تجاوز عمر قضية الكويتيين البدون سبعة عقود، ومرت خلالها بتحولات ومنعطفات كثيرة، ورغم ذلك لا يلوح حل في الأفق ولا تبدو الحكومة الكويتية مستعدة للتعامل مع الأزمة بجدية، بل على العكس فإنها مستمرة في السياسة ذاتها باصرارها على وصف الكويتيين البدون جنسية بأنهم “مقيمون بصورة غير قانونية”.
“المقيمون بصورة غير قانونية” هو المصطلح الرسمي الذي تستخدمه الحكومة الكويتية منذ نهاية الثمانينيات، وتحديداً بعد تشكيل لجنة خاصة في العام 1986 كشفت عنها وثيقة سرية تنص على تنفيذ سياسة “تضييق” على البدون.
وعلى إثر هذا الصدد التقت “مواطن” مع عضو منصة الدفاع عن بدون الكويت الدكتور فهد راشد المطيري للتحاور معه حول قضية الكويتيين البدون بصفتها قضية مواطنة مسلوبة، وبصفتها قضية بشر حرموا من العدالة الاجتماعية، والحق في التعليم، والصحة، والحماية من الأذى، والأمن، والحرية من الفقر، والحرية من الظلم.
- قضية “البدون” ينبغي أن تكون أولوية الأولويات بسبب حجم المعاناة وعمر القضية والسياسة الحكومية غير القانونية واللا أخلاقية في التعامل مع ملف “البدون”.
- الحكومة الكويتية شكلت لجنة مصغرة، كشفت عنها وثيقة سرية من العام 1986، كان هدفها رسم السياسيات للتضييق على البدون.
- الدستور الكويتي أصّل للطبيعة “العشائرية” للنظام السياسي، فالعشائرية في تصاعد والمواطنة في تراجع دائم.
- المجتمع الكويتي تأثر إلى حد كبير وعلى مدى عقود بـ”البروبوغاندا” الحكومية تجاه القضية، ولكن مناصرة قضية “البدون” في الآونة الأخيرة في تصاعد ملحوظ.
- البدون باتوا طبقة عاملة رخيصة ومنتقصة الحقوق تستغلها الطبقة التجارية في الكويت.
- الكثير من البدون يعملون في وظائف في مجال البناء وتوصيل الطلبات والمبيعات والحراسة، والأجور وساعات العمل هي الأسوأ في الكويت حتى مقارنة بالعمالة الوافدة.
- “الجهاز المركزي” يتخذ من انتهاكات حقوق الإنسان والتضييق التعسفي ورقة ضغط لإجبار “البدون” على التخلي عن حق المواطنة إلى الأبد.
إلى نص الحوار:
لطالما ردد الدكتور فهد المطيري في مقالاته وتصريحاته أن "قضية البدون أولوية الأولويات". لماذا ترى ذلك، وهل ترى أن هناك توافقاً شعبياً حول القضية لجعلها أولوية الأولويات؟
أولاً، يمكن القول إن قضية “البدون” تمثل أولوية الأولويات لدى أغلب الناشطين والناشطات في هذه القضية. ثانياً، لا تمثل هذه القضية أولوية لدى المجتمع الكويتي، في حين أن دعوتي مع الكثيرين في هذا الميدان إلى أن هذه القضية ينبغي أن تكون، ليست مجرد أولوية، بل أولوية الأولويات أيضاً، ولأسباب عديدة تتعلّق بحجم المعاناة وعمر القضية، إلى جانب السياسة الحكومية غير القانونية واللاأخلاقية في التعامل مع هذا الملف. أخيراً، لم نصل حتى الآن إلى مرحلة خلق توافق شعبي حول القضية، فما زلنا مع الأسف في المرحلة الأولية والمتمثلة في زيادة الوعي المجتمعي بهذه القضية، وهي لا شك خطوة ضرورية قبل التفكير في أي توافق شعبي حول أي قضية.
كيف ترى أداء القوى السياسية الكويتية، على مختلف تلاوينها، في تعاطيها مع قضية البدون بشكل خاص، ومع قضايا المواطنة بشكل عام؟
لا أستطيع تقييم أداء هذه القوى من حيث قضايا المواطنة بشكل عام، لكن من حيث قضية “البدون” بشكل خاص، الأداء يختلف من تيار سياسي إلى آخر، فلدينا طيف يمتد من قوى سياسية متواطئة مع الحكومة ضد “البدون”، إلى قوى سياسية لها موقف مناصر بوضوح لهذه القضية، لكنه موقف دون الطموح، مع الأسف، ولأسباب بعضها يكمن في ترهّل العمل السياسي في حقبة الصوت الواحد بشكل عام.
ولكن نود أن نعرف أيًّا من هذه التيارات السياسية لديها مواقف مناصرة لقضية البدون؟ وأي منها لها مواقف متواطئة مع الحكومة؟
كل تيار أو حزب سياسي له بياناته التي يصدرها بين الحين والآخر، ويكفي أن تعود إلى أرشيف البيانات الخاص بكل حزب لتعرف مدى اهتمام أعضائه بقضية معينة. حين يتعلق الأمر بقضية “البدون”، قارن، مثلاً، بين أرشيف بيانات “التحالف الوطني الديمقراطي” من جهة، وأرشيف بيانات “المنبر الديمقراطي” أو “الحركة التقدمية” من جهة أخرى، وستلاحظ أنّ في الحالة الأخيرة، لا يكاد بيان عام للمنبر أو الحركة يخلو من إشارة إلى قضية “البدون” وضرورة الدفاع عن أصحابها، في حين أنك ستجد نفسك مضطراً إلى التساؤل عن آخر مرة وردت فيها هذه القضية في بيان من بيانات “التحالف”. ليس في الأمر سرّ بالطبع، فالتحالف الوطني أكبر المستفيدين من حقبة “الصوت الواحد” منذ عام 2012.
سبق أن وصفت "القبلية" في الكويت كأداة سياسية في يد الحكم يسعى من خلالها لـ"طمس المواطنة"، إلا أن السيرورة التاريخية المتعارف عليها لدولة الكويت مرتبطة بشكل وثيق مع "القبيلة" وهجرات وتوافد القبائل إليها. هل الكويت دولة قائمة على "القبلية" إذاً كما يصفها بعضهم؟
هناك بالطبع دستور، لكن الدستور نفسه أصّل للطبيعة العشائرية للنظام السياسي، هذا إلى جانب تأكيده على قيمة المواطنة، لكن حين نخرج من النصوص إلى الواقع، العشائرية هي السائدة والمواطنة في تراجع.
النظام السياسي في الكويتي منسجم تماماً مع محيطه الإقليمي من حيث إنه نظام عشائري
توصف الجنسية في الكويت (والخليج عموماً) أحياناً كـ"بطاقة امتيازات نفطية" تُحدد من خلالها حصة هذا الشخص أو ذاك من عوائد النفط. هل هذا هو سبب إبقاء البدون كـ "بدون"؟ أم أن الحكومة الكويتية لا تريد منحهم امتيازات طبقية معينة؟
هذا سبب رئيس لكنه ليس السبب الوحيد، فقضية “البدون” دخلت عقدها السابع، ومن الطبيعي في أي قضية بهذا العمر أن تتعدد أسبابها وتزداد تعقيداً، كما أن الحكومة من حيث هي سلطة تنفيذية ليست الوحيدة المسؤولة عن إبقاء هذا الملف من دون حل، فهناك أقطاب كبيرة من أرباب المال يقفون بشدة ضد منح “البدون” حق المواطنة، ولأسباب متعددة أيضاً، بعضها عنصري صرف، وبعضها منفعي صرف، إذ لا ننسى أن “البدون” يوفرون الآن أيد عاملة رخيصة للقطاع الخاص.
استوقفتني ملاحظة "البدون يوفرون أيد عاملة رخيصة للقطاع الخاص"، وقد قرأت مقالًا في "منصة البدون" التي تشارك في تحريرها، تناقش هذا الموضوع – هل هناك استغلال اقتصادي للبدون من قبل التجار؟
هناك استغلال بشع للبدون في الكويت، ويكفي أن نلاحظ أمرين كي ندرك حجم الاستغلال: الأول يتعلق بالقطاعات التي يعمل فيها العديد من "البدون"، والثاني يتعلق بحجم ما يتلقّونه من أجور نظير عملهم.
هناك العديد من الموظفين “البدون” من الجنسين يعملون في القطاع الخاص في مجالات التعليم والبناء، إلى جانب وجود مندوبين وموظفي مبيعات وحرّاس أسواق ومؤذّنين وغيرهم، والأجور التي يتلقّونها هي أدنى الأجور مقارنة، ليس بحملة الجنسية الكويتية فحسب، بل مقارنة أيضاً بحملة الجنسيات الأخرى من المقيمين، كما أن عدد ساعات العمل الخاصة بهم أكبر في المجمل من عدد ساعات العمل الخاصة بالآخرين، وهذا استغلال واضح، تكشف عنه أحياناً تلك الإعلانات التي نقرؤها بين الحين والآخر في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي عن “فرص وظيفية للبدون”، فعدد ساعات العمل وحجم الأجر اللذان يردان في بعض تلك الإعلانات يدلان بوضوح على حجم الاستغلال الذي صنعت ظروفه الحكومة ولم يزل “البدون” يتجرّعون مرارته.
ظهر جدل في الأوساط القانونية والنيابية على مدى السنوات الأخيرة حول دور القضاء بما يدفع نحو بسط سلطة القضاء على مسائل الجنسية عوضاً عن اعتبارها من أعمال السيادة (تمحورت بشكل أساسي حول قضايا سحب الجنسية لأسباب سياسية). هل سيخدم هذا التوجه قضية البدون أو ستزال القضية رهينة سياسات الجهاز المركزي؟
المطالبات في بسط يد القضاء على مسائل الجنسية قديمة ومستحقة، وهي بالطبع مطالبات تصب في صالح حلّ قضية “البدون” حلّاً عادلاً، وأما واقع الحال فلم يزل -مع الأسف- يشير إلى انفراد “الجهاز المركزي” في تحديد مصير “البدون” وبطرق تتعارض مع الدستور وبعيداً عن رقابة القضاء.
تحاول الحكومة الكويتية ومنذ تشكيل اللجنة الوزارية المصغرة في العام 1986 التي سعت للتضييق على البدون، إلى تحويل طبيعة القضية من قضية تخص فئات "عديمي الجنسية" إلى قضية تخص "أشخاصًا مقيمين بصورة غير قانونية". ونرى نتائج هذه السياسة من تضييق الجهاز المركزي على إجراءات ومعاملات روتينية واعتيادية مثل إصدار شهادات الميلاد وتجديد بطاقة الهوية وغيرها. هل كانت هذه الانتهاكات الحقوقية والممارسات القمعية ضمن إستراتيجية "التضييق على البدون" أم أنها نتائج عرضية؟
هناك من يعتقد أن خشية الحكومة آنذاك كانت مبررة لوجود أعداد من المقيمين العرب ممن ادّعوا انتسابهم إلى شريحة “البدون”، وحتى مع افتراض صحة وجود مقيمين أرادوا آنذاك الاستفادة من المعاملة الخاصة التي كانت الحكومة تتعامل من خلالها مع “البدون” بوصفهم مواطنين لا ينقصهم سوى حق المواطنة، ليس هناك ما يبرر قيام السلطة التنفيذية في عام 1987 بحذف الفقرة (د) من المادة 25 من قانون 1959 والخاص بإقامة الأجانب، وهو الحذف الذي شرعن التعامل مع “البدون” بوصفهم “مقيمين بصورة غير قانونية”.
فالتعرّف على المنتسبين للبدون كان في غاية السهولة ولا يحتاج إلى استخدامه كذريعة لحجب حق المواطنة عن “البدون”، بل أصبح هذا الحجب إستراتيجية في ذاته من حيث إنه تطوّر إلى سياسة عامة تتخذ من حجب حقوق الإنسان ورقة ضغط لإجبار “البدون” على التخلي عن حق المواطنة إلى الأبد.
مشروع القانون الذي قدمه رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم كحل لأزمة البدون، على ما يبدو، يحظى بدعم رسمي من قبل الجهاز المركزي، بينما البدون أنفسهم والعديد من النشطاء السياسيين وجهوا انتقادات لاذعة لهذا المشروع. لعل من أهم الانتقادات هي خلقه لفئتين من البدون - فئة مستحقة تستطيع التمتع بـ "إقامة مميزة" في الكويت بعد إبرازها "جنسيتها الأصلية" على أن يتم النظر في طلب تجنيسهم بالجنسية الكويتية لاحقاً، وفئة أخرى غير مستحقة من الذين يرفضون إبراز جنسيتهم الأصلية وعليه سيعاملون كأجانب مخالفين لقانون الإقامة. هل تعتقد أن هذا المشروع سينجح في تثبيت هذه التفرقة وإحداث شرخ في صفوف البدون؟
مشروع هذا القانون في حقيقة الأمر هو ترجمة لإستراتيجية “الجهاز المركزي”، ولهذا، الدعم هنا في الاتجاه المعاكس، بمعنى أن رئاسة المجلس هي التي تدعم إستراتيجية الجهاز من خلال تقديمها لمشروع هذا القانون المعيب، وقد حاولنا في “المنصة” توضيح أبرز الجوانب الخطيرة فيه، فهو قانون يكرّس سياسة الابتزاز السائدة ضد “البدون”، ولا يبسط رقابة القضاء، بل لا يحترم مواد الدستور، كما أنه مخالف لكل الأعراف والمواثيق الدولية، ويسيء لسمعة الكويت في الداخل والخارج.
إلى جانب أنه قانون يخصّ “البدون” ولم يُشرك أيّا منهم في صياغته أو حتى الممثلين عنهم ضمن العاملين في ميدان حقوق الإنسان، بل اكتفت السلطة باجتماعها الرباعي الذي ضم “الجهاز المركزي” ورئاسة المجلس ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
لا أعتقد أن هذا القانون سينجح حتى لو مرّ من خلال المجلس، لسبب بسيط، لأن نجاحه يعني استمرار سياسة الجهاز المركزي، وهي سياسة تزيد من معاناة “البدون”، ولا تضيف حلًّا ممكناً لقضيتهم، واستمرار هذه المعاناة له تكلفة كبيرة على المجتمع بأكمله على المدى الطويل، ولا أتصوّر أن من شأن هذا القانون أن يُحدث شرخاً في صفوف “البدون”، لأنه قانون يساوي بينهم جميعا في مقدار ظلمه لهم، حتى وإن تظاهر من صاغوه بأنهم يكافؤون فريقاً ويعاقبون فريقاً آخر.
أسستم مع د. ابتهال الخطيب ولمى العثمان مشروعاً رائداً وهو صحيفة "المنصة" الإلكترونية المتخصصة في مناقشة قضايا البدون وبألسنة وأقلام البدون أنفسهم. هل بإمكاننا أن نعرف كيف كانت بدايات الفكرة كمشروع؟
مشروع “منصة الدفاع عن بدون الكويت” لم يزل في حقيقة الأمر في بداياته، ونأمل ألا يستمر طويلاً لأن هذا معناه استمرار معاناة “البدون”.
بالنسبة لفكرة “المنصة”، هي فكرة الدفاع عن حقوق “البدون”، والدكتورة ابتهال الخطيب والأستاذة لمى العثمان لهما باع طويل في الدفاع عن هذه الحقوق من خلال تشكيلهما مع ناشطات أخريات مجموعة “29” في وقت مضى، لهذا، “منصة البدون” ليست سوى امتداد لهذا الجهد وبالتوازي أيضاً مع جهود أخرى كثيرة ما زالت مستمرة، أبرزها جهود أبناء القضية وبناتها من “البدون”.
يشكل "أدب البدون" مكوناً أساسياً من فسيفساء الأدب الكويتي وبات يحظى باهتمام على مستوى العالم العربي وخارجه. ما أهمية أدب البدون للقضية بشكل عام؟ وهل نجح في زيادة الوعي والتوافق الشعبي حولها؟
بين صفوف “البدون” أسماء لامعة في ميدان الأدب، رجالا ونساء، ورغم ظروفهم القاهرة، استطاعوا أن يشقوا طريقهم ليصنعوا أدباً راقياً، وبعضه يدخل ضمن باب الأدب الملتزم، وهنا برأيي تكمن أهميته من حيث إنه أدب يخدم قضية عادلة، ولا يستطيع التعبير عن معاناة أصحابها إلّا أهل القضية أنفسهم من المبدعين والمبدعات “البدون”، وأما دور “أدب البدون” في زيادة الوعي والتوافق الشعبي حول القضية فلا أعتقد أن ذلك قد تحقق، لأسباب كثيرة، بعضها مع الأسف أن سياسة العزل المؤسسي المنظّم ضد “البدون” نالت أيضاً من “أدب البدون” إلى درجة بتنا فيها نسمع من يسميه “الأدب المجاور” بدلاً من اعتباره أدباً كويتياً خالصاً.
أشرت إلى نقطة مهمة وهي المحاولات المستمرة لخلق فجوة بين "الكويتي" و"الكويتي البدون" عبر الخطاب السياسي والقوانين وغيرها من الأدوات. هل ترى أن المجتمع الكويتي الأوسع ينظر للبدون ككويتيين بالدرجة الأولى؟ أم ينظر إليهم كفئة خاصة مرتبطة بالمجتمع الكويتي لكنهم ليسوا كويتيين؟
المجتمع الكويتي –كما تعرف– ليس خليطاً متجانساً، وبالتالي فإن الإجابة تعتمد بشكل عام على ماهية الشريحة الاجتماعية التي يُطرح على أفرادها مثل هذا السؤال، لكن، مع ذلك، بالإمكان القول إنّ النظرة العامة للمجتمع الكويتي تجاه “البدون” تأثّرت إلى حد كبير وعلى مدى ثلاثة عقود بالدعاية الإعلامية الرسمية، فحين تتعرّض أي حقيقة إلى تشويه كبير من حيث الحجم والمدة الزمنية، نحتاج إلى جهد كبير كي نتعرّف عليها وسط غبار كثيف من “البروباغندا”، ومما يدعو إلى التفاؤل أنّ مناصرة “البدون” في الآونة الأخيرة في تصاعد ملحوظ بين شرائح المجتمع كافة.