أثار فيلم “أصحاب ولا أعز” من إنتاج نتفليكس موجة من الانتقادات الأخلاقية لمضمونه الداعي -حسب وصف منتقديه- لقيم وأخلاقيات دخيلة على مجتمعنا، والتي يرونها “لا تعبر عنّا ولا عن هويتنا العربية والإسلامية”. تبعتها موجة أخرى من الاحتفاء والإشادة والتأييد للفيلم وما يُلقي عليه الضوء من فوضى العلاقات العاطفية والعلاقات المتعددة والأسرار التي ترافق العلاقات الزوجية التي يخفيها كل طرف عن الآخر، مؤكدين أننا لسنا استثناء في هذا العالم، وأن الصورة المقدمة من خلال الفيلم موجودة في الكثير من العلاقات الزوجية وإن كانت بصور وأشكال مختلفة.
بين الرأيين الذين لم ينظرا سوى لمضمون الفيلم، غاب التساؤل حول ” النموذج الصناعي” الجديد الذي تقدمه نتفليكس في عالم السينما والدراما من خلال تقديم سينما مُعولمة، لا تؤمن بمفهوم الخصوصية الثقافية وتسعى لخلق مشاهد عالمي نمطي يتقبل معايير فنية وقيمية محددة.
سيناريو واحد، وعشرون فيلمًا
في العام 2016 ظهرت النسخة الفيلمية الأولى من سيناريو كتبه فيليبو بولونيا وباولو كوستيلا بالإيطالية بعنوان Perfetti sconosciuti ومن إخراج باولو جينوفيزي
تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من الأصدقاء القدامى اجتمعوا في حفل عشاء لمشاهدة خسوف القمر وقرروا أن يتشاركوا كل ما يصل لهواتفهم من رسائل بريدية ونصية ومكالمات وتسجيلات صوتية لتنكشف أسرار علاقاتهم العاطفية والجنسية التي يخفونها عن أزواجهم وزوجاتهم وأصدقائهم.
في نفس العام صدرت النسخة اليونانية لنفس السيناريو بعنوان Teleioi xenoi لتتوالى الإصدارات بلغات مختلفة، حتى نصل للإصدار الحادي والعشرين، وهو النسخة العربية بعنوان أصحاب ولا أعز وفي انتظار النسخة النرويجية من الفيلم الذي اكتمل تصويره وسيعرض قريبًا على منصة نتفليكس.
أمام اثنين وعشرين نسخة بلغات مختلفة وممثلين مختلفين في سبع سنوات لسيناريو واحد، تظهر ضرورة التساؤل حول غاية نتفليكس، ولماذا لم تمول إنتاج اثنين وعشرين فيلما مختلفا؟
الاقتباس ليس جديدًا
عرفت السينما من وقت نشأتها حتى الآن “إعادة الإنتاج” بصوره وأشكاله المختلفة، بدءً من اقتباس نص روائي وتحويله لفيلم سينمائي مرورًا بإعادة معالجة أعمال روائية قدمت في أعمال سينمائية سابقة، لكن بمعالجة درامية مختلفة، كم مرة قدمت هاملت على شاشة السينما؟! حتى إعادة إنتاج فيلم قديم عرفته السينما، وبالطبع عرفت السينما الاقتباس بين اللغات المختلفة.
قدّم عادل إمام وأغلب الممثلين المصريين أفلاما مقتبسة من أصل أجنبي، فيلمًا كان أو رواية، أفلامًا عاشت معنا وأمتعتنا، مثل شمس الزناتي والبحث عن فضيحة، في وقت كان الوصول للأصل الأجنبي شديد الصعوبة، كما قُدمت بمعالجات ممصّرة ولم تلتزم بالأصل التزاما تام.
ليوناردو ديكابريو قدّم في العام 2013 تحفة الأدب الأمريكي، جاتسبي العظيم، للمرة الرابعة في تاريخ السينما الأمريكية وحدها، بفاصل زمني 39 عامًا عن النسخة التي قدمها روبرت ردفورد ، حتى لو التزمت كل تلك النسخ بسيناريو واحد ولم تقدم معالجات مختلفة، يمكننا أن نلحظ فارق التقنية المستخدمة في صناعة السينما والرؤى الإخراجية السائدة بين أزمان إنتاج النسخ المختلفة، يمكننا عبر تلك الإصدارات أن نفهم كيف تطورت الصناعة.
الأمر إذن أن نتفليكس لا تعيد إنتاج أعمال إبداعية قديمة بصورة ورؤية وتقنيات مختلفة، لكنها تحاول خلق نمط ما تجاري، نموذج Model جديد في صناعة الإنتاج السينمائي، فما هو هذا النموذج؟
شجاعة كاذبة وثورية مدّعاة
يمكن تقسيم استراتيجية نتفليكس ونموذجها التجاري لشقين: الأول: قيمي مرتبط بمضمون السلعة/الفيلم/ المسلسل. والثاني: تجاري مرتبط بالكم، كمية ما يقدم مقابل الاشتراك.
تتبنى نتفليكس قضايا معينة وتقحمها في كثير من الأحيان بشكل غير ضروري في أعمالها المنتجة، الهوية الجندرية على رأس تلك القضايا، غضب الشباب من سوء توزيع الثروة والنفوذ في العالم قضية أخرى، لكن هل تؤمن نتفليكس حقًا بتلك القضايا وتسعى لتقديم رؤية عميقة لها واقتراح حلول جذرية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه استراتيجية تجارية لتنميط المستهلك المستهدف ؟
لو نظرنا لفيلم “أصحاب ولا أعز” من هذا الجانب وحاولنا تفكيك ما يقدمه من قيم ومدى عمق وإنسانية ما يقدمه؛ ماذا نجد؟
مجموعة من الأصدقاء اجتمعوا سويا، وبفضل لعبة مشاركة الهواتف انكشفت أسرارهم جميعًا أمام بعضهم البعض، وجدنا رجلا يخون زوجته مع صديقته ويخونهما معا مع زميلة له في العمل، امرأة تخون زوجها مع صديقها، زوجان يخونان بعضهما بعضًا مع آخرين عبر علاقات إلكترونية، رجل مثلي الجنس يخفي ميوله الجنسية عن أصدقائه، هل تعاطفنا مع أحد؟ هل فهمنا أبعاد الشخصيات ودوافعها للخيانة؟ هل عشنا صراع أي منهم الداخلي واقتربنا من حالته النفسية؟ هل قدّم أصحاب ولا أعز نقدُا ثوريُا للقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع؟
في فيلم عمارة يعقوبيان لمروان حامد، والذي عُرض في فترة زمنية شديدة التزمت والتعصب الديني، قدّم مروان رؤية إنسانية متفهّمة ومتسامحة لمصري مثلي الجنس يعيش في مجتمع يحتقر المثليين. في فيلم الصعاليك لداود عبد السيد تمارس صفية الجنس لمرة واحدة مع صديق زوجها الغائب في السجن، يتساءل داود عن معنى الجسد والخيانة عن حق المرأة في جسدها، يقدم لنا صراع كل منها الداخلي وفهم كل منهما لعلاقتهما الجنسية، نتعاطف معهما ومع إحساسهما بالذنب، يجعلنا داود عبد السيد نتشكك ونتساءل عن معنى أو مفهوم الجسد والخيانة؟! يضعنا أمام القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع موضع تساؤل ومراجعة.
نتفليكس: صناعة السينما بمفاهيم استهلاكية
قامت الرأسمالية على بضعة مفاهيم أساسية؛ أهمها “الإنتاج الغزير” عبر إنتاج كميات كبيرة متطابقة من نفس المنتج، وعبر تقسيم العمل بشكل كفء، وعبر التحكم في وسائل النقل لضمان الوصول لأسواق أوسع تولد الثروة.
تستخدم نتفليكس نفس الآلية في العمل، تعتمد على الإنتاج الغزير متوسط القيمة الفنية لتقدم للمستهلك وجبة دسمة، آلافًا من ساعات المسلسلات والأفلام متاحة للمستهلك شهريًا بدولارات قليلة. تحقق تلك الاستراتيجية أرباحًا هائلة؛ فالمادة متاحة ولكل فرد الحرية في مشاهدة ما يناسب ذائقته.
لكن نتفليكس لم تكتف بالتحكم في ” جانب العرض” حسب المفهوم الاقتصادي وذهبت خطوة أبعد، ماذا لو تحكمنا نحن في تذوق المستهلك؟ ماذا لو تعاملنا مع الإنتاج السينمائي بمفهوم ماكدونالدز؟ منتج واحد، خفيف، سريع التحضير يعتاد عليه المستهلك في أي مكان في العالم، يقبل عليه ويشتريه دون توقع أن يجد طعمًا أو جودة مختلفة؟
أتخيل اجتماعًا يجلس فيه خبراء التسويق في شركة نتفليكس يتناقشون حول كيفية زيادة الإيرادات؛ فيقترح مسؤول تسويق، ذكي دون تذوق سينمائي، التحكم في “جانب الطلب” وتنميط المستهلك عبر خطة إنتاجية طويلة المدى لعشرة أو عشرين عامًا، تنتج جيلاً من المشاهدين يتحكمون هم في تذوقه ويضمنون وصول منتجهم المتشابه لكل الناس؛ فتنمو الأرباح وتنتهي السينما كفنّ، لكن تبقى كصناعة تسلية تدرّ أرباحًا هائلة.