلك الكتابات الكثير من معتقدات الزرادشتيين القدماء.
تعاليم الزرادشتية الأهم، وصلتنا من خلال سبعة عشر نشيداً، تُعرف باسم "الغاثا"، أما الكتاب المقدس عند الزرادشتيين فيسمى بـ"الأفيستا"
بحسب ما يذكر الباحث السوري فراس السواح في “موسوعة تاريخ الأديان”، فإن الزرادشتيين يتميزون ببعض السمات الظاهرية في اللباس، على سبيل المثال ارتداؤهم للحزام المقدس المعروف باسم “كوستي”، والذي يتكون من اثنين وسبعين خيطاً، مصنوعين من صوف الخروف الأبيض، وتشير عدد خيوطه إلى فصول “الياسنا”، وهي أهم أجزاء الأفيستا. أيضاً يرتدي الزرادشتيون القميص الأبيض الذي يُعرف باسم “السادري”، والذي يرمز للدين الزرادشتي نفسه.
مثلهم مثل المسلمين، يؤدي الزرادشتيون الصلاة في خمسة أوقات يومية، كما أنهم يمارسون احتفالات خاصة في الأحداث المهمة في الحياة، ومنها الولادة وسن البلوغ والزواج والحمل والموت. أما أغرب طقوسهم، فهي تلك المتعلقة بالدفن والجنائز، ذلك أن الزرادشتيين لا يدفنون أمواتهم في الأرض أو يحرقون جثامينهم كحال الأغلبية الغالبة من الديانات، بل يقومون بنقل جثامين الموتى إلى أبراج دائرية مقامة في الهضاب العالية في الصحراء، وهي التي تُعرف باسم أبراج الصمت أو “الداخما”.
بحسب ما هو معروف في الطقوس الزرادشتية التي ما تزال تُمارس حتى اللحظة، فإن الجثمان يتم غسله ببول الثور، ثم يوضع على ثياب بيضاء ليلقي عليه الناس نظرة الوداع، ويكون هناك كلب بالقرب من الجثمان لطرد الأرواح الشريرة التي تريد الاقتراب من المتوفى، وبعدها يُنقل الجثمان للداخما، ويُقرأ عليه مجموعة من الصلوات المخصوصة، ثم تزال الأثواب من على الجثمان، ويُترك للنسور والطيور الجارحة التي تلتهم الجثة، حتى إذا ما بقي منها العظام، فإنها تُجمَع وتُلقى في حفرة واسعة موجودة في وسط البرج.
يمكن أن نفسر تلك الطقوس الغريبة، بكونها تتماشى مع الاعتقاد الزرادشتي بأن جثمان الميت هو مسكن الشيطان، وأنه إذا ما دُفنت الجثة أو حرقت، فأنها سوف تلوث عناصر الطبيعة، ومن ثم فقد وجب التخلص منها بتلك الطريقة.
التوحيد، والتجريد، ورفض الشعائر: التصور المبكر للزرادشتية
في بحثهما المهم عن الزرادشتية، يفرق الباحثان جيفري باريندر وجون نوس بين النسق الفكري المبكر الذي قام عليه الدين الزرادشتي في بداية أمره، وما انتهى إليه هذا الدين في نسخته الباقية بعد أن مر بالكثير من التطورات المهمة عبر القرون.
يرى الباحثان أن زرادشت قد عبر عن معتقده في ثماني نقاط رئيسة، أولها أنه قد تلقى هذا المعتقد رأساً من الإله أهورامزدا، وأن هذا الدين “هو الدين الأخير ودين الحق”، وثانيها هي الاعتراف بإله واحد لا شريك له، إذ آمن زرادشت “أنه بإرادة الرب العلي أهورامزدا قد ظهر كل شيء إلى الوجود”، وثالثها أن أهورامزدا قد خلق العالم والموجودات عبر وسائط متنوعة للفعل الإلهي، ومنها على سبيل المثال كل من الروح القدس المسمى “سبينتاماينو”، والكائنات الخالدة القدسية، “الأميشاسبينتا”، والتي تعبر عن الأفعال الأخلاقية، وغيرها من الوسائط التي كانت تميل إلى أن تكون مفاهيم وأفكار وروحانيات أكثر من أن تكون كائنات مادية حقيقية.
النقطة الرابعة تتمثل في الاعتقاد بوجود الشر، وأنه يعارض الخير، فإذا كان أهورامزدا هو إله الخير والحق، فإن هناك أيضاً الروح الخبيثة المسماة بـ”أنغرا ماينو”، وإذا كان زرادشت قد أكد في النقطة الخامسة أن روح كل إنسان هي مركز الجهاد بين الخير والشر، وأن أهورامزدا قد منح الإنسان الحرية الكافية ليقرر أفعاله، وليختار بين الحق والباطل، فإنه قد أقر في النقطة السادسة بأن الخير والشر غير محددين بوضوح، “فالناس الأخيار بالنسبة لزرادشت هم أولئك الذين قبلوا الدين الحق، والناس الأشرار هم الذين رفضوا هذا الدين، ولا سيما أولئك الذين استمروا في ممارسة طقوس الديانة الشعبية بالإضافة لعبادتهم للآلهة القديمة المدعوة بالديفا”.
أما النقطة السابعة، فتتمثل فيما ذهب إليه زرادشت من تنقية الطقوس الدينية من السحر والوثنية، إذ أُلغيت الأضاحي الحيوانية بشكل كامل، كما تم منع طقوس السكر وغياب الوعي، وعُدت من المنكرات، ولم يُستثنَ من جميع تلك الطقوس القديمة، إلا طقس احترام النار المقدسة، وهو الطقس الذي ظل زرادشت يمارسه بانتظام طوال حياته، حتى قيل إنه قد قُتل وهو يؤدي صلاته للنار المقدسة. أخيراً، وفي النقطة الثامنة من المعتقد الزرادشتي المبكر، يذهب الباحثان إلى أن الاعتقاد السائد كان يرى أن أهورامزدا سوف ينتصر في نهاية الزمان، وأن النفوس سوف تخضع للحساب الفردي، قبل أن يحين موعد البعث الشامل.
تأليه زرادشت، وصعود أهريمان، وتفاصيل الحساب والعقاب: النسخة المتطورة من الزرادشتية
يعتقد الباحثان –باريندر ونوس- أن كهنة الماجي (المجوس) –وهم كهنة الأديان القديمة في إيران- الذين حاربوا الزرادشتية في أول أمرها، قد اضطروا في نهاية المطاف للتسليم بانتصار تلك الديانة الجديدة، فاعتنقوها وعملوا على نشرها بعد أن أدخلوا فيها الكثير من أصول أديانهم القديمة، وبذلك ظهرت النسخة المتطورة من الزرادشتية، والتي قُدر لها الانتشار والذيوع.
أولى التغيرات التي لحقت بالنسخة القديمة من الزرادشتية، أن المؤسس قد ظهر في النسخة الجديدة على شكل شبه إلهي، فلم يعد مجرد نبي تلقى الوحي من أهورامزدا، بل صار –في الحقيقة- صاحب ظواهر خارقة ونبوءات غيبية متعددة، وفي هذا السياق، تحكي الأساطير الزرادشتية أن الطبيعة بكل ما فيها قد فرحت في يوم مولد زرادشت، وأن الشياطين والسحرة قد طوقوه وكادوا أن يقتلوه في مهده، غير أن ثوراً يقود قطيعًا، قد خرج ووقف فوق الطفل ليحميه بالكامل، وبعدها نُقل زرادشت إلى كهف بعض الذئاب، وأرضعته بعض النعاج من ألبانها.
وإذا كانت أولى التغيرات كانت متعلقة بصورة النبي زرادشت، فإن ثاني التغيرات قد ارتبطت بصورة الإله نفسه، إذ إن أهورامزدا الذي لطالما صور قديماً بوصفه الإله العلي، الأول والآخر، قد تخلى عن الكثير من نفوذه وكبريائه لصالح بعض الآلهة الآرية القديمة، تلك التي شاركته السلطة والحكم، ومن بين تلك الآلهة كل من الإله فوهومانا الإله الوصي على الماشية، والإله آشا الإله الوصي على النار، والإله كشاترا رب المعادن، والإلهة أرمايتي إلهة الأرض، والإلهة هورفاتات إلهة المياه. أما أعظم الآلهة الذين تمكنوا من مزاحمة أهورامزدا فقد كان الإله ميترا، الذي صار اسمه يُذكر بانتظام مع أهورامزدا في عصر الأخمينيين.
أولى التغيرات التي لحقت بالنسخة القديمة من الزرادشتية، أن المؤسس قد ظهر في النسخة الجديدة على شكل شبه إلهي، فلم يعد مجرد نبي تلقى الوحي من أهورامزدا، بل صار –في الحقيقة- صاحب ظواهر خارقة ونبوءات غيبية متعددة
أيضاً، أُعيدت الهاوما، الخمرة المقدسة، وقُدمت الأضاحي الحيوانية لزرادشت، وفي بعض الأحيان ظهر الادعاء بأن أهورامزدا نفسه يقوم بتقديم الأضاحي لكل من الإله ميترا والإلهة آناهيتا. من هنا يمكن القول إن التوحيد الذي اتصفت به الزرادشتية المبكرة قد ارتكس إلى التعدد، وأنه بدلاً من وجود أهورامزدا كإله واحد أحد، ظهرت الكثير من الآلهة التي تتشابه إلى حد بعيد مع بانثيون الآلهة في اليونان ومصر وبلاد الرافدين.
يرتبط بما سبق، ثالث التغيرات، ألا وهو ذلك الذي يمكن ملاحظته بوضوح في تطور عقيدة الشر بشكل متزايد، واقترابها من الثانوية الأخلاقية، إذ تطور أنغرا ماينو إلى أهريمان، وصار هذا الأخير هو الشيطان الأكبر المناظر لأهورامزدا نفسه، واعتبرت الأدبيات الزرادشتية المتأخرة أن خلق العالم كان فعلاً مشتركاً فيما بينهما، وأن أهورامزدا هو خالق الحق والجمال والخير، وأن أهريمان هو خالق الشر والظلام والباطل. هذا التطور نتج عنه ظهور ما يُعرف باسم “الزروانية”، وهو المعتقد الذي ادعى أصحابه أن زروان هو الأب الذي أنجب كل من أهورامزدا وأهريمان، وأن الأخوين وإن كانا متساويين في القوة والمكانة، فإنهما كانا مختلفين في الموقف من الحق والباطل.
التغيير الرابع في ديانة الزرادشتية، تمثل في الابتعاد عن التفكير الأخلاقي المجرد، والاقتراب أكثر من الأشكال السحرية الغامضة، إذ ساد الاعتقاد بأن الصراع بين الخير والشر يتم من خلال الرقى والتعاويذ التي يقوم بها الإنسان لحماية نفسه، ومن هنا يمكن فهم فكرة النجاسة التي ترتبط بالكثير من الأمور في حياة الزرادشتي المتدين، فالموت مصدر للنجاسة، والزفير مصدر للنجاسة ولذلك يغطي الكهنة أفواههم بقطع من القماش أثناء خدمة النار المقدسة، والمخلوقات التي تتغذى على لحم الميت كالديدان والذباب تُعدّ مخلوقات مكروهة ونجسة، وكذلك الثعابين والضفادع التي تتمثل فيها الشياطين، ومن هنا نجد أن تحولاً كبيراً قد وقع في تلك الديانة، ليستبدل أغلبية السمات الأخلاقية التي عرفتها في طورها المبكر إلى طقوس وممارسات مادية بالمقام الأول.
اقرأ أيضا : الخير والشر بين الأصالة والعرض
أما التغيير الخامس الذي يعرضه الباحثان فيتعلق بصورة الحياة الأخروية وتفاصيل ما سيحدث بعد الموت، إذ حظيت مسألة الحساب العصيبة على الفرد بالمزيد من الاهتمام، وصار من المعتقد أن روح الميت تمكث عند رأسه وتتأمل لمدة ثلاثة أيام في ماضيها، ويتم مواساتها أثناء ذلك، فإذا ما كانت روحاً صالحة، فإن الملائكة تحمل لها البشرى، وإذا ما كانت روحاً خبيثة، فإن الشياطين تنذرها بالعقاب الأليم، وفي شتى الأحوال تؤخذ الروح في اليوم الرابع بعد وفاتها لتمر فوق الجسر الفاصل، وليقيس الآلهة أعمال المتوفى بالميزان، لينظر في حسناته وسيئاته، وبعدها يتم اتخاذ القرار ويُصدر الحكم، وهي الصورة التي تتشابه كثيراً مع تفاصيل يوم البعث والنشور في كل من الديانة المصرية القديمة، والدين الإسلامي.
أما التغيير السادس، فهو يتعلق بنظرة الزرادشتيين إلى الزمن، إذ تم الترويج للفكرة التي تقول بأن العالم يدور في دورات، وأن كل دورة تأخذ ثلاثة آلاف عام، وأن زرادشت قد ظهر في بداية الدورة الأخيرة، وسوف يأتي بعده ثلاثة مخلصين، كل منهم سيأتي على رأس ألف عام، أولهم هو أوشيتار، وثانيهم هو أوشيتار ماه، أما ثالثهم وآخرهم فهو المعروف باسم سوشيانس، وسوف يظهر في نهاية تلك الدورة، في نهاية الزمان، وهو الاعتقاد الذي يتشابه كثيراً مع فكرة المسيح الموعود أو المهدي المنتظر التي اشتُهرت في الأديان الإبراهيمية. بحسب الاعتقاد الزرادشتي فإن زرادشت هو والد المخلصين الثلاثة، ذلك أن بذور زرادشت المقدسة قد حُفظت في بحيرة في بلاد فارس، وعندما تنزل الثلاث عذراوات –أمهات المخلصين- للاستحمام في تلك البحيرة بفارق ألف عام كاملة بين كل عذراء والتي تليها، فسوف تنتقل البذور إليهن، ليحبلن بالمخلصين العظام.