منذ عشرات القرون، عرفت شبه القارة الهندية مزيجاً من العقائد والأفكار المتباينة، تلك التي تم تشبيكها مع بعضها بعضًا في نسق جمعي واحد تحت مسمى الدين الهندوسي.
الهندوسية التي آمنت بالتناسخ وبتعدد صور الإله الواحد، شهدت ظهور العديد من الديانات والحركات الفكرية التي حاولت أن تقدم إجابات على الأسئلة العالقة في العقل الهندي الكلاسيكي. من بين تلك الديانات، كل من الديانة الجينية التي يزيد عدد أتباعها –حالياً- عن أربعة ملايين نسمة، والديانة البوذية التي يزيد عدد معتنقيها عن نصف مليار نسمة، وتحتل المركز الرابع في قائمة أكثر الأديان انتشاراً حول العالم، وذلك بعد كل من المسيحية والإسلام والهندوسية.
ماهافيرا: البطل العظيم ومؤسس الجينية
في توقيت غير محدد على وجه اليقين في القرن السادس قبل الميلاد، ولد طفل لإحدى الأسر الثرية في إقليم بهار. هذا الطفل الذي عُرف بفاردهامانا، نشأ وترعرع في القصور، ثم تحولت حياته رأساً على عقب بعد أن بلغ الواحد والثلاثين عاماً، وذلك بعدما قام والداه بالانتحار لكونهما ينتميان لطائفة دينية ترى أن الحياة نوعاً من أنواع الشقاء والعذاب.
في تلك الفترة عزم هذا الشاب على التخلي عن حياة الأمراء، فترك كل ما لديه من كنوز الذهب والفضة، وانضم لجماعة الرهبان المقيمين خارج المدن، وبعد عدة شهور فحسب، خلع رداءه وانطلق يتجول في رحلة واسعة في إقليم البنغال وهو عار تماماً.
خلال أسفاره الكثيرة، لم يمكث فاردهامانا لأكثر من ليلة واحدة في قرية أو أكثر من خمس ليال في بلدة، وكان مصمماً على عدم إقامة أي ارتباط بأي مكان أو مجموعة من الناس يمكن أن يشدوه إلى مباهج الدنيا مرة أخرى. بحسب التقاليد المعروفة، فإن هذا الشاب كان مصراً على أن يبقى في الحالة الانعزالية، حتى إنه لما تعرض لتحرش بعض الفلاحين، ولما قام هؤلاء بإشعال النار بين قدميه وغرزوا الدبابيس في أذنيه، فإنه قد بقي مسيطراً على ذاته، ولم يتحرك قط من موضعه.
بحسب ما يذكر المؤرخ الأميركي ويل ديورانت في كتابه “قصة الحضارة”، فإنه وبعد ما يقرب من اثني عشر عاماً من التنقل والسفر المتواصل من مكان إلى آخر، وصل هذا الراهب المتجول إلى حالة النيرفانا الكاملة، وهكذا سماه تلاميذه بالجينا أي المنتصر أو القاهر، لكونه قد حقق الانتصار التام على جسده وعلى رغباته الحسية، وأصبح أتباعه يُعرفون باسم الجاينيين، وفي الوقت ذاته فقد عُرف هذا الراهب باسمه الأشهر ماهافيرا والتي تعني البطل العظيم.
بحسب التقليد المعروف عند الجينيين، فان ماهافيرا قد توفي في عمر الثانية والسبعين، بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من التعليم والإرشاد، وكان قد خلف من ورائه ما يقرب من أربعة عشر ألف من الأتباع المخلصين.
بوذا: المتنور ومؤسس السمغها
وردت سيرة حياة بوذا في الكثير من المصادر القديمة، تلك التي اختلط فيها القليل من التاريخ، بالكثير من الأساطير والقصص الشعبية.
يذكر جفري بارندر في كتابه “المعتقدات الدينية لدى الشعوب”، بعض التفاصيل عن الحياة المبكرة لبوذا، فيقول إن اسمه الذي ولد به هو سددارثا غوتاما، وأنه قد ولد سنة (563) ق.م في شمال الهند، وكان أبوه حاكماً لإحدى المقاطعات، وفي السادسة عشرة من عمره تزوج بإحدى الأميرات، وبعد بضعة أعوام رزق بابن سماه راهولا.
بحسب الموروث البوذي، فإن غوتاما قد شب في ظل حياة الرفاهية والسعادة، وكان أبوه يجتهد في حجب منظر المسنين والمرضى عن طريقه، وفي أحد الأيام قررت الآلهة أن توقظ الأمير الصغير من غفلته، ولذلك فإنه لما قرر الخروج في نزهة كعادته، ظهر له أحد الآلهة في هيئة عجوز شديد الهرم والوهن، وفي اليوم الثاني ظهر الإله في صورة مريض بائس، أما في اليوم الثالث فقد ظهر الإله في صورة ميت محمول على كومة من الحطب استعدادا لحرق جثته.
بحسب المصادر البوذية فإن تلك المشاهد الثلاث –الشيخوخة والمرض والموت- قد سلبت غوتاما راحة البال، فظل يتخبط في حيرته حتى شاهد المشهد الرابع، عندما لقي زاهدًا هادئًا يسير في ردائه الأصفر، وعندئذ عرف قلب الأمير المرفه الطريق إلى الطمأنينة وراحة البال.
هنا بدأت الرحلة نحو الحقيقة، فغوتاما الذي فهم زيف كل ما يحيط به، قرر أن يترك كل هذا وأن يسير باحثاً عن السكينة، ودخل في الغابة وألزم نفسه بمجموعة من التدريبات البدنية القاسية لمدة خمس سنوات كاملة، واعتاد في تلك الفترة على تناول الطعام الرديء، والجلوس على أريكة من الأشواك، والنوم في المقابر وسط العظام المتفحمة.
تحكي الأسطورة أن غوتاما قد غاب عن الوعي في أحد الأيام بعدما نزل النهر وامتنع عن التنفس، وأنه بعدما استرد قوته وعافيته، عرف أن الزهد القاسي الذي يمارسه ليس بحل، وأن عليه أن يأكل ويشرب ويقوي جسده، فاتجه ناحية شجرة عظيمة من أشجار التين الهندي، ومكث تحت ظلها لفترة، وبعدها اقترب منه الشر ممثلاً في الإله مارا، إله الرغبة والموت.
وحاول أن يغويه مراراً عن طريق بناته الثلاث، فلما فشل، أرسل الشياطين تهدده بالريح والمطر والقذائف المميتة، ولكن غوتاما بقي ساكنا تحت الشجرة، ولم يلبث أن تحول بعدئذ إلى حالة الإدراك أو النيرفانا، وهي حالة من النقاء التام والاتزان، ومنذ تلك اللحظة تحديداً صار غوتاما يعرف باسم البوذا، أي المتنور.
بعد ذلك، تحدثنا المصادر البوذية أن بوذا قد بدأ الدعوة إلى الحقيقة الأزلية التي أيقظته، والتي عرفت باسم “الدهاما”، بين جميع الناس، وبغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، وإن أعداد تلاميذه قد ازدادت شيئاً فشيئاً حتى وصلت للستين، وهكذا نشأت “السمغها”، وهي المنظمة الرهبانية البوذية التي قامت على أربع قواعد بسيطة، وهي ارتداء الرداء الأصفر، وحلق الرأس، وحمل قصعة التسول، والاعتياد على التأمل بشكل يومي.
بوذا أكد في تعاليمه لطلابه على ضرورة الالتزام بعشر من الوصايا، ومن بينها الامتناع التام عن تدمير الحياة، والعفة، والامتناع عن الكذب والمسكرات، والبعد عن الذهب والفضة والرقص والغناء.
بعد ما يقرب من ربع قرن من الدعوة والوعظ، توفي بوذا وهو في الثمانين من العمر، وكان مما حُفظ عنه في ساعاته الأخيرة، قوله لتلميذه المخلص آنندا لما شاهده وهو يبكي حزناً على اقتراب فراقه:
"كفى، يا آنندا، لا تحزن ولا تبك، ألم أقل لك، يا آنندا، إن في صميم طبيعة الأشياء القريبة والعزيزة علينا أننا يجب أن نفترق عنها؟ فكيف يمكن، يا آنندا، ألا يفنى أي مولود مهما كان؟ كنت، يا آنندا، ترعى تثاغتا -بوذا- زمناً طويلاً، بالخدمة اللطيفة، المخلصة، البهيجة، سليمة النية، غير المقترة لقد ظفرت بميزة كبيرة، يا آنندا، ابذل همتك تتحرر سريعاً من كل عيب".
بعد أسبوع من وفاته، تم إحراق جثة بوذا في إحدى المدن الواقعة على الحدود مع دولة نيبال الحالية، وتم توزيع الرماد المتخلف من رفاته بالتساوي بين ثماني مجموعات من الرهبان، وأقيم فوق كل حصة من الرماد ضريح مقدس.
الكارما، والنيرفانا، ونسبية الحق: كيف أثرت الجينية والبوذية في الفلسفة الهندوسية التقليدية؟
تمكنت كل من الجينية والبوذية من التأثير بشكل كبير في الفلسفة الهندوسية التقليدية، الأمر الذي تجلى في تناول الديانتين لبعض المفاهيم المهمة، ومنها كل من الكارما، وطريقة الوصول للنيرفانا، والنظرة إلى الحق.
بحسب ما يذهب إليه الجينيون، فإن النفس كلما تحركت برغبة أو عاطفة سيئة، فإنها تصبح لزجة، وتخضع للتغليف بمادة الكارما، وهذا الالتصاق يؤثر في طريقة انتقال الروح من جسد إلى آخر، لأنه في حالة امتلاء النفس بالمادة فإن هذا يؤدي إلى إفساد طهارتها وبالتالي يجعلها تغوص في تراتبية الوجود، أما إذا كانت المادة قليلة، فإن النفس سوف تصبح خفيفة لتتمكن من الصعود إلى الدرجات العليا.
فيما يخص طريقة الخلاص، فإن الجينيين قد ألزموا أنفسهم بالتقشف المحض، وفرقوا بشكل واضح ما بين المادة والروح، ومع الوقت، طور رهبان الجينية ما عُرف بأشكال القسم العظيمة الخمسة، والتي تحدد طريقة الوصول لحالة النيرفانا. في القسم الأول، يتبرأ الراهب من قتل أي من الكائنات الحية، وفي الثاني يتبرأ من جميع الأقوال الكاذبة، وفي الثالث يعلن تبرؤه من السرقة، أما في الرابع والخامس، فيعلن عن زهده في الجنس، وعن اجتنابه الكامل لشتى أشكال التعلق والارتباط بالمادة.
فيما يخص العلاقة بالسماء، فإن الجينيين لم يولوا اعتباراً يُذكر لنصوص الفيدا المقدسة في الهندوسية التقليدية، كما أنهم لم يهتموا بالحديث عن الخالق أو الرب، واعتقدوا أن الحديث عنه محض سفسطة فكرية لا يمكن إثباتها، ومن جهة أخرى، فإنهم قد تكلموا كثيراً عن نسبية الحق، وأن وجهات النظر تختلف بحسب مكان كل شخص والطريقة التي ينظر بها إلى الأمر.
"وكان يلذ لهم دائماً أن يرووا قصة العميان الستة الذين وضعوا أيديهم على أجزاء مختلفة من جسم الفيل، فمن وضع يده على أذنه ظن على أن الفيل مروحة ضخمة لذر الغلال، ومن وضع يده على ساقه قال أن الفيل عمود مستدير كبير"، وذلك بحسب ما يذكر ويل ديورانت في كتابه.
أما فيما يخص البوذية، فسنجد أنها قد تمسكت بالمعتقدين الهندوسيين الخاصين بكل من الكارما والولادة الجديدة، وإن كانت قد أخضعتهما للكثير من التعديلات. بحسب ما اشتهر عن بوذا، فإنه كان يرى أن في ميسور الإنسان من أي طبقة اجتماعية أن يغير من نفسه بحيث ينجو من نتائج آثامه التي اقترفها في وجوداته السابقة، هذا في الوقت الذي رفض فيه القول بأن الروح تنتقل من وجود إلى آخر.
وبدلاً من ذلك فإنه قال إن الحياة الجديدة تقوم على مجموعة من الصفات التي جاءت من الكارما، وقد اعتاد البوذيون على توضيح تلك النقطة بمثال وضع الخاتم على الشمع، فما سيحدث في هذه الحالة أن شكل/ صفات الخاتم هي التي ستنتقل للشمع، أما الخاتم نفسه فسيبقى كما هو في وجوده المستقل.
فيما يخص المنظومة الأخلاقية البوذية، فإن بوذا لم يشجب الرغبة كلها، ولم يقل إن الوجود كله شقاء، ولكنه أكد على ضرورة الزهد في الرغبات التي سينبني عليها الكثير من الألم في المستقبل، مثل ملكية الأراضي، والزواج، والأبناء، والأصدقاء، وفي ذلك ينقل عنه:
"إن الذين لديهم مئة شخص عزيز لديهم مئة بلوى، والذين لديهم تسعون شخصاً عزيزاً لديهم تسعون بلوى!... والذين لديهم شخص عزيز واحد، لديهم بلوى واحدة، والذين ليس لديهم شيء عزيز ليست لديهم بلوى".
من هنا، يمكن أن نفهم موطن التعارض الرئيس بين الديانتين الجينية والبوذية، ففي الوقت الذي أصرت فيه الأولى على اجتناب الشهوة ومتطلبات الجسد بشكل صارم، فإن الثانية قد أعلنت عن تمسكها بالطريق الوسط، والذي يشير للطريق الذي يقع بين حياة الحس والمتعة المسرفة من جهة، وبين حياة الزهد والتقشف المتطرفة من جهة أخرى.