كنت أشاهد فيلماً وثائقياً لدوتشه فيله الألمانية حول ظروف العمالة في البلدان الآسيوية في مصانع إنتاج ملابس الجينز التي يرتديها عشاق العلامات التجارية الباهظة في أوروبا. نساء يعلن أُسَرا في مساكن الصفيح ويعملن لخمسة عشر ساعة ويقبضن مبلغاً لا يتجاوز العشرين يورو في الشهر. أعرف أشخاصاً كانوا يعملون لسبع عشرة ساعةٍ في أعمال شاقة يومياً دون إجازات مقابل مبلغ لا يتجاوز العشرين دولاراً في الشهر. هنالك أيضاً في بلدٍ ما من كوكبٍ آخر عمال سخرة لم يستلموا راتباً منذ خمس سنين ويدفعون الكثير من التبرعات. مرحباً بكم لقد غزونا الفضاء.
في أزمة اكتئابٍ طويلةٍ لا تتعلق بألوان الجدران التي لا توافق أصباغ الباستيل من حولك أو عدم تناسق الأثاث على نمطٍ فنيٍ تاريخيٍ معين إلا أنك طفلٌ في الشرق الأوسط، لا بد من البحث عن معنى أكبر لذلك. المعنى الذي فنت لأجله شعوب وقامت لأجله شعوبٌ أخرى. تلك الخرافة التي وطدت اجتماعنا كبشرٍ لا يطيقون بعضهم، وعلى استعدادٍ للنيل من بعضهم متى ما لاحت بوادر مصلحة وراء ذلك مأمونة العواقب.
استطاعت خرافاتنا ككائنات تستمر المجردات في تشكيل مفاهيمها حول ماهيات الوجود في خلقٍ آخر تستلزم كائناته المخلقة خلق ماهوياتٍ تستمر في التوالد داخلها لتتحكم بمصير الواقع أمام أعيننا. شاهدنا العالم يؤرجح أطفالنا ويسلبنا إياهم، ننام ببطونٍ ممتلئةٍ يوماً ونموت جوعاً في أخرى. الجميع يطمع فيما لدى الجميع، واليقظة أهم حالةٍ للنجاة. سئمنا هذا النمط.
غادرنا الغابة ذات يوم متحدين الطبيعة الحاكمة. كسرنا الدائرة البيئية التي تتحكم الطبيعة بتوازناتها بين التخمة والموت جوعاً، ثم بدأنا بخلق دوائرنا البيئية الخاصة. قهرنا قسوة شتائها وغضب صيفها وواجهناها وجهاً لوجه في أكثر من جولةٍ وبائية أو كارثةٍ طبيعية. يمكن وصف هذه العلاقة في بداياتها برفض البؤس الأصيل والخوف المسيطر على أنماط حياتنا كبشرٍ تحت رحمة الطبيعة العمياء، فكانت الحضارة.
الحضارة، الموقف الإنساني الممتعض من قسوة الطبيعة تجاه كائناتها. لن نكون الكائنات الأضعف في هذا النظام، وسلاحنا بدائع خيالنا، الخرافة. اكتشفنا النار ثم الزراعة واخترعنا كائناً طفيلياً أسميناه السلطة. في ذلك الحين، ابتكر أرسطو الغاية التي بدأناها في خصامنا مع الطبيعة. اختار أرسطو السعادة غايةً لتمدننا وخلقنا لهذا الكائن الطفيلي، السعادة التي تحرمنا إياها الطبيعة في خوفنا منها لأجل البقاء.
وفي لحظةٍ مبكرةٍ من تاريخنا صرخ أحدهم “اكتشفنا الموسيقى يا رفاق”. لكن أنا آسف فهي حرام. أعرف كوكباً يغيب من يغني فيه أشهراً وراء القضبان. فقال سيوران “لا يحب الموسيقى سوى الذين يتعذبون في الحياة”.
ابتكرنا السلطة
كان لتحدي الطبيعة ثمنٌ في المقابل، يجب أن ندفع ضريبة تدخلنا في إرادتها. مع ظهور مجتمع الزراعة ظهرت خرافة الملكية الخاصة كما يقول إنجلز. تملكنا ما لا يمكن تملكه بعد أن كان كل شيءٍ مشاعاً. وكان علينا أن ندفع أيضاً ضريبة ظهور الملكية في ظهور أشكال العبودية والاستبداد والإقطاع. قلب ذلك أنماط حياة البشر بلا إمكان للعودة. تحولت حياتنا لمشهدٍ هزليٍ من مزرعة الحيوانات لجورج أورويل.
استغرب الهندي الأحمر سياتل من هذا الأمر وقال للبيض القادمين لشواطئ أميركا محملين بأكداس الحضارة الحديثة “كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار!”.
سنذهب لجوجل ونضرب مثالاً حياً لهذا المشهد. إيلون ماسك، الثري الذي تتجاوز ثروته الـ(296) مليار دولار. شركة تسلا للسيارات الكهربائية التي يديرها ويملك الحصة الأكبر فيها تتجاوز قيمتها السوقية التريليون دولار، أما شركة سبيس إكس التي يملكها فتتجاوز قيمتها المائة مليار دولار. إيلون ماسك رجلٌ عظيم، عقله عظيم، وأفكاره إبداعية، وهو بطلٌ من أبطال الرأسمالية العظيمة أيضاً. يجني هذه الثروة من شركة تسلا التي يعمل فيها ستة آلاف موظف يتلقون بضعة آلاف الدولارات في الشهر الواحد مقابل ساعات عملٍ لا تقل عن نصف يومهم، وثمانية آلاف موظفٍ آخر في شركة سبيس إكس. إيلون ماسك عظيم يجني عماله الثروة له كما كان يحصد أسلافنا الزرع للبرجوازي النبيل المستغرق في المتعة في منزله.
جيف بيزوس يمتلك ثروةً تتجاوز الـ(210) مليارات دولار، في شركةٍ يمتلكها ويعمل فيها مليون وثلاثمائة ألف موظفٍ حول العالم. قد لا يمكننا أن نحقق السعادة لكافة الجنس البشري ولكن سنبدأ بسعادة بيزوس وماسك. لكن من سيحمي هذه الملكية ويحافظ على النظام الذي يحمي من يشترون ويبيعون ويملكون السماء وتراب الأرض؟ مرحباً بالسلطة السياسية.
استغرب الهندي الأحمر سياتل من هذا الأمر وقال للبيض القادمين لشواطئ أميركا محملين بأكداس الحضارة الحديثة "كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار!".
في تعبيرٍ لـ(ويل ديورانت) في قصة الحضارة، يقول: “الدولة أمها الملكية وأبوها القتال!”. خلقت الملكية السلطة السياسية وسماها فلاسفة السياسية الغربيون لاحقاً بالعقد الاجتماعي، وفي وقتٍ أبكر من ذلك، قال أرسطو إن غاية وجودها هي السعادة.
ستعمل هذه السلطة على ضمان استمرار حق التملك وانصياع الأغلبية لأوامر الأقلية الأرستقراطية أو النخبة. سيجلس مجموعةٌ من الطفيليات على المكاتب ويبدؤون في إخبارنا كيف يجب أن نعيش ولأي قيمٍ نعيش وكيف يجب أن نحميهم وندفع أرواحنا وأبناءنا ومحاصيلنا لهم، وأن نتعرض للعقاب عندما نخالف ما يقررون أن نتبعه، وأن نبني التماثيل والنصب للزعماء والعظماء من هذه الطفيليات. ستدعمهم الآلهة القديمة والجديدة وتؤيدهم. لكن لماذا سننصاع لهم؟ لأنهم اخترعوا الجيش، وكما قال ديورانت “الدولة أمها الملكية، وأبوها القتال”.
هذا ليس مقالاً اشتراكياً، فالفلاحون ثاروا ومات منهم ثلاثة ملايين في مسيرة ماو تسي تونغ الكبرى، انظروا لهذه التسمية “مسيرة ماو تسي تونغ”، ليست مسيرة الفلاحين بل تونغ، وسنسبح بحمد تونغ لألف عامٍ أخرى فهو عظيمٌ مثل إيلون ماسك.
سعادة مؤجلة
في موقفٍ حازم في القرن الخامس خرجت الجماهير ثائرةً في روما تطالب السلطة بالسعادة. وخرج في المقابل القديس أوغسطين كما خرج المسيح قائلاً “طوبى للودعاء” ليقول لهم بالحقيقة الصادمة، هذه الأرض مدينة الشيطان ولا سعادة هنا في هذا المكان. لكن انتظروا، هنالك سعادةٌ مؤجلةٌ في مدينة الرب. أنا آسف، مدينة الرب غير موجودةٍ على خرائط جوجل.
الأمن والبقاء
يظهر السيد مصطفى في فيلم فندق جراند بودابست ساخراً من طريقة فقدانه لزوجته بحمى يعالجها الأطباء في وقته خلال أسبوع، في حين كانت تجهز على إنسانٍ في الوقت الذي ماتت فيه زوجته. يمكننا التخيل أن وباءً قضى على ربع سكان الأرض في الوقت الذي نتلقى فيه الآن لقاحاً يجعلنا نسخر منه. هذا ما فعلته لنا الحضارة. بعد أن أصبح متوسط أعمار البشر في البلدان ذات الأنظمة الصحية المتقدمة تصل للتسعين عاماً، في حين كانت في حدود خمسة وعشرين إلى ثلاثين عاماً في المتوسط قبل آلاف السنين. لكن هل نحن سعداء؟
يجادل علماء البيولوجيا بأن المشاعر الإنسانية تعود تطورياً لسبب واحدٍ هو خدمة غريزة البقاء. الخوف، القلق، الحب والكره، كلها مشاعر تطورت لتخدم هذا الغرض. في كتابه الجين الأناني، يذهب ريتشارد دوكينز لأبعد من ذلك ويقول بأن مشاعر الحب والغريزة الحيوانية في رعايتنا كحيوانات لصغارنا ودفعنا للإنجاب والتكاثر هو أمرٌ أشبه بحيلة تضمن بها جيناتنا البقاء والانتقال لجسدٍ آخر والتكاثر. الأمر ليس منوطاً بنا، ولا ببحثنا عن السعادة، الجلوكوز في الفاكهة هو حيلة النبات لنقل بذوره والتكاثر، ونشوة التسعة ثوان الجنسية حيلةٌ أخرى لبقاء هذه الجينات. في طريقنا للحضارة اكتشفنا هذه الحيلة واخترعنا وسائل منع الحمل.
هذا الأمر يستمر في دفعنا للتساؤل، هل تحقيق الأمن والبقاء يعني السعادة؟ سنقف مع هراري في تاريخ الهومو سابينس للكشف عن جواب. تجاوزت أعداد الخراف ثمانية مليارات رأس في العالم، يجب أن نركز على هذه المفردة “رأس”، تلك الحيوانات الضعيفة المعرضة للموت على يد أضعف المفترسين تتجاوز أعدادها أعداد البشر أنفسهم، أي أنها ضمنت تحقيق أهداف غريزة البقاء. هل هي سعيدة؟
الأبقار تجاوزت أعدادها مليار ونصف مليار رأس في الكوكب، ولنا أن نتخيل الأعداد المليارية لبقية الحيوانات التي نقوم بتربيتها للتغذي عليها. هذه الحيوانات حققت البقاء كما يقول هراري ولكن لأنها معدةٌ للذبح. يبلغ متوسط أعمار الأبقار الافتراضي بين خمسة عشر وعشرين عاماً، في حين تعيش الأبقار المخصصة للذبح اثني عشر شهراً من هذا العمر قبل أن تذبح، وتعيش معظم هذه الاثني عشر شهراً حبيسةً في مساحةٍ لا تتجاوز المترين في الغالب. هل نظن بأنها سعيدة؟
يجادل علماء البيولوجيا بأن المشاعر الإنسانية تعود تطورياً لسبب واحدٍ هو خدمة غريزة البقاء. الخوف، القلق، الحب والكره، كلها مشاعر تطورت لتخدم هذا الغرض
المشكلة ليست في السلطة بل في شكلها
يقول ديورانت بأن البشرية كانت سعيدةً في مرحلةٍ ما من تطور مجتمعاتها، تلك اللحظة التي لا يرى فيها أحدهم التمايزات الطبقية الاقتصادية بين أفراد مجتمعه وتغيب فيها فكرة التملك والاستحواذ، والجميع يتشارك الطعام والمأوى ولا يحتاج حتى لتخزين المؤن. ينطلق ماركس وإنجلز من هذا المجتمع الشيوعي بوصف الملكية أس مشكلات البشر وأساسها وجعل الشيوعية هو الوضع الذي يحقق لنا السعادة.
من دائرة الطبيعة لدائرة الحضارة.. ما الذي تغير؟!
يُجبر الإنسان العادي في العصر الحالي على تسخير ما يقرب من ستة عشر عاماً في المتوسط من عمره في الدراسة. بالكاد سيجد وقتاً لمراجعة نفسه حول أسباب خضوعه هذه، لا أملك وقتاً للذهاب للحمام، أو ربما هكذا كان يسخر مني والدي عندما أكل قليلاً في مراهقتي. ويقطع الملايين من الأطفال عشرات الكيلومترات يومياً ذهاباً وإياباً لمدارسهم لتلقي العلم. يقدم الآلاف على الانتحار جراء ضغوط الدراسة في مراحل عمرية أكبر. في كوريا الجنوبية، يقدم 32 شخصاً من كل مائة ألف شخص على الانتحار بسبب الضغوط الدراسية.
اقرأ أيضا: اليودايمونيا وبحث هيكتور عن السعادة
لي صديقٌ مثقفٌ منهمك في تعلم أحد العلوم الآلية، وحين سألته عن سبب ذلك سخر مني وقال: “العلم مطلوبٌ في ذاته وليس في حاجةٍ لسبب لتعلمه!”. بودي أن أكون مغفلاً كشخصيةٍ في روايةٍ أخلاقية وأصدقه. لماذا عليه وعليهم فعل ذلك؟ ولماذا سيدرسون؟ بالطبع لينجو ويستعد لمواجهة نظام الحضارة البديل عن نظام الطبيعة في دوائرها البيئية بين المفترس والفريسة، هنالك برجوازيٌ عظيمٌ ينتظر أن نجني له ثروته وطفيلي ينتظر أن ندفع له ثمن تسلطه علينا.
أنا لا أعرف ما فائدة كل هذا الحديث، ولماذا تحضرني الآن نكتة الثور والخبير الإستراتيجي. الأهم من ذلك أن هذا ليس موقفاً من الحضارة أو معها، نحن لا نعرف ماذا نريد، ففي حياةٍ أخرى سيولد ماركس من جديد ويصرخ “يا عمال العالم، لا فائدة من كل هذا الهراء!”.