العقول الجامدة تفتك بالإبداع والعبقرية، لأنها كانت وما زالت تعزى إلى الاستفادة، تقتات الفتات من الفائدة، بينما العقول المتحركة هي من تُحيي الإبداع والعبقرية لأنها كانت وما زالت تصبو إلى الفائدة، والفائدة أعظم من الاستفادة، في مواطن كثيرة من فصول حياة الناس، أجد بعض البشر متجمدين عقليا، وهذا في رأيي يرجع إلى نفسيّة عقل الإنسان، وأقصد (بالنفسيّة) هي ما يحلّ بالعقل من تأثّر أو انفعال في أريجه، ومهجته، وهيئته، شعوره، ومزاجه، معنوياته، وسلوكه، وهذه هي مدن العقل النفسيّة، فالعقل هو وطن البشر، وأقدم عاصمة للتفكير، فإن هذه المدن النفسية التي أشرت إليها، إن تعرضت إلى غزو ديماغوجي، أو تفشت بها نتانة شوفينية، فإن النتيجة سوف تكون الجمود والصلابة حتمًا، وهذه الصلابة الفكرية في الواقع تجعل الناس ديماغوجيين، شوفينيين، يتصرفون وفق سلوكيات وتصرفات وضيعة جدًّا، وخصوصًا السلوكيات التي تأتي ضمن إطار ديني.
العقل المفطوم
فطموا عقولهم عن التفكير الطبيعي، تظاهروا كذبًا بشبعٍ وتخمة فكرية، قطعوا العقل عن الاستيعاب والتفكير مرةً واحدة على حين غرةٍ، فطموا عقولهم ولم يقدموا أي بديل، لأنهم اعتمدوا اعتمادًا كليا على الاستفادة التي حصلوا عليها ما قبل الفطام، وهذه الاستفادة برمتها لم تكن نتيجة بحثٍ أو تفكير، وإنما نتيجة ما توارثوه من قبل موروثاتهم وآباؤهم وأجدادهم على حدٍ سواء، فأصبحوا أمةً مفطومة عن العقل والفكر، معدومة المعرفة، شحيحة المنطق، لا تملك أي حضور في ميدان العلم.
نحن نعيش في زمن الفطام الفكري، فطمنا عن العقل منذ ١٤٠٠ عام، حتى أصابنا جفافٌ حاد في الفكر والثقافة والأخلاق، وبسبب هذا التجويع المعرفي والفكري نشأت مشكلاتٌ كبيرة ليس لها حلول، وعقول ثائرة تطالب بإجابات على أسئلة محرجة ليس لها أجوبة، وهذا كله أنتج أُناسًا خائفين من كل معرفة جديدة، وينبذون كل شيءٍ جديد أو تنويري، يفضلون ما يعرفونه على ما لا يعرفونه، لأن ما بحوزتهم من معرفة مزيفة تجلب لهم الطمأنينة، لأن كل جديد أو مغاير بالنسبة لهم هو بمثابة تهديد وإزعاج، رعب، إيقاظ للخوف الذي يكمن في نفوسهم البشرية، وهنا تحول الخوف إلى وحشٍ مفترس، جمد عقولهم ومنعها من التفكير أو حتى محاولة التفكير.
العقل السائد والعاطفة
إن كل سائد بالضرورة هو حتمًا بائد وزائل لأن الناس يتغيرون، لكن أن يتحول البائد إلى سائد فهذه مسألة فيها نظر، وهي مسألةٌ خطيرة جدًا، لأنها تدل على أن الناس لا يتغيرون من أجل مستقبلهم، وإنما يعبرون عن إخلاصهم إلى ماضيهم بثباتهم على ما كان سائدًا في أزمنة غابرة لم يعيشوا فيها، ولم تطأ أقدامهم أرضها، لذلك، تجد دعاة التطرف الذين تعودوا على إطلاق تطرفهم داخل أروقة المجتمع، يعلنون حربًا على كل ثقافة أو فن، يجبرون الناس على التحدث بعادات الماضي، وينفرون الناس من الحاضر، لا يريدون المجتمعات أن تتقدم بقدر ما يريدونها أن تتراجع إلى الماضي وعادات الماضي الغابر.
لا تنجح العقول العظيمة إن لم تبدع، ولا تبلغ الإبداع إن لم تنتفض على ميولها المعتادة، فلا يمكنك تطبيق عاداتٍ سابقة من الماضي، ثم تصبو إلى التقدم في الحاضر، لأن تقدمك في حاضرك، مرتبط بانتفاضتك على ماضيك، وإعلان التمرد على عاداتك، ولهذا تحديدا فعندما يقوم دعاة التطرف والصراخ بإعادة تدوير العادات والتقاليد في مصنع المجتمع فهم يمارسون أساليب قديمة مورست في أزمنة غابرة، مثل رمي الناس بالكفر والزندقة، التخوين والعمالة، نشر التطرف وإثارة الفتنة الطائفية، إشاعة الفوضى وإيقاظ الخوف في نفوس الناس، وهذه الأساليب باتت واضحة ومكشوفة. إن غاية رجل الدين هو أن يجعل الناس يتقافزون على حبال صنعها من الخوف، لأنه الجانب الوحيد الذي يمكنه من السيطرة عليهم.
إن غاية رجل الدين هو أن يجعل الناس يتقافزون على حبال صنعها من الخوف، لأنه الجانب الوحيد الذي يمكنه من السيطرة عليهم.
ونلاحظ أن العقول العظيمة لا تنعم بالراحة والعاطفة، فلا يوجد مكان للعاطفة في العقل، وفي الواقع فإن العقل لا يمنح حق اللجوء للعاطفة إليه، وهذا هو قانون العقل، لأن العاطفة تعطل وظائف العقل، وتجعله غير قادر على اتخاذ القرارات الصارمة والحكيمة، بقدر ما تميل العاطفة إلى الولاء والشفقة. وكل عقل باشر بالبحث عن الحقيقة، هو يعلن إعلانًا صريحًا بالتنازل عن راحته وأمانه وعاطفته، لذلك دائمًا ما يكون عنصر المفاجأة ملاصقاً لكل عالم أو مفكر أو فيلسوف، لأن الصدمة التي يولدها العقل، هي نتاج فكري بحت، لذلك دائمًا ما تكون الصدمة الفكرية صدمة قاسية، خالية تمامًا من المرونة والمجاملات والتنبؤ، وهذا يعتبر أحد أسباب نجاحها.
يقظة فكر
يتضح لي بصورة جليّة أن الناس لا يميلون إلى النخبة المثقفة، بقدر ما يميلون إلى التافهين، تستهويهم الجدالات السفسطائيّة والخطابات الشعبويّة، لأن البسطاء من كل شعب وأمة وهم الغالبية العظمى تحديداً، ليس بالأمر المهم عندهم الحصول على معرفة نظيفة، وإنما يهتمون بكثرة في الحصول على معرفة مريحة وإن كانت مضللة ومزيفة، فالناس تكره الحقيقة التي لا تتناسب مع عقائدها ومعتقداتها وأساطيرها، فالمعرفة العلمية من رأيي الشخصي هي صفقة ثمينة وثقيلة تربح فيها عقلك، ولكنك حتمًا سوف تخسر كل الأوهام التي اتكأت عليها طيلة حياتك، لذلك غالبية الناس يخسرون هذه الصفقة ويرجعون بصفقة المغبون، لأن البسطاء أجبن من أن يربحوا عقولهم المستعبدة، فهُم لا يريدون تحرير عقولهم لأنها تعودت على الطاعة والخنوع.
ولهذا أرى بوضوحٍ تام أن المشكلات وفيرة في المجتمعات المتدينة خصوصًا، والحلول بائسة وفي غالب الأحيان لا يوجد عندهم حل، وإن توفر لديهم الحل فقد يكون بعد فوات الأوان، عندئذٍ يصبح هذا الحل منتهي الصلاحية لا يعمل، لأن المشكلة الأصلية تفاقمت وتحولت من مشكلة إلى أزمة، وأعتقد أن الإنسان سوف تتقلص مشاكله عندما يتجه إلى دور العلم، وتزداد مشاكله وأزماته عندما يتجه إلى دور الخضوع والاستسلام،فالإنسان بحاجة إلى يقظة فكر وليس غفلة إيمان.
والعقول العظيمة لا تفاجأ بالجهل بقدر ما تفاجأ الجهلاء بأفكار العقل، فالعقول المؤمنة لا تمتلك إلا قدرًا ضئيلًا من التفكير مقدمًا، وهذا الضعف الفكري بالخصوص هو من يجعلهم في مقدمة الفوضى اللانهائية، لأن حياتهم مبنية على الاحتمالات والتنبؤات والمفاوضات والمقايضات، وتفتقر تمامًا للحس السليم والتفكير المنطقي العقلاني، فكل نهضة إيمانية لا يمكن أن تسمى نهضة وإنما هي بيت آيل للسقوط وكل عقل ثابت هو عقل متفاجئ بالضرورة، لأنه لا يتمكن من رؤية جميع الاتجاهات، مبرمج على رؤية اتجاه واحد، وهذا ما يعزلهم تمامًا عن كل لحظة جديدة أو فصل جديد في الحياة
جريان العقول
الأنهار أكثر فائدة من الدين ومن صوامع الدين نفسها، فالأنهار يستخدمها البشر للري في الزراعة وإنتاج الكهرباء وغيرها، لكن المهم أن النهر يحمل فكرة التغيير. إن الأنهار مُتغيرة المجرى وليست ثابتة يتغير مجراها بين تارة وأخرى، أما بالنسبة للأديان فهي أشبهُ بمُستنقع يمكُث في بُطونها المياه الرَّاكدة فقط وغير قابلة للتغيير عكس فكرة الأنهار.
اقرأ أيضا: الأخلاق : نافذة وجودية
إن المُجتمعات التي غزاها الدين وفرض عليها ثقافته الشمولية عنوةً، باتت أمخاخُها مغلقة انغلاقًا تامًا عن التفكير، وأصبحت عبارة عن حلقات مفرغة، ترتعد خوفًا مَن الاختلاف والمختلف الآخر والأفكار المختلفة، وترفض كلّ حداثة وتطوّر وتنوير مبني على أُسس علمية أو قائم على نهج علمي، والمشكلة الأساسية فينا نحن لأننا تربينا على ثقافة المُستنقع وعشنا في مُحيط البركة الآسنة ولُـقِّـنَّا منذُ نعومة أظافرنا على الخوف حتى أصبحنا خائفين، ولن نرى أي تغيير حقيقي ملموس ما لم نتبنَّ فكرة التغيير الحقيقية وأن نتغير لا أن نتحجر وأن نحرك مياه المُستنقع الرَّاكدة في عقولنا من خلال أحداث ضجيج فكري تنويري حقيقي في جوف العقل المغيب.علّنا نحقق نهضة ما أو نتمكن من اللحاق بركب الحضارة التي سبقنا العالم كله إليها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.