باتت وتيرة تنفيذ مشاريع الخصخصة في دول الخليج تسير بشكل متسارع عامًا بعد عام، وتحديدًا منذ إطلاق رؤاها الاقتصادية الجديدة في العقد الأول من القرن الواحد العشرين، حيث تسعى الحكومات الخليجية من خلالها لتعزيز وزيادة دور القطاع الخاص في تحريك الاقتصاد الوطني عبر دعم التنافسية الاقتصادية وفتح الأسواق وجذب الاستثمارات الخارجية وتقليص مصروفات الحكومية. كما يراد منها أن يتغير دور الحكومة، بوصفها مديرًا لاقتصاد ريعي قائم على إعادة تدوير إيرادات النفط في الاقتصاد، إلى منظم لاقتصاد يقوده القطاع الخاص، منوَّعة مصادر الدخل فيه بالتركيز على القطاعات غير النفطية، وتقليل دور الحكومات في الدعم وتطبيق نظام ضريبي يساهم في تحقيق التوازن المالي.
يثار الجدل دائمًا حول تبعات هذه السياسات الحكومية، وحول مشاريع الخصخصة وآثارها على الاقتصاد والمجتمع والعقد الاجتماعي، في هذا الصدد حاورت “مواطن” مجموعة من الباحثين والسياسيين من دول الخليج العربي من المشاركين في مؤتمر “التبعات الاجتماعية للخصخصة في بلدان الخليج العربي: الصحة والتعليم مثالاً ” والذي أقيم في العاصمة البحرينية المنامة في شهر نوفمبر الماضي.
أيهما الأفضل: خدمات القطاع الخاص أم الخدمات الحكومية؟
يرى الخبير الاقتصادي البحريني د. جاسم حسين أن خصخصة قطاع الصيدلة يمثل نموذجًا ناجحًا؛ حيث ساهم في انتشار الصيدليات وتسهيل وصول الناس إليها، وأضاف: “إحدى المشاكل في الخدمات الحكومية هي غياب إمكانية المسائلة في حال ساءت الخدمات، فلو مثلًا كانت الخدمات البلدية سيئة؛ هل نستطيع أن نحاسب الحكومة؟ أما في حالة الخصخصة فالشركات المتعاقدة مع الحكومة مسؤولة أمام المجتمع والحكومة في آن واحد، فهي لا تريد أن تخسر عقودها المربحة.”
بينما رأى الوزير السابق بوزارتي الصحة والتعليم بالبحرين د. علي فخرو أن مشاريع الخصخصة أتاحت لتأسيس ثقافة أن كل شيء خاص هو الأفضل وكل شيء حكومي هو سيء، على حد تعبيره. وأضاف أن “الدولة لديها مسؤولية للحفاظ على الحقوق وتقديم خدمات ضرورية لا تستطيع أن تتخلى عنها إطلاقًا؛ وهي التعليم والصحة والسكن والعمل. والمشكلة تكمن في عدم اهتمام الحكومات بتطوير الخدمات، فأصبحت تهتم فقط في الأمن والدفاع والسياسة الخارجية وما عدا ذلك يسلم للقطاع الخاص. ودولة الرعاية الاجتماعية التي تهتم في توفير فرص العمل اللائق والسكن والتعليم لم تعد موجودة.”
أتاحت مشاريع الخصخصة لتأسيس لثقافة: أن كل شيء خاص هو الأفضل وكل شيء حكومي بالضرورة سيء.
د. على فخرو Tweet
بيد أن القطاع الحكومي يتهم بين الحين والآخر بالفساد بسبب غياب الشفافية والمساءلة وانتشار المحسوبية، ومن جانبه اختلف الأمين العام السابق للحركة التقدمية الكويتية أحمد الديين مع منطلقات هذه الانتقادات قائلًا: “إحدى الذرائع التي تستخدم لتبرير سياسات الخصخصة؛ هو أن القطاع الحكومي فاسد، ولكن عندما ندقق جيدًا نجد أن الفساد في القطاع الحكومي هو نتاج محاولة القطاع الخاص للاستفادة من القطاع العام عبر المناقصات وصفقات الفساد.”
وأضاف “القطاع الخاص هو الحاضن الحقيقي للفساد والقطاع الحكومي ليس إلا أداة لتمرير مصالح التجار، والخصخصة ستؤدي إلى المزيد من الفقر وتركز الثروات في أيدي القلة المسيطرة وتخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه المجتمع.”
إصلاح خدمات القطاع الحكومي عبر تعزيز المساءلة والرقابة الشعبية
بات المواطنون والمقيمون في دول الخليج يشتكون بشكل متزايد في السنوات الأخيرة من انخفاض جودة الخدمات الحكومية، ويحاولون إيصال شكاويهم إلى المسؤولين الحكوميين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الرسمية، فتتجاوب معها الجهات الحكومية أحيانًا، وتتجاهلها أحيان أخرى. فهل يمكن حل المشاكل التي تعاني منها الخدمات الحكومية مثل انخفاض كفاءتها عبر إصلاحات إدارية؟ أم أن الخصخصة هي الطريقة الأمثل للتغلب عليها؟
قال الخبير في الإصلاح الإداري د. محمد الكويتي إن “القطاع الخاص يتميز بوجود هامش أكبر لمساءلته؛ كون عامل الربح هو المؤشر لقياس مدى كفاءة الخدمة، وفي هذا الجانب قد تكون للخصخصة فائدة، ولكن في جوانب أخرى مثل التعليم والصحة، فهناك إشكاليات أخرى لعدم وجود تنافس حقيقي يحقق الغرض من الخصخصة وكونها تخلق اللامساواة في المجتمع.”
وأكد على أن غياب المساءلة السياسية حول التجاوزات الإدارية والمالية والفساد هو التحدي الذي ينبغي التركيز عليه في سبيل تطوير الخدمات الحكومية.
هذا وقد برزت قضية “المسائلة السياسية” و”الرقابة الشعبية” بشكل متكرر في حوار “مواطن” مع المشاركين في المؤتمر؛ حيث نوهت الباحثة ميس الفارسي إلى ضرورة وجود مؤسسة تشريعية رقابية قادرة على ضمان تنفيذ مشاريع الخصخصة بما يصب في مصلحة المجتمع ومحاسبة المتجاوزين.
وأكدت “الفارسي” على أن “الحديث عن الخصخصة في ظل غياب الرقابة الشعبية وحرية الإعلام أمر في غاية الخطورة، لكون مشاريع الخصخصة في العادة تؤثر سلبًا على فئات مهمشة؛ مثل ذوي الدخل المحدود والمسرحين من العمل والشرائح الفقيرة.”
الخصخصة كأداة مكرسة للا مساواة في المجتمع
خصخصة الخدمات وعلى وجه الخصوص الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة غالبًا ما يؤدي إلى تسليعها وتحويلها إلى مشاريع ربحية، يحصل من خلالها الأغنياء وأصحاب النفوذ في المجتمع على الحصة الأكبر من الموارد والامتيازات، بينما يصعب على الفقراء التقدم اجتماعيًا واقتصاديًا في ظل عدم وجود آليات لضمان تكافؤ الفرص بين فئات المجتمع.
وفي حديث “مواطن” مع المشاركين على هامش مؤتمر “التبعات الاجتماعية للخصخصة في بلدان الخليج العربي: الصحة والتعليم مثالًا “برزت فئتا النساء والطبقة العاملة كأبرز المتضررين من سياسات الخصخصة في وجهة نظر منتقديها.
قالت الباحثة في الشؤون الاجتماعية والسياسية د. منى عباس فضل “إنه تبعًا للتجارب العالمية، فإن أبرز آثار الخصخصة هو الإضرار بقوة العمل؛ وذلك بالتخلص من العمالة الزائدة؛ وعليه فمن المتوقع عند اعتماد الخصخصة أن تكون النساء العاملات البحرينيات أبرز المتضررات؛ لاسيما وأن نسب البطالة في أوساطهن هي الأعلى “86%”، ما يعني زيادة نسبة الفقيرات منهن”.
من المتوقع عند اعتماد الخصخصة أن تكون النساء العاملات البحرينيات أبرز المتضررات، ما يعني زيادة نسبة الفقيرات في الدولة.
د. منى عباس فضل Tweet
ونوهت فضل أن زيادة نسبة الفقيرات من النساء يضعف قدرتهن التنافسية في سوق العمل، من حيث فرص التدريب واكتساب المهارات ومراكمتها على المدى البعيد.
ومن جانبه أشار د. علي فخرو إلى أن دولة الرعاية الاجتماعية التي تهتم في توفير فرص العمل اللائق والسكن والتعليم والصحة “لم تعد موجودة”، وأصبحت العوائل الفقيرة في المجتمع “تبيع كل ما تملك فقط لأجل إدخال أبنائها إلى المدارس الخاصة”، ما يضعها تحت ضغوطات مالية واجتماعية ونفسية كبيرة لا تواجهها العوائل الغنية.
العقد الاجتماعي التقليدي بين الثابت والمتحول
لسياسات الخصخصة جوانب سياسية أيضًا تؤثر على الثقافة السياسية والعقد الاجتماعي القائم، حيث أن سعي دول الخليج لمنح القطاع الخاص دورًا أكبر في تنمية الاقتصاد، وفرض الضرائب ورفع الدعم عن السلع والخدمات أدى إلى تساؤلات جديدة حول استمرارية العقد الاجتماعي القائم على احتكار السلطة مركزية القرار السياسي في مقابل توزيع ريع النفط على المواطنين على شكل رواتب وخدمات وامتيازات اقتصادية تحيدهم عن الاشتغال بالسياسة.
إذًا فالنظام الريعي هو خيار سياسي لا خيار اقتصادي، بيد أن اتخاذ الحكومات الخليجية سياسات الخصخصة وفرض الضرائب يدعو المراقبون للتساؤل حول مدى استمرارية “التفاهمات” السياسية السابقة حول طريقة تقاسم السلطة والثروة وصعود ثقافة سياسية عامة تسعى لتكريس مبادئ الشراكة السياسية والديمقراطية استنادًا إلى فكرة “لا ضرائب بلا تمثيل سياسي”.
وفي هذا الصدد، يرى الباحث في السياسة والاقتصاد علوي المشهور أن مشاريع الخصخصة “تعبر عن تحولٍ في العقد الاجتماعي القائم بين الحاكم والمحكوم في الخليج” حيث غيرت التفاهمات السابقة التي تمحورت حول تكريس “أبوية الدولة”، على حد تعبيره.
” واليوم لم يعد المواطن الخليجي يعيش تلك الحياة الكريمة، ولم يعد يضمن حقوقه ولا حتى الحصول على العمل اللائق، وبات يرى الدولة تطالبه بالمساهمة في دفع الضرائب وتقوم بخصخصة الخدمات لصالح كبار التجار والمتنفذين، ومن دون استشارته. ونرى اليوم نمو وعي المواطنين بحقوقهم امتثالاً بـ “لا ضرائب بلا تمثيل” مما سيسرع وتيرة المطالبات بالإصلاحات السياسية والمشاركة الفاعلة في الرقابة والتشريع والتمثيل في الحكومات.”
ومن جانبه، أكد الأمين العام للحركة التقدمية الكويتية د. حمد الأنصاري أن لمشاريع الخصخصة تأثيرًا على الثقافة السياسية أيضًا حتى في الدول التي تشهد حراكًا سياسيًا نشطًا مثل الكويت، وأشار إلى أن الخصخصة أدت إلى “إقصاء العمالة الوطنية”.
وأضاف أن الثقافة السياسية لدى الطبقة العاملة على وجه الخصوص قد تشهد تحولات تفضي بتحول ثقافة العمال من ثقافة تواقة إلى “التغيير” إلى ثقافة “استهلاكية”، “يصبح من خلالها العامل مجرد موظف يستلم أجره ويسكت عن أي فساد سياسي”.
وعلق د. علي فخرو حول موضوع الثقافة السياسية ودور الدولة في صياغتها بالقول إنه “من واجب الحكومة أن تحرص على تخريج طلبة يفهمون مسؤولية المواطنة، وليست مسؤولية الاشتغال في هذه الشركة أو تلك”.