اللغة بصورة ما هي التاريخ، والتاريخ هو صناعة الإنسان، ولم يكن للإنسان أن يصنع التاريخ خلافًا لكل الكائنات إلا حين حذق اللغة. فالإنسان وحده من بين كل الكائنات من يتوفر على خاصية التصور، وهذا هو ما فتح ذهنه على التفكير، وكان لابد من ترميز الفكرة في نمط يمكن حفظه كوسيلة للتفاهم وإدارة الأحداث وملاقحة الأفكار والربط فيما بينها.
ولقد كانت اللغة ابتداءً محاذية للأسطورة وشريكة لها في تخليق التصورات والأفكار الإنسانية للعالم المحيط بنا، لأن تلك هي البيئة الابتدائية التي بدأ الإنسان التعامل والتفاعل معها. لكن ومع توالي العصور كان لابد من خلق تركيبات ومفاهيم ومصطلحات وعلاقات لسانية تواجه حركة التاريخ لنتمكن بجدارة من التعامل مع مختلف المستحدثات والمتغيرات.
وها هي الآن في ضرورة للتلاقح مع أشكال الترميز الأخرى للأفكار، والدخول في معترك جديد مختلف عن تلك البدايات، بالنظر إلى المخرجات أو التطبيقات التكنولوجية للعلوم بلغتها التصويرية الرياضية، وللتغيير الكبير الذي أحدثته ثورة المعلومات في الواقع وطرائق حياتنا، وأمام مزيد من المضامين والأشكال الحياتية الجديدة، كما لم يكن طوال ملايين السنيين المنقضية من عمر الكون وإلى وقت قريب، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا للغتنا العربية التي ظلت حبيسة مفاهيمها ورموزها وأدواتها الكلاسيكية القديمة. وهذا هو ما سأتطرق إليه في جوانبه النظرية والعملية في اختصار شديد في هذه المقالة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية.
اللغة.. بين التنزيل والترميز.. بين الغيب والواقع
إذا كان المسيحيون لا يملكون أثرًا مكتوبا للمسيح، وكل ما نقلوه عنه كان على لسان الرسل متى ولوقا، في وقت متأخر “بعد صلب المسيح”. وإذا كانت التوراة قد انتشرت بين اليهود في وقت “لاحق” وعبر كتابات “متأخرة” ليهوذا ومجموعة من المدونين، وليست في حضور الكليم موسى. وإذا كانت لغة الإنسان -أي إنسان- هي ترميز للفكر وأداة لتداوله وحفظه، وقد تضامنت مع الأسطورة في مراحلها الأولى كوسيلة للوصول إلى العقل واستحضاره في الواقع، فإن الله بعظمته وجلاله قد حسم الأمر معنا نحن العرب المسلمين، فتفضل علينا بكلماته العليا في وحي مباشر حيّ، ينقله جبريل “فورًا” من الله في “السماء” نحو رسوله على “الأرض”، ويتم التكلم به في “حينه” في أوساط المجتمع المسلم (لا تحرك به لسانك لتعجل به* إن علينا جمعه وقرآنه* فإذا قرأناه فاتبع قرآنه* ثم إن علينا بيانه).
من هنا فنحن ابتداءً أمام لغة مقدسة. والمقدس يعني عدم المساس به أو تحليله أو مناقشته “فإذا قرأناه فاتبع قرآنه”.
واللغة العربية هنا هي أيضًا اللغة الجامعة للحضارة الإسلامية، وقد أزاحت في طريقها الآداب المكتوبة باللغات الأخرى للشعوب المسلمة، رغم ثراء هذه اللغات وقيمتها التاريخية.
يبدو أن العرب اكتفوا بمكانة “فارقة” للغة العربية لن تصل إليها “مطلقا” أية لغة أخرى حتى لو كانت على لسان شكسبير كأدب، أو آينشتاين كعلوم، أو فتنازيا لغوية أخرى. هذه المكانة هي تجسيد للعقلية العربية. هذه العقلية المرتكزة على لغة نمطية، مطلقة، قياسية، غير تحليلية “وكمثال هنا في الطريقة الإفتائية للشريعة الإسلامية، والروايات والسير التعليمية المتكلسة، والبنية الكلاسيكية للآداب والفنون”. ولا تخوض في غير العظمة التاريخية للذات، ولذلك لم يتم التطوير فيها، فكيف في تطوير ما قد تم اعتماده في الجنة كلغة لكل الأقوام والملل والشعوب؟!
لقد كانت اللغة ابتداءً محاذية للأسطورة وشريكة لها في تخليق التصورات والأفكار الإنسانية للعالم المحيط بنا، لأن تلك هي البيئة الابتدائية التي بدأ الإنسان التعامل والتفاعل معها.
هذه المكوثية، أو لنقل هذا الحلول للغة العربية وصل إلى حد التفكير في حفظها في أثر ثابت يحفظها من أية محاولة للتأثر باللغات الأخرى، كي لا تمس قدسيتها تلك القادمة من السماء. وتأكيدًا على هذه القدسية فقد اتسمت المعرفة الإسلامية بذلك الفرز الحاد، والفصل القاطع بين العامة والخاصة، وتخصيص المعرفة على هذه الفئة الخاصة والأخذ برأيهم دون العامة من الناس. وهو ما نتج عنه فكرة وجود كمية محددة من الأشياء يجب معرفتها، وهذه الكمية المحددة من الأشياء هي كل المعرفة، وقد حوتها كتب الفقه.
وحتى أننا سنجد وفي العصر الحديث أن المجمع اللغوي العربي قد تعامل مع عملية التلقيح للغتنا مع اللغات الأخرى من هذا المنطلق، وإذا بنا بمخرجات ممسوخة عافها الواقع، أو بأيقونات ظلت محفوظة في هذا المتحف اللغوي. لا حياة أو حراك بها أو لها على أرض الواقع في أي من الفنون أو العلوم أو الحيوات اليومية بأشكالها المعاصرة، فهي في الحقيقة غير جديرة بالتأقلم والتسامح مع الواقع المتغير، وليست حكاية “الشاطر والمشطور وبينهما طازج” إلا كمثال لهذا التلفيق للمعاصرة داخل المتن القديم، كدالة على هذا الإرباك بين التمسك بالأصول الثابتة التي لم يعد بمقدورها معايشة الواقع، وهذه السيولة المعرفية التي تجوب العالم، متمثلة في هذا المسخ المعنوي الشكلي لمثل هذه المفردات.
العاصفة.. وخيمة المنهج.. وقشة الترجمة
سنقول إنه منذ القرن الثامن عشر بالتحديد، تعرض العالم، بل الكون، لعاصفة معرفية كبرى متصلة وحثيثة قادمة من أوروبا، ومحمولة على لغتها التي خرجت من قوقعتها اللاتينية تلك التي عششت طويلا في الزمن المسيحي وإمبراطورية روما، لتنطلق بقوة في هذا الكشف العلمي المعرفي، بلغة جماهيرية مرنة، على درجة عالية من الحدس الذهني، لتلتقط الفكرة في أوج نقائها، وتصل إلى نخاع هذه المعرفة.
لقد غادروا اللاتينية، وترانيم المعابد وطقوس القرابين ليلتقطوا تلك الفرصة التي أتاحتها العلوم الطبيعية كما لم يكن في كل الملايين من السنين المنصرمة من عمر الكون. وهنا فليست الإنجليزية هي المعنية بهذا فحسب؛ بل لقد طوّر الفرنسيون مع ثورتهم الإنسانية الكبرى في لغتهم، حد تركيب، بل ابتكار لغة جديدة لعموم فرنسا، وسط ذلك الزخم التنويري الذي صاحب وتلى الثورة الفرنسية.
في خضم هذه التحولات لم تتمكن لغتنا العربية من التأقلم معها أو معايشة مخرجاتها العلمية- الثقافية- الاجتماعية. بل نكاد نرى أن هذه المعرفة قد أطاحت بلغتنا العربية التي لازالت تسكن في جحرها القديم، ولم تتوفر على المصطلحات والمفاهيم المعرفية المعاصرة، وستجد نزوع الكثير من الكتاب والمبدعين العرب نحو الترجمة لأعمالهم. وستجد فقط هذه الأعمال المترجمة- تلك الجديرة بالقبول ومعاصرة الواقع- هي التي انتشرت واطلعت عليها شعوب وهيئات مختلفة في هذا العالم. بينما بقيت تلك الغير مترجمة- مهما بلغت من رقي في مضامينها- لا تكتسب الشكل اللغوي السائد لاستقبالها من الآخرين. وليس أخيرًا فوز الروائي اليمني التشادي الإنجليزي عبد الرزاق قرنة بجائزة نوبل فقط عندما كتب روايته “الجنة” باللغة الإنجليزية. هذا الروائي من أصول يمنية لم يكن لحرفه أن يرى النور ويصعد إلى هذه المرتبة العالمية لو أنه بقي هنا على لسانه- العربي التشادي- التليد.
بل أظن بأنه لو تقدم بروايته بعنوانها المباشر ” الجنة” إلى أي من الجوائز العربية القائمة لتم استبعادها فور قراءة جماعة التحكيم لـــ” العنوان” وسيشي كل واحد منهم في أذن الآخر بتلك العبارة المعهودة التي تستخدم كسلاح تقليدي للتخلص من العدد الكبير من الأعمال الروائية التي تقدمت للمسابقة والتي لا يسعفهم الوقت لمناقشتها: “إنه عنوان لا يلفت الانتباه“.
لقد طوّر الفرنسيون مع ثورتهم الإنسانية الكبرى في لغتهم، حد تركيب، بل ابتكار لغة جديدة لعموم فرنسا، وسط ذلك الزخم التنويري الذي صاحب وتلى الثورة الفرنسية
ثم إن مناهجنا الدراسية – بأداتها اللغوية العربية- مناهج كلاسيكية تقوم على المفهوم العقائدي حتى في تفسير وشروحات النظريات العلمية، والتأكيد على الثوابت كمسألة مصيرية وكمبرر للحفاظ على الُلحمة. وهنا فالتعليم الليبرالي هو أداة استعمارية فتحت الباب على الأفكار الدخيلة. وعلينا أن نلاحظ هذه المفردة “الدخيلة” لنتصور تمامًا هذا الصندوق الذي ظل مغلقًا على لغتنا لمواجهة هذه المكتشفات الدخيلة حتى لا تعصف بكوخنا اللاهوتي القديم. ومن هنا فلم نر أي جهد مؤسسي لتطوير اللغة العربية، بل هناك أفراد محدودون ممن حاولوا تطوير ذواتهم اللغوية -إن صح التعبير- للاندماج مع معطيات العصر. وعليك أن تلاحظ أيضًا أن الكثير من الكتابات التي نعتبرها كتابة إبداعية لكتابنا العرب لم تتمكن من الانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى، حتى تلك المترجمة منها لم تلق الاستجابة كما يجب. وحتى إن تلك الترجمات تتم من قبل رفاق الكاتب ذاته، وهو ما خلق أيضًا ظاهرة شللية مقيتة لا ترتبط بالإبداع أو التخليق للأفكار الجديدة.
هناك تجربة يمكننا الإشادة بها. تجربة عالم المعرفة في الكويت فيما قامت به من ترجمات في مختلف العلوم والآداب والفنون، وبعض من القراء الذين كتبوا لاحقًا هم من استفادوا من هذه التجربة. والحقيقة فلقد وفرت بيئة معرفية متقدمة إلى حد فعلي وبعيد بالمقارنة مع كل التجارب السابقة عليها والمرافقة لها وتلك التي لحقتها، لكنها بقيت كمشروع ناقل وليس كمشروع صناعة معرفية. وهو مشروع معقد من التعليم والاستيعاب عبر مراحل وأشكال مختلفة، في المدارس أو المعاهد والكليات، أو في منشآت العمل وحتى من البيت في إطار الأسرة. لكن لغتنا تلك التي نبدؤها من البيت لا تتصل بالمعرفة بشكل علمي ومؤسسي، بل إن التلميذ منذ الفصل الأول الأساسي وحتى مراحل متأخرة لن يتأسس على علاقة مع الكتاب، ذلك أننا هنا سنكون بإزاء مشكلة لغوية أخرى بين الكتاب المدرسي باللغة الفصحى، وبين لغتنا العامية، بين لغة السماء الغيبية ولغة الأرض التي لازالت تعيش في مراحل التاريخ المتخلفة في بلادنا العربية. ولقد عشت تجربة مع هذه حين كنت أراجع لأطفالي الواجبات المدرسية، ولم أجد مع المنهج أي وسيلة متاحة لربطهم بالكتاب المدرسي الفصيح.
في درجتها القصوى.. فاللغة منفعة
قبل أسابيع كنت أتابع موضوعًا عن تدني قيمة الليرة التركية مقابل الدولار والأثر الذي تركه في ارتفاع نسبة التضخم لأول مرة إلى أكثر من 17%، حيث ذهب الكثير من العلماء والأطباء والمهندسين والمبرمجين الأتراك إلى معاهد اللغات. وخصوصًا اللغة الألمانية لاكتساب هذه اللغة بغرض الهجرة إلى هذا البلد الجار القريب. إنها المعيشة وتطوير الذات والفرص المتاحة نحو مستقبل أفضل. هذا في تركيا، فكيف بالوطن العربي الذي يفتقر إلى أدنى مستويات ومقاييس العيش، حتى ذاك تحت الكريم.
إذن فـ “المنفعة” أيضًا تلعب دورًا معتبرًا في انتشار لغات البلدان المتقدمة وإقبال شعوب البلدان الأخرى على تعلمها، وبالتالي انتشارها على نطاق واسع. في حين أن الناس في غنى عن لغة تلك البلدان المتخلفة التي لا توفر العيش الكريم لسكانها المحليين، فكيف بوافد لن يكون إلا في مرتبة تالية؟
وإذا كنا سننظر إلى بعض أولئك الأجانب الذين يمارسون مهامّ ما في بلادنا العربية ذات الموارد الطبيعية، فمعظمهم على درجة من الاحترافية عالية في التخصصات المعقدة والراقية والنادرة. ونحن من نستجلبهم لنقص في خبراتنا ولخلل هيكلي في العملية التعليمية “الأكاديمية، والمهنية” ولن يكونوا في ضرورة إلى تعلم اللغة العربية، بل نحن وتحت إلحاح حاجتنا سنتعهد بتوفير المترجمين والترجمات اللازمة للبيانات تحت المعالجة ولمخرجاتها المختلفة. أما العاملون في القطاعات الخدمية والإنتاجية المباشرة من الأجانب فهم سيغادروننا عما قريب، ولن يكونوا في حاجة إلى لغتنا العربية على المدى الطويل. ولذلك فكل ما يتعلمونه منها في فترة إقامتهم لدينا لا يتعدى الأبجدية الابتدائية في نطاق منظومة الأوامر والنواهي خلال أدوات وخدمات حصرية وذات إيقاع ميكانيكي متكرر، وفي مرحلة لاحقة لن يكونوا ناقلين للغة العربية إلى بلدانهم، بسبب ليس أنهم لا يتوفرون على الأدوات الكفيلة بعملية النقل هذه؛ بل ولأن مجتمعاتهم هناك ليست في حاجة تُذكَر إلى هذه اللغة المحنَّطة.
اللغة الحية ترتبط بحياة ورغبات ومستقبل الناس
وفي الجهة الأخرى سنرى أن من يتعلم اللغة العربية في أي بلد من بلدان العالم، أو من يتحدثونها بلباقة، أو يشتغل عليها باحترافية فليس هو غير المستشرق وذاك المتخصص في دراسة اللسانيات متى كانت وجهته اللغة العربية. أي أنها في وسط أكاديمي وخلال نخبة من المتخصصين، أي في نطاق ضيق جدًا، وبعيدا – في الأساس- عن مسائل العلوم والتكنولوجيا وإدارة الأعمال ومصطلحات ومفاهيم التعليم العام والمتخصص والمهني ودُور الثقافة والآداب والفنون، والتي تمثل الإطار المعرفي والعملي في تلك البلدان غير في عدد يمكن حسابه على أصابع اليد من المستشرقين والمتخصصين لأغراض أكاديمية “عليا” لا تكاد تمس متطلبات وحاجات الناس الجارية.
الحرباء .. ولون الماء
اللغة الحية ترتبط بحياة ورغبات ومستقبل الناس، وسنجد هنا بونًا شاسعًا بين طريقة حياتنا، ونوع رغباتنا، وشكل مضمون المستقبل الذي نبغيه (هذا الذي كنا قد أنجزناه قبل ألف من السنين، ونحاول أن نستعيده من خلف ظهورنا لنضعه في الأمام) عن كثير من بلدان وشعوب العالم، خصوصا المتقدمة منها (وتكاد كل الدول أن تصير متقدمة بعد تجربة اليابان، ثم النمور الآسيوية، وليس أخيرا الصين، عدا منطقتنا العربية وبعض من أفريقيا).
لهذه الأسباب فتطور العربية مرتهن أيضًا بطريقة تفكيرنا، وبالواقع المتغير. وعلينا أن نلاحظ ما يحدث حاليًا، فلقد دخلت عبر الاستخدام المحلي اليومي العام كثير من المفردات والجمل والمفاهيم والمصطلحات الأجنبية “الانجليزية بوجه خاص” في حواراتنا وتداولاتنا اليومية، وهو ما يعني أن لغتنا تستعصي على التركيب الجديد المواكب للمبتكرات والمخترعات وللتعامل معها في حياتنا اليومية. أي أنها غير قابلة للانتشار ليس لدى المجتمعات الأخرى فحسب؛ بل ها نحن نتخلى عن بعض مفردات منها. والحقيقة أنها لا تتوفر على المفردات والتراكيب اللغوية التي تعطي هذه المستحدثات معناها، وتعرّف بها كما هي فعلًا ولذلك فلم نعد نستعين بالمصطلحات الأجنبية فقط، فها نحن نترجم بعض المتداولات اللغوية اليومية والمناسباتية من الإنجليزية لنتحدث بها ذاتها ولكن بلساننا العربي رغم ما نقوم به من عملية تلفيق للمعني كأن نقول: كن بخير، أوكن سعيدًا. على نسق: Be good أو Be happy، وهو معنى غير مستقيم وغير متسق مع ثقافتنا، فالمعنى قائم لدينا على الأمنيات وليس على هذا النسق من التوجيه.
اقرأ أيضا: هل القرآن كتاب سرياني؟
وسنجد ومع ثورة المعلومات استخدامنا الكثير والمتواتر لمصطلحات ومفردات صارت كأمر واقع لا يمكن التمرد عليه، بل إن كل المصطلحات والمسميات والتعاريف التي نطلقها على هذا الحاسوب -الذي أحرر مقالتي على شاشته الآن- وبرامجه، وتطبيقاته، وكل استخداماته التي صارت تنظم حيواتنا ونشاطاتنا اليومية هي مصطلحات أجنبية. ونتحدث بها كما لو أنها لغتنا الأصلية. لأننا نتعامل مع هذا العالم الرقمي، ولا نستطيع أن ننكفئ على أنفسنا بعيدًا عنه. وهنا فلغتنا لا تتطور ولا تنتشر، بل ها هي تفقد مساحتها يومًا بعد يوم في مسقط رأسها. وصرنا نستبدلها في كثير من أحاديثنا بلغة أخرى تواكب المتغيرات المتسارعة. وللأسف فهذا الاستبدال ليس على طريقة الإنجليزية دون اللاتينية لغرض تعميم المعرفة على نطاق واسع في أوساط المجتمع، ولا على اصطناع لغة وطنية جماهيرية في فرنسا على حساب اللغة الملكية التي ما عادت لتفي بأغراض حقوق الإنسان ومقاصد التنوير. إنها الحرباء، هذه التي لم تعد قادرة على إدارة ألوانها خلال هذا الزخم المعرفي العالمي الغزير الذي يحوي كل ألوان الطيف البشري في لون فارق كــ” لون الماء”، وها هي عارية. فما عادت وسط هذا الفضاء العالمي الكبير من خيمة لقريش لتختبئ فيها هناك.