عندما تدور عجلة الزمن لا يمكن لأحد أن يوقفها، وكما انقرضت الديناصورات في الزمن الغابر، فإن ثمة دلائل عدة تؤشر على أن نجم برامج التوك شو قد بدأ في الأفول، وأن ذلك المذيع الجالس في الاستديو ويعلى من صوته حينًا ويخفض منه في أحيان أخرى، بينما يشيح بإحدى يديه أو بكلتيهما معًا بحركات بهلوانية وهو يخاطب المشاهدين المتحلقين في انتظاره، والذين لاحول لهم ولا قوة وليس أمامهم من مفر سوى القبول بكل ما يقوله هذا المذيع الألمعي أو تلك المذيعة الحسناء، والذين يتظاهرون دومًا بأنهم يعرفون كل شيء قد ولى إلى غير رجعة.
ما من شك في أن إدارات الكثير من الفضائيات العربية الرسمية منها وخاصة أنها قد بدأت تلمس التراجع الواضح في نسب مشاهدات الغالبية العظمى من برامج التوك شو، بعد أن تغيرت المعادلة بصورة جذرية في ظل التأثير الهائل للسوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ويوتيوب.
المشاهد فاعلاً ومتفاعلاً
لم يعد المشاهد مجرد مستهلك مسكين عليه أن يدفع الثمن ويرضى بفتات ما يقدم إليه من معلومات ومعالجات لا تشفي الغليل من مقدم هذا البرنامج أو ذاك؛ حيث صار فاعلاً ومتفاعلاً بشكل كبير، ولم يعد يضع يده على خده منتظرًا أن يتفضل عليه أحد فيبلغه بحقيقة ما جرى، فهو جالس طوال الوقت على فيس بوك وتويتر يتابع كل جديد لحظة حدوثه بعيدًا عن مقص الرقيب الذي يتدخل بالقص واللصق في البرامج الشهيرة بشتى القنوات العربية، وإن اختلفت توجهاته وأسبابه وحدود تدخله من قناة إلى أخرى.
لم يعد المشاهد مجرد مستهلك مسكين عليه أن يدفع الثمن ويرضى بفتات ما يقدم إليه من معلومات ومعالجات لا تشفي الغليل من مقدم هذا البرنامج أو ذاك
صار للكثير من المشاهدين اليوم أعداد لا تحصى من قنوات اليوتيوب الخاصة بهم التي يقولون فيها كل ما يحلو لهم؛ بل إن البعض منهم نجح خلال فترة قصيرة في حصد نسب مشاهدات مرتفعة تفوق بعضًا من أشهر برامج التوك شو، في إعلان واضح عن أن ساعة النهاية قد أوشكت، وأن القابعين في الاستديوهات المكيفة يجب أن يعلموا أن أيامهم ربما لا تطول كثيرًا وأن عليهم أن يبحثوا عن بدائل أخرى قبل أن يقبعوا خلف جدران منازلهم يتجرعون غصة البطالة في حلوقهم.
خلال أشهر على الأكثر ربما يصبح عمرو أديب ولميس الحديدي وأحمد موسى وشريف عامر وغيرهم رموزا لحقبة ماضية في الإعلام العربي الذي لن يصمد طويلا أمام زلزال التغيير القادم من رحم المستقبل والذي بدأت نذره تتضح في العالم الغربي.
التوك شو إلى زوال
الكاتب المصري عبد الله عبد السلام قال في مقال له بصحيفة الأهرام القاهرية: “آدم بولتون” المحرر السياسي لشبكة سكاي نيوز البريطانية لمدة 25 عاما وأحد نجوم برامج التوك شو، قرر مغادرة القناة نهاية العام الماضي لأنه غير قادر على استيعاب مفردات العصر الجديد. إدارة سكاي نيوز تعتقد أنه في ظل تراجع ارتباط الجماهير بشاشة التليفزيون وتزايد اعتمادها على مواقع التواصل في الحصول على الأخبار، فإن المستقبل للصحافة الإلكترونية.
في مصر على سبيل المثال لاحظنا اندماجات بين بعض القنوات وبعضها بعضًا، وتبع ذلك في أكثر من حالة مزيد من الاهتمام بالمحتوى الترفيهي في محاولة لاجتذاب المشاهد الذي لا يبرح اليوم مواقع التواصل الاجتماعي القادرة على أن تمده بكل ما تشتاق إليه نفسه في التو واللحظة، وحتى إذا لم يتفاعل فبإمكانه إذا كان راغبًا على سبيل المثال في أن يبدو مرحًا أن يفعل ذلك عبر بث مباشر يخرج فيه على أصدقائه وهو يصطاد على شاطئ البحر أو يسبح في حمام سباحة داخل منزله أو غير ذلك.
يساهم في خنق برامج التوك شو أيضًا ذلك التراجع الواضح في قيمة الإعلانات الذي تئن تحت وطأته الكثير من وسائل الإعلام خاصة مع استمرار جائحة كورونا وما ألحقته من خسائر اقتصادية كبيرة بأغلب دول العالم.
الانقراض الحتمي
الحقيقة أن الشبه يبدو كبيرًا بين انقراض الديناصورات قديمًا والانقراض الوشيك لمذيعي التوك شو؛ فكلاهما ظل رابضًا في مكانه ولم يطور من نفسه كي يتواءم مع البيئة من حوله، ظل أغلب مذيعي التوك شو تقريبا محافظين على الطريقة نفسها؛ حيث الأداء الخطابي، المقدمات المطولة، المقاطعات وتهميش للضيوف لا يتوقف عند حد معين، عبارات نمطية لا تخلو من أي جديد، ركون كامل للدعة وعدم القابلية للتطوير أو التجديد اعتمادًا على الشهرة الواسعة المذيع أو المذيعة، وهو ما يفسر التضخم في الذات الذين يتعامل به معظم مقدمي برامج التوك شو، والذين يتعاملون بوصفهم نجوم شاشة، متناسين أن الكثير من نجوم الصف الأول في السينما ممن لازالوا على قيد الحياة قد سقطوا من الذاكرة سهوًا بعد أن مرت من فوقهم أجيال أخرى.
أضف على ذلك أن بعضًا منهم لم يتورع على أن يتحول إلى متحدث رسمي لهذه الجهة أو تلك، ونسي أن دوره هو إقناع المشاهد في كل لحظة أنه يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف مهما كانت الهوة والتباينات الناشبة بينها، وفات أولئك أن القاعدة الذهبية في الإعلام أن تكسب أرضًا جديدة كلما تحليت بالمهنية والموضوعية، وإنك تخسر كل شيء متى تحولت إلى بوق دعائي يقتصر دوره على أن يتلو ما يملى عليه.
ربما لو كان هناك قدر من الاحترام لعقل الجمهور لبدا الأمر أقل سوءً، ولكن يبدو أن هناك من يتعلمون من الديناصورات أن الفناء داهم أضخم المخلوقات على ظهر الأرض، لأنها لم تستوعب تغير العالم من حولها.
لا مستقبل على الأرجح لبرامج التوك شو في ظل معطيات كثيرة تشير إلى انصراف الشباب والأجيال الجديدة عنها بالكلية، فالصغار بطبيعتهم أكثر تحررًا وتمردًا على أي شيء من شأنه أن يحاول حصار وعيهم المتزايد بالتطورات التي تجري من حولهم داخل إطار ما.