يختلف جوهر ممارسة الرقابة على السينما بين المجتمعات باختلاف طبيعة المكون الثقافي لها وإن اتفقت في أدواتها ومواقفها الرقابية.
الطبيعة الخاصة لصناعة فن السينما حيث تتشارك فيه المصالح والرغبات بين ما هو فني واقتصادي بين عدد كبير من الجهات الاقتصادية والأفراد تجعل اليد المتحكمة في هذه الصناعة هي اليد التجارية أي شركة الإنتاج التي لا تخضع لأي قوى غير قوى السوق متأثرة بتحولاتها. فعملية توزيع الأفلام بين مختلف الدول توحي باحتمالية أن هناك رحابة في تجاوز الفروق الثقافية بين المجتمعات ولكن أيضًا هذا الاحتمال بذاته يعكس في مضمونه صعوبة تحقيق هذا التجاوز. وعليه فإن الرقابة على الفيلم السينمائي هو إجراء إقصائي بالضرورة لكل ما يخالف النموذج الأخلاقي للمجتمع. ولكن وفق أي معيار؟
الرقابة على الفيلم السينمائي هو إجراء إقصائي لكل ما يخالف النموذج الأخلاقي للمجتمع
في الحديث عن الثقافة ونموذجها الأخلاقي يتبادر إلى أذهاننا نقيضان بين حرية التعبير وقمع هذه الحرية والرقابة هي بالتأكيد إحدى صور القمع لحرية التعبير والرقابة لا تمثل الأداة الإقصائية الوحيدة في وجه صانعي الفيلم السينمائي ولكنها وحدها هي الأداة الممثلة للسلطة التي تملك القدرة على حجب الفيلم بعد أو خلال صناعته عن عرضه للجمهور من الأساس. على عكس الأدوات الرقابية الأخرى التي تمارس على الفيلم بشكل ذاتي أي الغضب والرفض النابعين من ثقافة الجمهور ذاته وتتمثل في كل الممارسات الثقافية والذوق العام الغالب الذي يدعم نوعًا معينًا من الصورة والمضمون ويرفض الأخرى بحجة أنها لا تمثل ثقافة المجتمع وأخلاقه ولا تمتثل له. الخطر المهدد لأخلاق المجتمع يعرفه الجمهور ويتفق غالبيته على رفضه فالنموذج الأخلاقي يصعب تحطيم أصنامه التي تعيد إنتاج موضوع الخطر. لكن مضمون هذا الخطر يختلف من ظرف ثقافي لمجتمع عن الآخر ويختلف من زمن لآخر.
مأزق الدول العربية مع الرقابة
المأزق الذي وضِعت فيه الرقابة في عدد من الدول العربية بداية من السعودية وقطر والكويت ولحقتهم مصر تباعًا عند حجبهم لفيلم ( الخالدون eternals) في عرضه الأول لعام 2021 بعد أن حددت دور العرض موعد حفلات عرضه. تنوعت الأسباب الرقابية التي أدت في بعض الدول بالاضطرار إلى تأجيل العرض الأول حتى تصل إلى حل مقبول مع شركة الإنتاج (ديزني Disney) حتى تسمح لهم بحذف المشاهد غير المقبولة في الفيلم ولكن جاء رفض الشركة المنتجة بإلحاق أي تغييرات على الفيلم مما أدى إلى حظره نهائيًا من العرض ولحقه تأييد أبطال الفيلم ومخرجته واستنكارهم حول موقف بعض الدول العدائي المشروط اتجاه بعض الأفكار كالمثلية الجنسية.
تتمثل المشكلة الرقابية في هذا الفيلم ليس فقط في الصورة القبيحة (قبلة العلاقة المثلية) كما جرت العادة حول معاقبة السينما على عنصر الصورة الإباحية جزافًا وهو الوصف الوصم الأقدم لها. وإنما أيضًا رفضهم لمضمون الفيلم برغم مايقدمه من إطار خيالي تمامًا في تقديم أحداث تصحبها تصورات عن تجسيد الإله في الفيلم وهي تصورات منافية للعقيدة. إن التتابع الزمني الذي حدث في إعلان الدول بالتدريج عن انضمامها لقائمة رفض عرض الفيلم بعد رفض شروط حذف وتنقيح الفيلم يطرح تساؤلنا حول مدى توافق وتشابه الثقافة الفنية لتلك الدول جميعها والتي اتفقت جهاتها الرقابية على رأي واحد بأن الفيلم غير لائق. قد سبق لمصر حظر عرض فيلم (نوحNoah ) عام 2004 لما يقدمه من تجسيد للنبي نوح بعد إصدار فتوى من الأزهر بأنه منافٍ للعقيدة ويحرم عرضه. كذلك الحريات الجنسية منافية للعقيدة بدون شك.
قبلت لبنان أن تعرض فيلم (الخالدون) دون ترقيب ولكن رفضت عرض فيلم (مولانا) في عام 2016 والذي كان مقررًا عرضه في بيروت ولكن بعد الترقيب وحذف ما يقارب اثنتي عشرة دقيقة من الفيلم بحجة أنه يبرز الفتنة الطائفية مما يسيء للعقائد واتخذت شركة إنتاج الفيلم موقفًا مماثلًا ورفضت أن يعرض الفيلم مقتطعًا تحت شروط الترقيب النابعة من رأي رجال الدين، بينما عرض الفيلم في مصر دون حذف. فالمشكلة الطائفية في المجتمع اللبناني تفوق مشكلة الحرية الجنسية مما يعكس الصورة المعقدة عن ممارسة الحريات والاعتراف بها في الثقافات المختلفة برغم أن العقيدة الدينية عامل مشترك بين تلك الثقافات لكن نواتج الخطر مختلفة.
تختلف تجربة فيلمي (الخالدون ونوح) عن أي فيلم آخر من المحتمل أنه قدم لشخصية نبي أو رسول يحدث الإله بصورة رمزية ولكن لم تحظرها الرقابة وهذا ما حدث بالطبع مرات عديدة. لأن المشكلة تكمن في المحاكاة الصريحة. فالسينما تمثل لهم الصورة لا الفكرة. لأن الصورة هي أول ما يصل للجمهور بجميع شرائحه العمرية. وهذا ما تخشاه الرقابة.
تتساءل (إنجلينا جولي) بطلة الفيلم حول رجعية هذا الموقف من فيلمها وكيف أنه مازال هناك مجتمعات ترفض رؤية صورة حب مثلية. وهذا التساؤل يوجه إلى الجمهور قبل أن يوجه إلى جهة الرقابة التي عليها أن تتعامل أولا مع الغضب الذي يعلو الوجوه إيذاء صورة الحب بين الغيريين فكيف يتقبل صورة حب بين المثليين. إن أشكال ممارسة الرقابة على السينما العربية على عدة مستويات تجعل من الصعب تخيل أن يمتلك صناع السينما في يوم ما حرية تامة في عرض الأفلام بكل الصور والمضامين الممكنة.
على مستوى الدولة تمتثل الجهة الحكومية المسؤولة عن الرقابة حول ما يمكن طرحه على جمهورها من ناحية وعلى حدود قدرتها في تحمل أفكار ثورية ومواجهة آثارها من ناحية أخرى. تجد الدولة أن عليها تبرير أسباب السماح لعرض أفكار تناهض ثقافة الجمهور فالقبلة لا تجرح الطفل وحده وإنما تجرح العائلة المحافظة التي لا تقبل على أخلاقها أن تشاهد قبلة حب فيلجأ صناع الفيلم إلى تحوير المشاهد الحميمية إلى إيحاءات عن الحب. فإن لم تختر الرقابة للأسرة المحافظة السينما النظيفة فستختار الثقافة المحافظة برغبتها الذاتية أن ترفض ما يخرج عن طبيعتها. فتقبل العنف ولا تقبل الجنس والمساس بالعقيدة. كما تقبل الدولة العنف ولا تقبل النقد السياسي. السلوك الرقابي في مواجهة الأفكار لا يعكس في الأساس إلا ضعف قدرة العقل ومرونته على تقبل الحقيقة والبحث فيها.
هل يملك الجمهور استقلاله الذاتي في الحكم على السينما؟
الآن يمكن أن نجيب بنعم إلى حد كبير رغم وجود الرقابة وذلك لظروف مستجدة على وسائل عرض الأفلام حيث إنها لم تعد تعرض حصرًا على السينما فظهور منصات البث الرقمي مثل (نتفليكس) كمنصات إنتاج وعرض لأعمالها التليفزيونية والسينمائية والتي تحقق مشاهدة فردية واختيار حر للمشاهد وفق رغبته الشخصية. ولكن ذلك لاينفي فعل الرقابة على الأفلام محلية الصنع وعلى توزيع الأفلام في السينمات المحلية. فالقيود على تلك الصناعة مازالت موجودة ولكن ظهور المنصات وما توفره من عروض إنتاجية ضخمة لصناع السينما حيث لم تعد دور السينما وحدها مصدر أرباح الفيلم. مما يجعل تلك الصناعة في طريقها لتداخل مباشر مع المشاهد. والحالة الفردية للمشاهد تجعله في مواجهة مع ذوقه الفردي وقناعاته الشخصية حول ما هو مقبول أخلاقي. ولكن تظل مشكلة استقلال صناع السينما في ظل قيود الصوابية السياسية فإن صناعة السينما تواجه معضلة أكبر من الرقابة اتجاه الفن وممارسته وحرية التعبير.
فما كان يمثل سلوكًا تربويًا مقبولًا اجتماعيًّا قديمًا أصبح الآن عنفًا أو عنصرية وذلك يسقط على صناعة الفن مباشرة وعلى الذوق العام في تقبل هذا التغيير وبالتالي تتساهل الرقابة عما يمكن قبوله وتقليص المحجوبات من السينما. لماذا هذة الغرابة من المثلية توجد عند بعض المجتمعات ولا توجد في مجتمعات أخرى ولماذا تهتم الرقابة على السينما أن تحذف مشهد القبلة في علاقة مثلية داخل ولا تهتم بحذف مشهد العنف؟ وتنقلب الآية بحذف مشاهد العنف والقبول التام المدعوم لمشاهد المثلية؟