في بيروت، أطلال ثورةٍ أخرى خائبة، الدولار، كجزرةٍ وحمار، لا يتوقف عن الركض بعيداً بآمال اللبنانيين في الحياة، عبارات كسميات ناقمة تملأ الجدران، وزينة عيد الميلاد الحمراء تقاوم النعاس، لكن بحذر، واللبنانيون يبحثون عن فرحةٍ مخبأةٍ في هدايا عيد الميلاد.
الشتاء وأجواء عيد الميلاد، وإن لم تكن بذات الصخب الذي اعتادته بيروت، لا تزال روحها حاضرةً في شوارع بيروت. أثناء تجوالي في الشوارع التي تعج باللبنانين المتسوقين استعداداً لعيد الميلاد، وآخرين حاضرين للاستمتاع بالمهرجانات الفنية والثقافية التي تقام في كثير من الساحات المشهورة، تجاذبت أطراف الحديث مع البعض منهم حول استقبالهم لعيد الميلاد هذا العام.
صعوباتٌ اقتصادية
تواجه لبنان واحدةً من أشد الأزمات الاقتصادية في تاريخها الحديث، إذ تستمر أسعار الإيجارات في الصعود وسط تدني مستوى الدخل للمواطنين في ظل انهيار العملة الوطنية أمام الدولار، وآثار الأزمات السياسية مع دول المنطقة التي تلحق الضرر بالاقتصاد اللبناني. وهو الأمر الذي آثر بشكلٍ مباشر على معيشة المواطنين مع التضخم المستمر في أٍعار المواد الغذائية الأساسية. رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أفاد بأن لبنان في حاجة لخمس سنواتٍ على الأقل لتجاوز أزمته الاقتصادية.
الوضع الاقتصادي السيء مع قدوم فترة الأعياد يشكل عبئاً آخر على المواطنين اللبنانيين الذين يتوقون لفرحةٍ وحيدة في عامٍ ترك الكثير من الأعباء المعيشية على عاتقهم وغير نمط معيشتهم في صورةٍ تبدو أنها لا رجعة منها.
في طريق عودتهن من شراء هدايا عيد الميلاد، تبادلت أطراف الحديث مع الشابتين شهد شمخاوي، وجيانا سليمان. جيانا سليمان، طالبة جامعية تدرس الهندسة، ترى أن العيد هذا العام مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد يؤثر على طريقة احتفال اللبنانيين به حيث تضطر غالبية الأسر للتخلي عن كثير من الأنشطة التي اعتادت ممارستها في عطلة العيد لتتناسب مع إمكانياتهم الاقتصادية هذا العام.
تقول جيانا: “ما يحدث خلال الأزمة الراهنة أثّر على ما يمكن القول بأنه سبعون بالمائة من العائلات اللبنانية، العائلات التي كانت معتادة على ممارسة نشاطاتٍ خاصة بأعياد الميلاد، أصبحت مضطرة للتخلي عنها بعد أن أصبحت ميزانياتهم عاجزةً عن تلبية متطلباتها”.
هذا وتشهد لبنان انهياراً للعملة الوطنية أمام العملات الخارجية، حيث تخطى الدولار الواحد حاجز السبعة وعشرين ألف ليرة لبنانية، في حين كان يساوي ثمانية آلاف ليرة مطلع يناير من العام الحالي، الأمر الذي أثر على جودة حياة اللبنانيين وقدرتهم على تلبية متطلباتهم المعيشية اليومية.
هدايا العيد وفسحة للفرح
من جهةٍ آخرى، قد يرى اللبنانيون أن لهذا العيد مكانةً خاصة تختلف عن بقية الأعياد في السنوات الماضية. كضوءٍ يمكن أن يشاهدوه آخر النفق، باعتباره فسحة الفرح التي سيعيشونها في عامٍ مليءٍ بالأزمات والاضطرابات السياسية والاقتصادية.
شهد شمخاوي، وهي تعمل صحفيةً في إحدى وسائل الإعلام، في معرض ردها على أحد الأسئلة التي طرحتها عليها تقول: “لن تجد شيئاً إيجابياً في لبنان في هذه الأوضاع سوى عيد الميلاد الذي قد يمنح اللبنانيين متنفساً لمحاولة نسيان الأعباء المعيشية التي تثقل كاهلهم جراء الأزمة الاقتصادية التي تمر بها لبنان”.
وتضيف شهد: “يمكن أن نقول عن الكريسمس هذا العام من حيث قيمته المعنوية بأنه أخيراً هنالك فرصة يمكن لنا فيها أن نبتسم ونتشارك الفرح مع أهلنا وأصدقائنا ونتبادل معهم الهدايا مهما كان نوعها. ستؤثر الحالة الاقتصادية بالتأكيد على مقدرتنا في شراء الهدايا. لكن ما يهم هو القيمة المعنوية لهذه الهدية التي نتبادلها مع أحبائنا، لا يهم كم هو ثمنها بقدر ما أنك تعطي هديةً لشخصٍ ما”.
أما جيانا فتقول: “بالإضافة للقيمة المعنوية للعيد هذا العام كمتنفسٍ أخير للفرح في هذا العام، يحاول الناس نوعاً ما أن يضعوا لمستهم في الهدايا هذا العام. لست مضطراً أن تشتري أشياء باهضة، يمكن لكرت معايدةٍ تكتب فيه جملةً للشخص الذي تعايده أن تؤثر عليه أكثر من أي شيءٍ آخر قد تشتريه”.
الميلاد.. رسالةٌ لإٍسعاد الآخرين
في وسط بيروت، تتزين الشوارع والساحات بأضواء وأشجار عيد الميلاد، ويتجمع الناس لمشاهدة العروض الفنية والثقافية المفتوحة لمهرجان بيروتتنا. هناك التقيت بدارين عبود وفرقتها الراقصة التي كانت تؤدي مجموعةً من العروض الراقصة التطوعية مع فرقتها على هامش المهرجان الغنائي، ليتشارك الحاضرون معهن الرقص والفرح بهذه الأجواء.
تأتي دارين، مدربة رقص الزومبا، يومين في الأسبوع مع فرقتها الصغيرة لأداء بعض الاستعراضات في الساحة في هذه الفترة لتنشر الفرح والسعادة في أوساط مرتادي المهرجان والإحساس بأجواء العيد. كما تعتبر حسب قولها أن عيد الميلاد يمثل رسالةً لنشر الفرحة والبسمة وتمني الخير لجميع الناس، وهذا ما تقوم به مع فرقتها في وسط بيروت.
تقول دارين: “يعشق اللبنانيون البهجة، ولذلك ما دائماً يبحثون عن مكانٍ للفرح والسعادة، رغم الصعوبات التي نواجهها كشعب في هذه الأوضاع، يمكنك مشاهدة الزحام وحرص الناس على الحضور هنا للبحث عن السعادة، ولذلك نحن نأتي إلى هنا لنصنع هذه الأجواء ونرسم البسمة على وجوه الناس.. هذه رسالة عيد الميلاد بالنسبة لنا”.
وتضيف دارين: “بالتأكيد عيد الميلاد هذا العام قاسٍ نوعاً ما من حيث الأوضاع الاقتصادية، لكننا أيضاً نحب أن نفرح، كما أن دفء اجتماع العائلة ومشاركتها الفرح بالعيد يمكن أن يخفف عنا هذا، الأهم هي المحبة التي نعيشها ونتشاركها مع أحبائنا في هذه المناسبة.. ربما لن نستطيع شراء هدايا كأعياد الأعوام الماضية، لكن القيمة الرمزية لهدية العيد هي الأهم”.
شمعة خلاص
في زاويةٍ من زوايا بازار المهرجان وسط بيروت، تقف السيدة منى خير الله في مقصفها تبيع الفضة والاكسسوارات النسائية، وتعيش أجواء عيد الميلاد. تمتلك السيدة خير الله محلاً لبيع الاكسسوار وتشارك في هذا المهرجان ضمن المعرض الذي يقام في مهرجان بيروتتنا. تقول السيدة خير الله بأن المشاركة في هذا المعرض الذي تشترك فيه للسنة الثانية يجعلها تعيش أجواء العيد التي تشاهدها في المهرجان الذي يرتاده اللبنانيون والسياح العرب والأجانب.
وتنظر السيدة منى خير الله للعيد بمثابة ميلاد الخلاص الي تأمل أن يكون هذا العام بمثابة عيد الخلاص للبنان ولكل البشر حد قولها. وتضيف: “أمنياتي في هذا العيد الذي أراه كامرأةٍ مؤمنةٍ ميلاداً للخلاص، أن يكون عيد خلاصٍ للبنانيين ولكل العالم، نرجع للبنان الذي كان سويسرا الشرق.. هذا العيد شمعة رجاءٍ للخلاص، ربما لن نقدر على شراء الهدايا كالأعياد الماضية ولكن روح العيد التي تمنحنا الأمل لا زالت باقية”.
ويحل عيد الميلاد على اللبنانيين في بيروت بمشاعر متناقضة، بين الضغوط الاقتصادية وتردي الأوضاع المعيشية التي ستؤثر بالتأكيد على قدرة اللبنانيين في الاحتفال، وبين رؤيتهم له كفسحة فرحٍ يمكن لهم أن يحضوا بها بعد عامٍ طويل من الأزمات وضغوط المعيشة وشمعة أملٍ للخلاص في عامهم الجديد. فرغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، يستمر اللبنانيون بروح جيمس وإيدا في “The Gift of Maggie” يتوقون لفرحة غابت طويلاً تجمعهم وأحباءهم من جديد.