شاءت الأقدار، بفضل الآثار الاستعمارية، أو الخصومات الشخصية والأيديولوجية، أن ترتبط أحداث المشرق العربي كله في شبكة شديدة التعقيد، لذلك لم تجن طموحات صدام حسين في غزوه الكويت على الشعب الكويتي وحده، أو على العراق أرضًا وشعبًا في ضربة عاصفة الصحراء وثورات الجنوب الشيعي وانفصال الأكراد، بل كان هناك الكثير من تبعات تلك الحرب لمن ذاقوا أهوالها. فلسطينيو الكويت تحديدًا كتب عليهم بحكم مأساة قضيتهم التاريخية أن يكونوا في مرمى النيران.
خصائص عادية
من أجل فهم فلسطينيي الكويت عشية الحرب، يجب الأخذ في الاعتبار معلومة هامة، ألا وهي أن الأغلبية العظمى كانوا يتشكلون من أصحاب الوثائق الأردنية. لم يعش الفلسطينيون في الكويت كلاجئين، ولم تكن الكويت دولة مضيفة لهم، فالفلسطيني حين ذهب إلى الكويت ذهب طالبًا للعمل، كنموذج “رجال في الشمس” في رواية غسان كنفاني الأشهر، ولم يُعامل في الكويت بموجب قوانين استثنائية من حيث العمل أو الإقامة أو التعليم.
حين اندلعت حرب الخليج الثانية هرب حوالي مائتي ألف فلسطيني من حملة الوثائق الأردنية إلى الأردن، ولكن البقية لم تكن تملك حق العودة إلى أي وطن، وكان لقسم منهم مشكلاته المضاعفة بحكم أنه يملك وثائق سفر عربية لدول قاطعت منظمة التحرير الفلسطينية وكانت بدورها تطرد الفلسطينيين.
ولكن، للأزمة الفلسطينية في الكويت جذور أقدم من الحرب، فقد مر الوجود الفلسطيني بأطوار مختلفة منذ بدايات إقامته في الكويت، وحافظ خلال ذلك الوجود حتى حرب الخليج على سمات عامة مميزة مثل المستوى المعيشي المرتفع نسبيًا مقارنة مع فلسطيني الشتات الآخرين، وحرية العمل السياسي؛ حيث اتخذت فتح مكاتب علنية لمختلف فصائل منظمة التحرير، وإتاحة الفرصة أمام التعبير عن الهوية الوطنية، وهو ما كان مفقودًا أيضًا في دول الشتات الأخرى. وأتاح ذلك للفلسطينيين البقاء على تماس مع قضيتهم الوطنية.
لقد كان الوجود الفلسطيني في الكويت قبل الحرب لافتًا للنظر، حتى أن كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية أطلق تصريحات تحريضية ضدهم حين قال إن 450 ألف فلسطيني يرسمون سياسة الكويت، ويسيطرون على الإعلام والاقتصاد، ولكن عدد الفلسطينيين في وقت كيسنجر لم يكن ليتجاوز نصف هذا الرقم، كما ذكر لوري براند في كتابه الفلسطينيون في العالم العربي.
450 ألف فلسطيني يرسمون سياسة الكويت
هنري كيسنجر Tweet
ولكن كان هذا الوجود مصحوبًا بنقمات كانت تثير القلق في القيادة الكويتية، حين الحديث عن أي مشاريع لتسوية القضية الفلسطينية، ما يكون من شأنه إحداث تغيير في بنية الدولة إذا تم توطين ما يقارب 350 ألف فلسطيني في الكويت، وكان الكويتيين يتخوفون من مطالبة الفلسطينيين بحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية بموجب تعديلات دستورية.
بينما كانت حاجة الكويت للعمالة تتراجع بعد إكمال مشروعات البنية التحتية، ومضي زمن الطفرة النفطية، والأزمة المالية التي تسببت فيها البورصة المعروفة بسوق المناخ عام 1982، والالتزامات التي فرضتها الحرب العراقية- الإيرانية، ظهرت رغبة كويتية إلى إعادة النظر في التركيبة السكانية، وبذلك تحول تقليص عدد الفلسطينيين إلى مشروع لدى القيادة الكويتية، حتى فيما قبل أزمة الخليج، وبرزت تلك الرغبة عند وزير التخطيط عبد الرحمن العوضي.
بدأت الحكومة الكويتية في وضع العراقيل تجاه دخول وافدين فلسطينيين وأردنيين جدد للكويت، كما يذكر توفيق أبو بكر في كتابه “الفلسطينيون في الكويت“، ووضعت شروطًا جديدة على قبول التلاميذ المستجدين في المدارس الحكومية، وعقبات أمام التحاق الطلاب بأسرهم بعد تخرجهم في جامعات الكويت، أو تحويل إقامات الطلاب إلى إقامة عمل، وقد أثارت تلك الإجراءات وغيرها استفزاز الجالية الفلسطينية في الكويت حيث مست استقرارهم ومعيشتهم، وحين اندلعت الحرب، كان هناك بالفعل شعور قوي بالاغتراب يسود في أوساط فئات الجالية الفلسطينية.
الدبة التي قتلت صاحبها
كان موقف القيادة الفلسطينية مؤثرًا على مصائر فلسطينيي الكويت في أعقاب تحريرها، وما أثار حفيظة الكويتيين أكثر أن ذلك الموقف لم يكن موقفًا أرعنَ من ياسر عرفات أو حركة فتح بحد ذاتها، فقد استطاع صدام حسين استقطاب أبرز الرموز الفلسطينية إلى صفه، حين جمع بين النقيضين فحظي بتأييد ياسر عرفات، ثم تأييد جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية، أي أنه جمع تأييدًا من أطياف القضية الفلسطينية كما يؤكد وليد خالدي في مقاله “أزمة الخليج: الجذور والنتائج” والذي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية عقب الحرب مباشرة.
في غزوه للكويت، خرق صدام حسين المبادئ التي تستمد القضية الفلسطينية منها روافدها الخلقية، وهو ما جعل تأييد منظمة التحرير الفلسطينية لتلك الخطوة، موقفًا مخزيًا فوق تناقضه في الأساس، وشرعن صدام غزوه الكويت، حين عرض خطة السلام التي تستند إلى مبدأ الترابط، أي الانسحاب المتزامن لجميع القوات المحتلة إن كانت عراقية فمن الكويت وإيران، وسوريا من لبنان، وإسرائيل من الأراضي الفلسطينية والجنوب اللبناني والجولان، ومجرد طرح هذه الخطة قد أوجد انطباعًا عميقًا وإيجابيًا لدى الرأي العام العربي، كما يرى أنيس فوزي قاسم في مقال نشره في مجلة الدراسات الفلسطينية أثناء الحرب تحت عنوان: “على هامش أزمة الخليج: الفلسطيني بين المطرقة والسندان”.
ولا يفوت الناظر في موقف القيادة الفلسطينية أثناء الحرب أن يتوقف عند شخصية أبو أيمن (علي الحسن) قليلًا، الذي عينه ياسر عرفات مسؤولا عن تسيير شؤون الفلسطينيين الاجتماعية تحت سلطة العراق.
فوجئ أبو أيمن بكارثة في انتظاره حين وصل خلال الشهر الأول في أعقاب الغزو، وسمع من أصدقائه الكويتيين عن الأهوال التي لاقوها من جيش الاحتلال، وكان على عاتقه كبح جماح العناصر الفلسطينية غير المسؤولة التي تتسبب في تفاقم سوء الأوضاع، ورغم أن أبو أيمن فشل في احتواء جيش جبهة التحرير العربية الفلسطيني العراقي، إلا أنه استطاع أن يسيطر على الفلسطينيين في عدم ارتكاب أعمال عنف ضد الكويتيين، خاصة أنها كانت هناك نية لارتكاب تلك الأفعال ردًا على تطرف المقاومة الكويتية، حيث كان يحتوي غضب الفلسطينيين بإخبارهم أن تلك الأعمال الإرهابية من تدبير القيادة العراقية للوقيعة بين الشعبين.
في غزوه للكويت، خرق صدام حسين المبادئ التي تستمد القضية الفلسطينية منها روافدها الخلقية، وهو ما جعل تأييد منظمة التحرير الفلسطينية لتلك الخطوة، موقفًا مخزيًا
استطاع أبو أيمن جمع الكويتيين والفلسطينيين للعمل معًا والصلاة معًا، وكان يشجع جماعته على المشاركة في الإضراب المدني الكويتي، ما أدى لاستدعائه مرتين من الاستخبارات العراقية وتعرضه للتحقيق والتحذير، ولكن كان دور أبو أيمن اجتماعيًا أكثر منه سياسيًا، فكان يهدف بالأساس إلى مساعدة الفلسطينيين ماديًا، وعدم دفعهم للاشتراك في الجيش الشعبي من أجل المال، ما خفف قليلًا حدة التوتر بين الفلسطينيين والكويتيين، وأدى أدوارًا أخرى في منع مظاهرات تأييد العراق.
إلا أن التغطية الإعلامية العربية للحرب لم تترك فرصة للتفاهم، فكانت سببًا في وصم فلسطينيي الكويت أنهم ساعد صدام الذي يحميه في الكويت، بدءً من التلفزيون العراقي الذي أذاع لقطات لمدرسين فلسطينيين في مدارس الكويت وهم يهتفون بشعارات تمجد صدام وتهاجم الكويت، وغيرها من التظاهرات التي افتعلتها القيادة العراقية لتصويرها وتقديمها للعالم، بجانب تظاهرات بعض الفلسطينيين المؤمنين فعلًا بشرعية الغزو العراقي خاصةً من أعضاء الجيش الشعبي.
في المقابل، ساهم الإعلام في العديد من الدول العربية بشكل مقصود في نشر معلومات غير صحيحة عن قيام الفلسطينيين بعمليات سلب ونهب وتعاونهم الكامل مع العراق، وصور إعلام بعض الدول العربية الاحتلال العراقي للكويت كأنه احتلال فلسطيني في الواقع، وكان الإعلام المصري زعيمًا لتلك الحملة، حيث يلاحظ الصحافي والباحث عادل درويش في كتاب “تغطية الصحافة العربية للحروب؛ دراسات في فلسفات التغطية ومضامينها في حربي الخليج الثانية والثالثة” أن أهم ما مميز تغطية الصحف المصرية خاصة جريدة الأهرام لحرب الخليج، هي أن المساحة المعطاة لمعارضي الحرب كانت تغطي الصحيفة، وكان هناك شبه غياب كامل لأي صوت آخر.
الطلقة الأولى
في ظل تلك الأوضاع المتفجرة، كان الجميع متيقنًا من سقوط جثة، لن تعود بعدها الأوضاع كما كانت بين الفلسطينيين والكويتيين أبدًا، وهذا ما حدث مع بدء العام الدراسي في سبتمبر 1990م.
في أعقاب سقوط مدينة الكويت، أعلنت المقاومة الوطنية في الكويت مقاطعة أجهزة الدولة التي يتم تسييرها من العراقيين ومؤسساتها كافة، وردت السلطة العراقية بإعلانها أن على جميع العاملين في أجهزة الدولة أن يلتحقوا بأعمالهم اعتبارًا من أول سبتمبر، أو اعتبروا مفصولين، وتصادر مستحقاتهم. وحدث اختبار القوة الأول بين الطرفين حين عقدت دورة الامتحانات التكميلية لطلاب الثانوية في الكويت، وعلى الرغم من تهديدات المقاومة، إلا أن بعض المدرسين -معظمهم من الفلسطينيين- ذهبوا إلى مدارسهم.
استطاع العراق أن يسيطر ويؤثر في الجالية الفلسطينية في الكويت من خلال المدرسين الفلسطينيين، فقد استأنف ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مدرس فلسطيني أعمالهم كما يذكر شفيق غبرا في كتابه “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت” في أول سبتمبر بناء على تهديد السلطات؛ حيث لا يمكن للموظف الفلسطيني أن يتخيل أن ثلاثين عامًا قضاها في الخدمة تذهب هباءً حين تصادر الحكومة العراقية مستحقاته بعد أن شارف على سن التقاعد، في حين أن حكومة المنفى الكويتية لم يصدر عنها أي تعهد للعاملين في أجهزتها أن تضمن مستحقاتهم إن لم يلتحقوا بوظائفهم، وما ضاعف مأزق الفلسطيني الذي كان يملك وثيقة سفر عربية مصرية أو سورية أو لبنانية خصوصًا، أنه إذا أراد العودة إلى مصر مثلًا فلا يستطيع الحصول على إذن من الأجهزة المصرية لطلبه، إلا بعد دراسته لمدة ثلاثة أشهر، حتى في الأحوال العادية، ومع إغلاق السفارات الأجنبية في الكويت أساسًا، يصبح تقديم الطلب ضربًا من الهذيان.
وبعودة المعلمين الفلسطينيين للمدارس، سقط منهم أربعة قتلى، على يد المقاومة وفقًا لشفيق غبرا، وقد هاجمت خلية للمقاومة الكويتية مدرسة ثانوية للبنات إثر إعلان التليفزيون العراقي عن افتتاح هذه المدرسة، إذ أثارت حفيظتهم مشاهد الطالبات والمدرسات وهن يتغنين بالشعارات التي تمجد صدام، فهاجموا المدرسة، بالإضافة إلى عدد من التفجيرات في المناطق ذات الأغلبية الفلسطينية.
في الواقع، كانت هناك حالات تعاون من فلسطينيين محليين خاصة مع الجيش الشعبي الذي شكله صدام بقيادة بعض الرموز الفلسطينية لتجييش الفلسطينيين، لكنها كانت في الجوهر محدودة ولا تعكس الموقف العام، كان ينضم لذلك الجيش من الفلسطينيين من هو في أمس الحاجة للحصول على امتيازات معينة تحت حصار الاحتلال، كالحصول على الوقود والخبز مجانًا، ورواتب متواضعة.
كتائب الموت
تراجع عدد فلسطينيي الكويت مع نهاية الحرب من نحو 400 ألفًا إلى 150 ألفًا كما يتفق جهاد الرنتيسي في كتابه “الترانسفير الثالث” مع شفيق غبرا، إلا أن تلك المجموعة الكبيرة المتبقية دفعت ثمنًا غاليًا عندما أصبحت محط غضب الكويتيين وإحباطاتهم وانتقامهم.
كان أي شكل من أشكال التعامل مع السلطة العراقية يعد في نظر الكويتيين تعاونًا، حتى ختم جواز السفر أو تغيير لوحات أرقام السيارة من الكويتية إلى العراقية أو تسجيل طفل في مدرسة، فأصبح الإطار النفسي الكويتي بعد التحرير مهيأ للتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم متعاونين.
وفي أثناء انسحابهم، خلف العراقيون وراءهم جميع السجلات المتعلقة بالفلسطينيين، وقد وقعت تلك الأسماء في أيادي شبان كويتيين يبحثون عن الانتقام. حيث صادرت جماعة من المتطرفين أسلحة المقاومة الكويتية وبدأت بعد التحرير بإصدار الأحكام جزافًا، وجراء ذلك وقعت الكثير من حوادث القتل المتكررة من دون أن يعرف أحد من قُتل ولماذا، حتى أبو أيمن نفسه تعرض لمحاولة اغتيال بعد التحرير بأيام، وبخلافه فقد تعرض الكثيرين للاعتقال والضرب والقتل استنادًا إلى الهوية.
على ذمة شهادة مراقب محايد من جمعية الصليب الأحمر أوردها جورج قرم في كتابه “انفجار المشرق العربي” يمكننا أن نرى الموقف: “ما إن حررت مدينة الكويت حتى تحول الرعب العام إلى حقيقة؛ مطاردة مفتوحة للبشر، وللفلسطينيين أولًا، ثم لكل الأشخاص الذين أيدوا مواقف صدام حسين، كانت المطاردة دموية أحيانًا، فالتة من عقالها وغير خاضعة لأية رقابة، تقوم بها ميليشيات من الكويتيين بقيادة شبان من أمراء العائلة المالكة، عصابات انتقامية تقوم باللكم والتوقيف الاعتباطي والعقوبات الجماعية بما يذكر بكتائب الموت في مناطق أخرى مشؤومة من العالم“.
في اليوم الأول بعد التحرير فقط، تعرض ستة آلاف شخص إلى الاعتقال، وتعرضوا لضرب مبرح، وجرى تعذيب آخرين لأيام وأسابيع، حيث وثقت منظمة مراقبة الشرق الأوسط والصليب الأحمر معظم تلك الاعتقالات، وقد بلغ عدد القتلى من المدنيين نحو مئة شخص، كان نصيب الفلسطينيين منهم 16 قتيلًا، وتعرض 13 طفل فلسطيني إلى الاغتصاب، وظلت الأوضاع في فوضى أربعة أشهر، وحتى القضاة لم يكونوا أفضل حالًا من حملة السلاح، فتشكلت محاكم حرب، جرت فيها محاكمات علنية أدانت 350 شخصًا معتقلًا بتهمة التعامل مع العراقيين. وشُكلت لجنة للنظر في شؤون الفلسطينيين في الكويت من مجموعة صغيرة من رجال الأعمال لبحث مصير الجالية، وتوصلت إلى ضمان ترحيل ألوف الفلسطينيين وتعويضهم لقاء خدمة الدولة الكويتية إذا أرادوا الرحيل، ولكنها تلقت رغبة الكويت في أنها لا تريد عودة 200 ألف ممن غادروا في أثناء الغزو.
ومع النصف الأول من عام 1992، تحول عدد الفلسطينيين من 150 ألفًا إلى نحو 30 ألفًا، نتيجة لأن هاجس تقليل عدد الفلسطينيين كان قد سيطر على القرار الرسمي في الكويت بعد التحرير؛ أكانوا من حملة الجنسية الأردنية، أم الوثيقة الفلسطينية، وفي أشهر قليلة، أفرغت الإمارة من الفلسطينيين المقيمين فيها.
واليوم يقدر عدد الفلسطينيين في الكويت نحو 60 ألفًا، تراجعت أهميتهم السياسية والاجتماعية بشكل كبير عن حالهم قبل الغزو.