عرف التاريخ الصيني العديد من الأديان والأنساق الفكرية، تلك التي تمكنت من التأثير –بصور مختلفة- في الوجدان الشرقي الجمعي القديم. أحد تلك الأديان هو الدين التاوي، الذي ظهر –بشكله الأكثر اكتمالًا وتنظيمًا- في القرن السادس قبل الميلاد على يد الحكيم الغامض “لاو- تسو”، وتطور بعدها عبر القرون، ولا يزال معروفًا حتى الآن في منطقة جنوب شرق آسيا، إذ يقترب عدد أتباعه من الاثني عشر مليونًا من البشر.
“لاو- تسو”: مؤسس التاوية الغامض
مثله مثل غيره من المفكرين والأنبياء العظماء الذين أسسوا الأديان والمعتقدات السائدة حول العالم، يلف الغموض شخصية مؤسس التاوية “لاو- تسو”، للدرجة التي تجعلنا غير قادرين على تمييز الملامح الواضحة لشخصيته وسط كل هذا الركام من الأساطير والخرافات الشائعة حوله في التراث الصيني القديم.
بحسب ما هو معروف، فإن “لاو- تسو” كان يعيش –على أرجح الأقوال- في القرن السادس قبل الميلاد، وكان يعمل بالأرشيف الإمبراطوري في مدينة لوينج، عاصمة مملكة تشاو الصينية القديمة، وتتحدث القصص عن مدى عبقريته وذكائه، للدرجة التي حدت بالحكيم المشهور كونفوشيوس لتجشم عناء السفر بغية مقابلته، وكيف أنه عندما قابله قد وصفه بالتنين من فرط ما تمتع به “لاو- تسو” من علم وحكمة ومعرفة.
بحسب الرواية التقليدية، فإن “لاو- تسو” لما لمس التخبط والفوضى الضاربين في القصر الإمبراطوري، عزم على الاستقالة من عمله، وخطط للرحيل إلى ناحية غير معروفة في شمالي غرب الصين، ليقضي بها ما تبقى من عمره، ولكن قبل رحيله طلب منه البعض أن يكتب لهم كتابًا يلخص فيه أصول ومبادئ حكمته وعلمه، فكتب عندها مؤلفه الأشهر المسمى بـ”تاو- تي- تشينغ”، والتي تعني رسالة في التاو وقوته، وبعدها فارق الناس واختفى تمامًا عن الأنظار.
ما هي التاوية؟
بحسب ما يذكر الباحث السوري فراس السواح في كتابه “موسوعة تاريخ الأديان”، فإن التاو هو الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية، والواحد الذي يعطي للمتعدد الأساس والمعنى، “إنه البداية العظمى لكل الموجودات؛ فمن أدرك التغير ومعانيه صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة، وثبت قلبه على المبدأ غير المتغير”.
هذا المعنى يظهر بشكل واضح في شعار التاوية، والذي يتمثل في دائرة يتقاسمها اللونان الأبيض والأسود، واللذان يرمزان لقوة اليانج الموجبة، وقوة الين السالبة، وهما القوتان المتضادتان، اللتان تتضح فيهما مظاهر الوجود، فاليانج هو الذكر، المتحرك، المنير، الدافئ، الإيجابي، أما الين فهي الأنثى، الساكنة، المظلمة، السلبية، ومن هنا فإن التاوية تؤمن بأن كل مظاهر الوجود ليست إلا نتاجًا لتفاعل القوتين مع بعضهما بعضًا.
على العكس من الأديان الثنوية –ومنها الزرادشتية على سبيل المثال- والتي تؤكد على أن القوتين المتضادتين متنافستان، وأن إحداهما قوة للخير والأخرى قوة للشر، فإن التاوية تميل للقول بالتكامل بين القوتين، وأنهما لا يخوضان معركة من أجل السيادة أو إلغاء الآخر، بل إنهما في الحقيقة يعملان معًا للوصول للكمال، ومن هنا فإن الهدف الأهم للحياة لا يتحقق بالتعصب لأحدهما على الآخر؛ بل يتم تحقيقه إذا تمكن الإنسان من الوصول لحالة من حالات التوازن بين القطبين، لأنه لا وجود لأحدهما إلا بوجود الآخر.
بحسب نصائح “لاو- تسو”، فإن الهدف الأسمى للحياة هو التركيز على إدراك النظام الخفي للكون، وأن يتمكن الفرد من التناغم بشكل كامل مع النظام الكوني، دون أن يشغل باله بالتفكير في تفاصيله المعقدة، تلك التي لا يمكن للعقل الإنساني أن يحيط بها. من هنا فإن التاوية لم تفرد مساحة واسعة للحديث عن الإله الخالق لهذا الكون، ولم تنشغل بطريقة نشأة أو تنظيم الحياة، في حين نجدها وقد استسلمت تمامًا لمجاراة الطبيعة في تحركاتها وردود أفعالها، ولعل من أشهر القصص التي تبيّن هذا المعنى، تلك التي تحكي أنه عندما سُئلت حشرة أم أربعٍ وأربعين عن كيفية تحريكها للعشرات من أرجلها بهذا التناغم دون أن ترتبك، أجابت بتلقائية بكونها تفعل ذلك دون أن تفكر فيه، وأنها تعتقد أن أرجلها تتحرك في تناغم وانضباط ذاتي، ولكنها لما شغلت نفسها بالإجابة على هذا السؤال فيما بعد، فإنها قد تعثرت واختلت حركتها.
كتاب تاو- تي- تشينغ
تتحدث الروايات التاوية أن المؤسس قد دون هذا الكتاب قبيل غيبته الأخيرة، وأنه قد وضع فيه ما يقرب من خمسة آلاف شارة كتابية صينية، ومما لا شك فيه أن هذا الكتاب قد بقي بمثابة الكتاب المقدس عند التاويين عبر القرون. على الرغم من صغر حجم هذا الكتاب، إلا أنه كثيرًا ما يوصف بأنه أحد أهم الكتب المؤثرة في التراث الصيني القديم، ولا يزال يطبع ويوزع حتى الآن في شتى دول العالم، وقد وصفه المؤرخ وعالم الأديان الروماني ميرسيا إلياد في كتابه تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية بأنه “النص الأكثر عمقًا، وأكثر تلغيزًا في كل الأدب الصيني”.
يشتمل هذا الكتاب على عدد كبير من النصائح التي وجهها الحكيم “لاو- تسو” لكل من الحكام والرؤساء والعسكريين، كما أن القسم الأكبر منه يخاطب الإنسان العادي الذي يريد أن يعيش في سلام واستقرار. وبحسب النسخة المتداولة، فإن الكتاب قد أنشغل بثلاثة قضايا رئيسة، ألا وهي تقريب مفهوم التاو من ذهن القارئ، وتبيان السلوك الذي يجب أن يسير عليه الإنسان لكي يصل إلى الخير والسلام والطمأنينة، وتوضيح الطريقة الصحيحة للحكم والسياسة.
فيما يخص قضية تقريب مفهوم التاو، سنجد أن “لاو- تسو” يؤكد على أنه ليس إلهًا مفارقًا للعالم، وإنما هو قوة، غير مرئية، تحيط بشتى الموجودات، وتكمن في أساسها، وفي ذلك يقول واصفًا إياه:
- هناك شيء بلا شكل، موجود قبل السماء والأرض.
- صامت فارغ، قائم بنفسه لا يحول. شأنه الدوران بلا كلل، مؤهل لأمومة العالم
- لا أعرف اسمه فأدعوه: التاو، لا أستطيع وصفه فأقول: العظيم.
- عظمته امتداد في المكان. الامتداد في المكان يعني امتدادًا بلا نهاية. الامتداد بلا نهاية يعني العودة لنقطة المبتدأ.
التاو إذن بحسب ما ورد في الكتاب، يقترب كثيرًا من مفهوم وحدة الوجود الشائع في الأنساق الصوفية، فالتاو هو العلة والمعلول في آن، وهو جوهر جميع الموجودات والكائنات التي قد تبدو مختلفة أو متناقضة، التاو هو الإنسان، والشمس، والنهر، والصحراء، ولعلنا لا نبالغ لو ادعينا أن هناك نوعًا من أنواع التوافق والتشابه بين مفهوم التاو الصيني من جهة، وما ورد في أشعار الصوفيين المسلمين المنادين بوحدة الوجود، مثل كل من الحسين بن منصور الحلاج المتوفى 309ه، وعمر بن الفارض المتوفى 632ه، محي الدين بن عربي المتوفى 638ه.
لا نبالغ لو قلنا أن هناك نوعًا من أنواع التوافق والتشابه بين مفهوم التاو الصيني من جهة، وما ورد في أشعار الصوفيين المسلمين المنادين بوحدة الوجود، مثل كل من الحسين بن منصور الحلاج وعمر بن الفارض ومحي الدين بن عربي
وفيما يخص قضية السلوك الذي يجب أن يسير عليه الإنسان للوصول للسلام والهدوء، فأننا نجد “لاو- تسو” يؤكد على ضرورة نكران الأنا الفردية، والانفتاح على الكون بكل ما فيه، ذلك “أن الإنسان لا يجد نفسه الحقيقية إلا عندما ينسى نفسه الآنية التي ليست أكثر من وهم خادع وزائل”، فالمعرفة الحقيقية تقود إلى معرفة الذات، وعندما يتوصل التاوي إلى معرفة ذاته، فإنه يصل إلى الحالة المعروفة باسم اللا آنية، وهي الحالة التي تخرج بالوعي الفردي إلى الذات المنفتحة.
من هنا، فإن “لاو- تسو” يدعو للكف عن التنافس بين الناس، ويشجع على السلوك التعاوني، لأنه يرى أن التنافس هو الخطوة الأولى في سلم التدمير الذاتي، وفي ذلك يقول:
عندما لا نمجد السباقين نمنع التنافس. عندما لا تقدر النفائس يختفي المال الحرام. عندما لا نعرض ما يثير الرغبة نقضي على تبلبل الأذهان.
في المحور الثالث من الكتاب، يوجه “لاو- تسو” نصائحه وإرشاداته للحكام، فينصحهم باللجوء للمهادنة واللين، وبأن يتجنبوا التدخل في الأحداث بقدر المستطاع، فكان من ضمن ما قاله في هذا:
أفضل الحكام من شابه الطفل عند رعيته. يليه الحاكم الذي يحبون ويمدحون. فالذي يخافون ويرهبون، فالذي يحتقرون ويكرهون.
وقوله في موضع آخر من كتابه: احكم البلاد بالسكينة وتقويم ذاتك، وأدر الحرب بتحركات مفاجئة سريعة، واكسب المملكة بدون تدخل، كلما كثرت القوانين والشرائع، كلما انتشر اللصوص وقطاع الطرق، لذا فإن الحكيم يقول: لا أقوم بأي فعل والناس يتغيرون من تلقاء ذاتهم، أميل إلى حالة السكون، والناس ينصلحون من تلقاء ذاتهم، ألزمُ عدم التدخل، والناس يزدهرون من تلقاء ذاتهم.
الأمر الذي يجب ملاحظته فيما يخص النظرة التاوية للسياسة، أنها تضع ثقتها المطلقة في الإنسان، فهي على سبيل المثال، لا توافق المسيحية في إيمانها بالخطيئة الأصلية، وفي نظرتها إلى الطبيعة الإنسانية باعتبارها فاسدة من حيث المبدأ، وأنها تتطلب الصقل والتطهير، وبالتالي فإن “لاو- تسو” لم ير أن الحكم والسياسة قدرًا مقدورًا لا مهرب منه ولا مفر، ولم يدع أن المجتمع بدون حاكم سوف يتحول إلى غابة يستقوي فيها القوي على الضعيف، ويبطش فيها القادر على العاجز.
التاوية الطقسية
لما كان من الصعب أن تبقى الأديان على أفكارها ومضامينها المثالية من غير شعائر وطقوس مادية تمارس وتؤدي بأشكال وطرائق محددة، فقد كان من الطبيعي أن تتحول أفكار التاوية القديمة –بمرور الوقت- لتأخذ الشكل الطقوسي، وفي هذا السياق ظهرت مجموعة من الأهداف الجديدة المتسقة مع روح العصر، منها على سبيل المثال، السعي لاكتساب القوى الخارقة، ومحاولة إطالة العمر، هذا فضلًا عن محاولات تحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب.
هذا التحول المهم، وقع في زمن حكم أسرة هان، التي حكمت مساحات واسعة من الصين فيما بين القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الثالث بعد الميلاد، وبحسب ما يذكر فراس السواح في كتابه سابق الذكر، فإن الإمبراطور وو- تي الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، كان أول من تحول من الأباطرة للتاوية الطقسية، عندما اهتم بتحويل مادة كبريتات الزئبق إلى ذهب، فأحاط نفسه بعدد كبير من الحكماء التاويين في سبيل تحقيق هذا الهدف.
التاوية الطقسية لم تبق محصورة في البلاط الإمبراطوري، بل انتشرت بين طبقات الأرستقراطيين والعامة كذلك، وكان لها أشكال ممارسة متعددة، وبحسب ما يذكر ميرسيا إلياد في كتابه، فإن واحدًا من أشهر أشكال التاوية الطقسية، كان ذلك الطقس الجنسي، الذي يعمل على خلط المني مع التنفس، لتكوين الجنين السري، وهو الذي سيصبح بدوره –فيما بعد- بذرة لجسد جديد لا يفنى، وغير قابل للموت.
هذه التقنية كانت تمنع الرجل من قذف منيه عند وصوله للحظة النشوة، إذ كان يعتقد أن رجوع المني للجسد مرة أخرى سوف يؤدي لاكتساب القوة والحياة. في السياق نفسه، تجدر ملاحظة أن هذه التقنية قد ارتبطت بأحد الطقوس الشهيرة المسماة بـ”اتحاد الأنفاس”، وهي تلك التي يُمارس فيها الجنس في شكل حفلات جماعية شهرية، وكان من المُعتقد أن ممارسة الرجل للجنس مع أكثر من امرأة في وقت واحد، من شأنه أن يزيد من الحيوية وطول العمر.