"أنتمي إلى جميع الأديان ولا أنتمي إلى أي منها. لقد لُقن الناس أن عليهم أن ينتسبوا إلى عقيدة، كما ينتسبون إلى عرق أو قبيلة. وأنا أقول لهم إنهم كذبوا عليكم. اعرفوا أن تجدوا في كل عقيدة، وفي كل فكرة، المادة المنيرة، وأزيحوا القشور. ومن يتبع سبيلي يستطيع أن يبتهل إلى (أهورا – مازدا)، وإلى (ميترا)، وإلى المسيح وبوذا. وسوف يأتي كل إنسان إلى المعابد التي سأشيدها"
بتلك العبارات ذات اللغة الشاعرية الملحمية، قدم الروائي اللبناني الأصل –الفرنسي الجنسية- أمين معلوف، شخصية النبي ماني في روايته المشهورة “حدائق النور“، والتي نُشرت للمرة الأولى في عام 1991، ليستعرض سيرة هذا النبي الغامض الذي بشر بالمانوية، والتي هي مزيج من الديانات الشرقية والإبراهيمية في آن.
على الرغم من اندثار الديانة المانوية في العصر الحالي، فإن الباحث في تاريخ الأديان القديمة، سيلاحظ الأثر العظيم الذي تركه ماني في ثقافات بلاد فارس والهند والصين، وسيندهش للمؤثرات المانوية المتعددة التي دخلت في تركيبة الأديان التي تبعتها بعد قرون.
ماني: سيرة النبي المؤسس
وفقاً للمعلومات المتاحة، فإنه قد تم تأسيس الديانة المانوية على يد النبي ماني، والذي ولد في عام 216 قرب مدينة طيسفون الواقعة على الطرف الغربي من نهر دجلة في بلاد الرافدين، ويُقال إن أصوله إيرانية. بحسب ما يذكر ابن النديم (المتوفى 994) في كتابه “الفهرست” فإن والد ماني كان يسمى فتق، وكان يعيش في مدينة همدان، وكان ينحدر من أصول ملكية، وفي أحد الأيام كان فتق يزور المعبد، فإذا به يسمع صوتاً يقول له “يا فتق، لا تأكل لحماً، ولا تشرب خمراً، ولا تنكح بشراً”، وعلى إثر ذلك الهتاف، التحق فتق بطائفة المغتسلة المعمدانية، وهي طائفة غامضة لا نعرف عنها الكثير، ومن المُرجح أنها كانت إحدى الطوائف اليهودية- المسيحية التي انتشرت في بلاد الرافدين في القرن الثاني من الميلاد.
على خطى والده سار ماني، إذ تؤكد المصادر القديمة أن نبي المانوية قد التحق بالمغتسلة في سن الرابعة، وأنه قد سار على تعاليمها المغرقة في الزهد والتقشف، حتى إذا ما حل الأول من نيسان في عام 288، فإن الوحي –الممثل في الملاك الذي يُدعى توما- قد هبط على ماني الذي كان وقتها لايزال صبياً لم يتخط الثانية عشر من عمره، فأمره بأن يتجهز لفراق الجماعة، وبأن يستعد ليصدح بالدعوة للدين الجديد، الأمر الذي بدأه فعلياً بعد ذلك بسنوات، وتحديداً عندما بلغ ماني سن الرابعة والعشرين من عمره.
بحسب ما يذكر الباحث السوري فراس السواح في “موسوعة تاريخ الأديان”، فإن جهود ماني المبكرة للتبشير بدينه الجديد لم تلق آذاناً مصغية في بلاد الرافدين، الأمر الذي أضطره للسفر شرقاً باتجاه الهند، حيث تمكن هناك من استمالة ملك طوران البوذي وحاشيته، وأقنعهم باعتناق المانوية، ومكث لفترة في تلك النواحي، حتى قرر العودة مرة أخرى لإيران.
مع رجوع ماني، كان هناك أمر مهم يحدث على الصعيد السياسي في بلاد فارس، إذ توفى الملك أردشير، وتولى الحكم ابنه شابور الأول، والذي عُرف في السنوات التالية لتتويجه بنجاحه الكبير في حروبه ضد الإمبراطورية الرومانية، حتى إنه قد تمكن من أسر الإمبراطور فاليريان، في سابقة لم تتكرر في تاريخ الصراع الفارسي الروماني.
بحسب ما هو معروف في الأساطير المانوية، فإن ماني -أثناء رحلة رجوعه- قد اتصل بالأمير مهرشاه، أخي الملك شابور، وأثناء ما كان يعرض عليه اعتناق الدين الجديد، فأن مهرشاه قد قال له وهو يتفاخر ببستانه الجميل: “هل يمكن أن يكون في الفردوس الذي تتغنى به بستان كبستاني هذا؟”، عندها تحققت المعجزة، عندما أراه ماني بقوته الخارقة “جنان النور مع جميع الأرباب والآلهة، ونسيم الحياة الأبدية، وبستاناً فيه جميع أنواع الغراس، وأشياء أخرى…”، فآمن عندها مهرشاه والكثير من أتباعه. بغض النظر عن الناحية الأسطورية في تلك الرواية، فإن ماني قد تمكن من اجتذاب مهرشاه، ومن بعده الملك شابور بنفسه إلى جانبه، فمُنح صلاحية الوعظ بحرية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وتمكن من اجتذاب الكثير من الفرس لدعوته، ولكن الأوضاع انقلبت بعد وفاة شابور الأول في 272، لأن خليفتيه -هرمز وبهرام- كانا متأثرين بالكهنة الزرادشتيين المعادين لماني، ومن ثم فقد صدر قرارا ملكيا من بهرام بمثول ماني أمامه، ليخضع بعدها لاستجواب مذل، ويُحكم عليه بالسجن والتقييد في السلاسل، حتى إذا ما مات أمر الملك بغرز مشعل محترق في جسده للتأكد من موته، ثم قُطعت رأسه ومُزقت جثته، ودفن أتباعه البقية الباقية من جثمانه في طيسفون، ليُسدل الستار على حياة ذلك النبي الغامض.
ثنوية النور والظلام: المعتقدات والنظرة إلى الحياة
في الماضي، ساد الاعتقاد لفترات طويلة بأن المانوية ليست أكثر من بدعة أو هرطقة مسيحية، ذلك قبل أن يتم العثور على العديد من الوثائق المانوية في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وهي الوثائق التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن المانوية هي “ديانة كونية عظيمة ومستقلة”.
يمكن القول إن العقيدة المانوية تتمحور بالأساس حول فكرة الثنوية الراسخة الجذور في الفكر الديني الإيراني القديم، فبحسب ما ورد في موسوعة تاريخ الأديان، فإن المانوية قد قامت على وجود أصلين، وهما النور والظلام، كما أنها وضعت ثلاث مراحل للتاريخ الكوني، وهم المرحلة الذهبية/ السابقة، والمرحلة المتوسطة/ الممتزجة، والمرحلة الأخيرة/ اللاحقة، على الترتيب.
تؤمن المانوية أن الكون لم يعرف في بدايته إلا وجود النور ووجود الظلام، وأن كلًّا منهما كان منفرداً وبعيداً عن الآخر، ولم يكن هناك أي تلاقٍ بينهما، حتى وقع الصراع بين أمير النور وأمير الظلام، وحاول كل من الطرفين أن يحقق السيادة الكلية على الكون، الأمر الذي سيظل قائماً لفترة طويلة، حتى يتحقق الانتصار النهائي للنور، وينفصل القطبان عن بعضهما “لتتحقق المعرفة والهداية، حيث تعود الحقيقة والزيف كل إلى أصله، إذ سيعود النور إلى النور العظيم، وستعود الظلمة إلى كتلة الظلام، ويعود المبدآن إلى أصلهما”.
المانويون لم يعتقدوا بأن النور والظلام مخلوقان أو محدثان، بل أكدوا على أنهما أصل كل شيء، فالنور هو الله نفسه، وهو الخير والحق والفضيلة والعدالة والمعرفة، أما الظلام فهو المادة الشريرة التي هي مصدر كل خطيئة ودنس.
بحسب الأساطير المانوية، فإن الإنسان الأول –آدم وحواء- كان ثمرة تزاوج الشياطين، وأنه تكون بالأساس من ثنائية الروح والجسد، فأما الروح فإنها عنصر من عناصر الخير لكونها من النور، وأما الجسد فهو من العناصر الشريرة لأن أصله من المادة، ويرى ماني وأتباعه أن الحياة الإنسانية هي ساحة للمعركة الكبرى التي تدور بشكل مستمر بين الروح والجسد، وأنه –وبعد زمن طويل- ستنتصر الروح، وسيتطهر العالم من خلال نار مضرمة مدمرة تدوم لمدة 1468 سنة، ليتم اصطفاء جميع ذرات النور التي فُرقت بين البشر في بداية الخليقة، وليتم حبس المادة في كرة داخل فوهة عملاقة تُغطى بحجر، وهكذا يتم الفصل بين الأصلين إلى الأبد.
بين أمنيات التمدد وواقعية الانحسار
إذا ما رجعنا لتاريخ المانوية في إيران القديمة، فإنه يمكننا الادعاء بأنها قد كادت أن تغدو الدين الرسمي للإمبراطورية الفارسية في عهد شابور الأول، كما أن الكثير من الباحثين يعتقدون بأن المانوية كانت من الممكن أن تحل محل المسيحية في أوروبا والإمبراطورية الرومانية، بما يعني أن تلك الديانة البائدة كان من الممكن –ببعض الحظ الجيد- أن تتحول لديانة عالمية يتبعها الملايين في كل قارات العالم.
في إيران، تعرضت المانوية بعد وفاة النبي ماني للملاحقة والاضطهاد، الأمر الذي يبدو منطقياً في ظل حالة العداء الشديد الذي استعر فيما بينها وبين الزرادشتية، لنراها وقد انتقلت غرباً في القرنين الثالث والرابع إلى داخل الإمبراطورية الرومانية، ولتنتشر أيضاً في كل من مصر وشمال أفريقيا وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى وجنوب بلاد الغال وإسبانيا، وربما كان السبب في عدم تثبيت أقدام المانوية في تلك الأقاليم، أن روما كانت تنظر للمانويين على أنهم عنصر هدام وخطير، وأنهم مجرد عملاء للسلطة الفارسية.
مع ظهور الإسلام وسيطرته على بلاد فارس، سادت الأجواء المتسامحة مع المانوية في السنين الأولى، ولكن مع وصول العباسيين للخلافة تجددت الإجراءات القمعية ضد المانويين، وارتبطت بهم كلمة الزندقة، التي تشير للهرطقة والتجديف والكفر، مما اضطرهم للهروب والفرار شرقاً للاستقرار في الصين، إذ صدر مرسوم إمبراطوري عام 732 ليمنح أتباع ماني حريتهم في ممارسة ديانتهم وشعائرهم في كامل أنحاء الصين، قبل أن يتم منع الديانة المانوية بشكل كامل في تلك الأصقاع في مرسوم عام 843.
من الأمور المهمة الجديرة بالذكر، أنه قد تم الربط بين المانوية من جهة، والعديد من الحركات الهرطوقية التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى من جهة أخرى، إذ اعتُبرت الثنوية المانوية أصل العلة فيها جميعاً، ومن بين أهم تلك الحركات كل من المذهب البريسلياني الذي ظهر في إسبانيا، والبولسية التي ظهرت في أرمينيا، والبوجوميلية التي ظهرت في بلغاريا، بالإضافة إلى الكاثارية التي ظهرت في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا.
التنظيم والشرائع
من الأمور المثيرة للاهتمام في الديانة المانوية، أن صاحبها قد عمل على ربطها بالكثير من الديانات التي كانت سائدة في عصره، ومن ثم نراه وقد نسبها –بطرق متفاوتة- لكل من المسيحية، والزرادشتية، والبوذية، فضلاً عن الغنوصية العرفانية التي كانت منتشرة على نطاق واسع في ذلك العصر. هذا الأمر يفسر إلى حد بعيد سبب الاختلاف بين المانوية الشرقية التي انتشرت في الصين، والمانوية الغربية التي انتشرت في أوروبا، فبينما تقمص ماني في التقاليد المانوية الشرقية شخصيتي لاوتسو مؤسس الطاوية وبوذا، فإنه يقترب أكثر في التقاليد الغربية ليتماهى من شخصية يسوع المسيح.
على العكس من الكثير من الأنبياء والرسل والمصلحين، الذين تركوا مهمة تنظيم الدين للأتباع اللاحقين، فإن ماني قد عمل على وضع أهم القواعد التي يجب أن تسير عليها الديانة المانوية من بعده، وذلك من خلال تدوينه للكثير من المصنفات، والتي كتب الجزء الأكبر منها باللغة الآرامية الشرقية، ومن بين تلك المصنفات التي وصلتنا بعض أجزائها، كل من الإنجيل الحي، وكتاب كنز الحياة، وكتاب الأسرار، والأطروحة، وكتاب الجبابرة، والرسائل، هذا فضلاً عن كتاب الشابورقان الذي أهداه للملك شابور الأول، وكتاب الصور الذي عمل ماني فيه على توضيح الموضوعات الأساسية في العقيدة بطريقة سهلة وواضحة حتى لمن لا يجيدون القراءة.
وبحسب ما يذكر جيووايد نفرين في كتابه “ماني والمانوية: دراسة لديانة الزندقة وحياة مؤسسها”، فإن من بين القواعد التنظيمية المهمة التي وضعها ماني بنفسه، تقسيمه الأتباع إلى قسمين متمايزين، وهما المجتبون والسماعون، وتحديد الوظائف الخاصة لكل منهما، فبالنسبة للمجتبين فهم الصديقون الأرفع شأناً ومنزلة، ويجب عليهم الامتناع عن المعاشرة الجنسية، كما يجب عليهم الامتناع عن الإنجاب، لما فيه من “تأخير لإعادة تجميع ذرات النور”، أما السماعون فهم الأقل شأناً، ولهم حرية ممارسة جميع الأعمال المحرمة على المجتبين، ومنها توفير الطعام والمعاشرة الجنسية، وتحتفظ لنا بعض الوثائق المانوية القديمة بنص يتحدث فيه أحد المجتبين قُبيل تناول قطعة خبز، فيقول معلناً براءته من ذلك الإثم “لم أحصدك، ولم أطبخك، ولم أعجنك، ولم أضعك في الفرن، بل فعل ذلك شخص آخر وأحضرك إلي، فأنا أتناولك دونما إثم”.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المانوية قد آمنت بالتناسخ، وتعتقد أن روح الإنسان تعود إلى الحياة بعد فناء الجسد لتتلبس بصورة أخرى من صور المادة، وكان الاعتقاد السائد بأن “أولئك الذين أذنبوا سيتكبدون عقاباً متناسباً مع عملهم الإجرامي، فالإنسان الذي حصد الحقل المزروع سيولد من جديد مثل سنبلة قمح، وأما ذلك الذي قتل فأراً فسيكون فأراً في الحياة الآخرة، وهكذا…”.
تأثير أم تأثر؟ التشابه بين الإسلام والمانوية
إحدى النقاط المهمة والمثيرة للجدل في الديانة المانوية، أنها قد عرفت الكثير من التشريعات والطقوس التي سيدعو الدين الإسلامي إليها بعد وفاة ماني بما يزيد عن ثلاثة قرون.
على سبيل المثال، عرفت المانوية الصلاة بما فيها من حركات الركوع والسجود، وأمرت أتباعها بأداء أربع صلوات في اليوم الواحد، وكذلك دعت للصيام، وحددت شهراً كاملاً للصيام في كل عام، كما أن المانويين قد عرفوا الزكاة، وكذلك فقد مارسوا شعائر التطهير التي تقترب كثيراً من طقوس الوضوء والتيمم المعروفين في الإسلام.
وجهة النظر الأولى، تؤكد على أن الإسلام قد اقتبس الكثير من شعائر المانوية التي كانت معروفة في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي، وأن تلك الشعائر قد أقحمت في المنظومة الإسلامية شيئاً فشيئاً، قبل أن تتطور فيما بعد لتأخذ شكلها النهائي المعتمد، والذي تمت صياغته بما يناسب ظروف المجتمع العربي البدوي الذي عايش تشكل الدعوة المحمدية المبكرة.
أما وجهة النظر المقابلة، والتي عرض لها الدكتور خالد كبير علال في كتابه “الديانة المانوية هي المتأثرة بالإسلام وليس العكس”، فتؤكد على أن المانوية هي التي اقتبست من الإسلام، وتفسر ذلك بأن الكثير من المانويين في القرنين السابع والثامن الميلاديين لما وجدوا أنفسهم يعيشون وسط مجتمعات ذات أغلبية مسلمة، فإنهم قد عملوا على تطعيم دينهم ببعض الأفكار والطقوس الإسلامية، وذلك للتقريب بين المانوية والإسلام.
يضرب الدكتور علال بعض الأدلة التي تقف في صف تأييد هذا الطرح، عندما يعقد مقارنة بين بعض النصوص المانوية التي عُثر عليها في مصر وترجع للقرن الرابع الميلادي، والتي ورد فيها اعتراف ماني بنبوة كل من يسوع وبوذا وزرادشت دون غيرهم، وبين بعض المعتقدات المانوية الواردة في كتاب “الملل والنحل” لعبدالكريم الشهرستاني المتوفى 1153، والتي جاء فيها الاعتقاد بنبوة نوح وإبراهيم، كما ورد فيها وصف المسيح بأنه كلمة الله وروحه، وهي التأثيرات التي أضيفت للمانوية بسبب القرب من الدين الإسلامي، وبالمنطق نفسه، يؤكد علال على أن جميع التشابهات الطقسية بين المانوية والإسلام، مثل الصلاة والصيام والزكاة، قد أُقحمت في المنظومة المانوية في العصرين الأموي والعباسي، وأنها لم تُعرف في المجتمعات المانوية البعيدة عن الإسلام، كالتجمعات المانوية في أوروبا أو الصين على سبيل المثال.