يحاول الحوثيون من جهة وجماعة الإخوان من جهة أخرى كأحد أهم أطراف النزاع الداخلي في اليمن تصوير الحرب كحربٍ دينية طائفية يقودها أقطاب الصراع الإسلامي، السنة والشيعة. خطاب الحرب وخطب الساعات الثلاث وأيديولوجيا التوجيه المعنوي للتعبئة العسكرية التي يلقيها الطرفان تستمر في تأكيد هذه الصورة، لكن ما علاقة الله بحرب اليمن؟
إجابة هذا السؤال في حاجة للعودة للقرن الثاني عشر، حيث كان عبد الله بن حمزة، أحد أقوى الأئمة الزيدية في اليمن، والذي استطاع إعادة سلطان الدولة الزيدية لصنعاء بالحديد والنار، وهو ينشد شعره القائل بأفضليته العرقية على بقية اليمنيين “لم يجعل الكلب سواءً والأسد، فاطرحوا ثوب العناء والحسد”. استطاع تحقيق إبادةٍ كاملة لطائفة المطرفية وقمع القبائل اليمنية وبقية خصومه.
الدين يعتنق القبيلة
استمرت الدولة الزيدية لفترات متقطعة طوال ألف عام من تاريخ الإسلام لليمن مع قدوم “الهادي الرسي” لصعدة في القرن الثاني الهجري، وانتهت بسقوط آخر دول الإمامة في ستينيات القرن الماضي، مخلفةً وراءها إرثًا عقائديًا سياسيًا بدأ بالانحسار لاحقًا مع المد الوهابي والسني في اليمن بعد الثورة الجمهورية، لكن هل سقط المذهب؟ الهاشمية السياسية إجابة هذا السؤال.
إن عودة الزيدية كمذهبٍ سياسيٍ في وجهها الجديد “حركة أنصار الله الحوثية”، يمثل تأكيدًا على عرقية المذهب الزيدي الذي حافظ على طائفته العرقية المتمثلة بالقبيلة الهاشمية في اليمن التي ترى في المذهب حاملًا أيديولوجيًا قويًا لتحقيق تطلعاتها في حيازة امتيازاتٍ على أرض الواقع في خارطة الصراع الحالية.
تحول الحوثيون من جماعةٍ صغيرة متمردة في أحد الجبال شمال البلاد لآلة حربٍ اجتاحت المدن كماكينة نازية تعبر اليمن من شمالها لجنوبها في شهورٍ قليلة ضمن مناطق يمثل المواطنون السنة المكون السكاني الوحيد في أغلبها، في الحين الذي واجهوا فيه مقاومةً هزيلة من بعض القبائل المعارضة والمتحكمة بالسلطة.
دعمت القبيلة الهاشمية الحوثيين ووفرت لهم الحاضنة الشعبية الأساسية كحاملٍ ثابتٍ للمشروع السياسي الزيدي في وسط مجتمعٍ قبلي التكوين يغلب عليه التدين السني. فيما أثبتت تجربة اجتياح الحوثيين للخارطة اليمنية بأن التجريف السني للوجود الزيدي لليمن نجح ولكن لم يقض على المشروع السياسي للزيدية المتمثل في الأحقية الإلهية للهاشميين في السلطة السياسية، أي مشروع القبيلة الهاشمية، ومن وجهٍ آخر أثبتت بأن المذهب الزيدي بمشروعه السياسي ينتمي للهاشميين وليس الهاشميون من ينتمون إليه، والأمر كذلك على الجانب الآخر.
بعبارةٍ أخرى، يمكن القول بأن المذاهب الدينية تعتنق القبائل في اليمن وليست القبائل من تعتنقها.
من هم الحوثيون؟
في محاضراته المسجلة، يرفض حسين الحوثي، مؤسس الجماعة، علم أصول الفقه بوصفه إياه معيقًا للأمة عن قضاياها الأساسية بصرفها لقضايا جانبية. بهذا الطرح، الذي تمثل لاحقًا في منهج الجماعة، أخرج حسين الحوثي المذهب الزيدي من دائرة المذهب الفقهي للمذهب السياسي الذي ركز عليه في محاضراته التي تعتبرها الحركة بمثابة أدبياتها الفكرية الأساسية لتحركها.
يبقي الحوثي على الشق المعني بالاعتقاد بإمامة السلالة الهاشمية وحقها في السلطة كممثلٍ لله على الأرض في إطار نظريةٍ سياسية تختار الأمريكيين كأعداء مفترضين وفزاعةٍ تعبوية للمجتمع المناصر من جهة، وتعرض من جهةٍ أخرى تسليم السلطة له كممثلٍ إلهي مطلق الحكم حرفيًا، بمثابة الخلاص الوحيد للبشر في هذا العالم والعالم الآخر. بهذه البنية الجديدة للمذهب الزيدي قدم الحوثي مذهبًا سياسيًا عابرًا للزيدية وحاملًا لمشروع القبيلة الهاشمية في إعادة الاستحواذ على السلطة والانفراد بها.
يكشف هذا التحول الحوثي وخروجه من عباءة المذهب الديني للمذهب السياسي وجهًا آخر للطبيعة الطائفية في اليمن، التي تمثل مشروعًا قبليًا خالصًا في مستواه المركزي، وبقيته مجرد تفاصيل. يمكن القول بأن الحرب اليمنية في محيطها الداخلي هي حرب التوتسي والهوتو، ولكنها في نسختها اليمنية مقنعة بقناع الطائفية التي يتوارى خلفها خجل الدعوات العنصرية.
الطرف الآخر
في الوقت الذي تمتلك القبيلة الهاشمية حاملًا أيديولوجيًا يمثل مبررًا ماورائيًا قويًا في مجتمعٍ متدين، تفتقر نخب القبائل المعارضة لهذا الحامل. تمسكت أسرة بيت الأحمر بجماعة الإخوان ووظفتها في حفظ مصالحها ومراكزها في السلطة طوال عقودٍ مضت ككيانٍ موازٍ لسلطة الرئيس “صالح” وحزبه الشعبي، لكنها للأسف لا تتمتع بفكرةٍ تمنحها امتيازاتٍ ماورائية أو تبرر استحواذها على السلطة والثروة طوال عقود. ولهذا تحاول تصوير الصراع بوصفه صراعًا طائفيًا خالصًا يدافع فيها آل الأحمر وجماعة الإخوان تحت ألقاب أسد السنة وحماة أعراض أمهات المؤمنين عن مراكزهم في السلطة التي ذهبت أدراج الرياح أمام صرخات الموت الحوثية، وألعاب “صالح” الأخيرة.
اعتمد الرئيس “صالح” على التفاف القبائل التي مثلت قاعدة الحزب الأكبر في اليمن حوله بتحقيق ذات المصالح المشتركة التي تؤمن له استمرارًا في السلطة وأغلبيةً مطلقة في التحولات الديمقراطية التي خاضها منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، في وقتٍ يضمن لنخب هذه القبائل مراكز ونفوذًا في السلطة. رغم ذلك، افتقر “صالح” للحامل الأيديولوجي الديني في خضم هذا الصراع، ولهذا كان يلعب على صراع التمددات الطائفية الممولة خارجيًا ويتنقل بينها بمرونة. خسر “صالح” اللعبة أخيرًا باعتماده على قبائل طوق صنعاء التي خذلته في آخر جولاته في انتفاضته ضد الحوثيين ديسمبر 2017.
أبعاد جهوية
مثلت حرب العام 1994م ندبةً مشوهة في جسد الوحدة اليمنية التي انهارت أخيرًا أمام التداعيات بين شريكي الوحدة، السلطات السياسية للشمال والجنوب. في ظل هذه الجراح التي انتصر فيها “صالح” بالخيار الأصعب، بقي “صالح” عاريًا أمام ابتزازات نخب قبائل الجنوب ودعوات الانفصال الممولة خليجيًا للضغط على قرارات “صالح” ومواقفه في ملف السياسة الخارجية. مثلت قضية الجنوب رقعًا لا يقوى “صالح” على رتقه أمام سكين المال الخليجي والإقليمي.
منصور هادي، نائب الرئيس المنتمي للجنوب، النسخة المهملة لمركز رئيس اليمن الجنوبي بعد الوحدة، علي سالم البيض، أصبح الرئيس. هادي كرئيسٍ لما بعد الربيع العربي في اليمن يفتقر للحامل الأيديولوجي والسياسي والحزبي بعد تبرؤ “صالح” وحزبه منه، لكنه يمتلك التأييد الدولي إلى جانبه، وهنالك مشروعٌ جهوي في الجنوب يفتقر لرمزٍ في السلطة يمثله، رأى هادي في نفسه إمكانية أن يصبح هذا الرمز، لكن ماذا عن الشمال؟
في الشمال، اختار هادي أن يلعب على طريقة “صالح” بتحريك خيوط الصراع القبلي تحت الشعارات الطائفية من بعيد، ومنح بذلك تذكرة عبور الحوثيين للعاصمة قبل أن تسقط الأوراق من يده.
حالياً في الحرب، يستند هادي إلى قوة جماعة الإخوان وقبائلها على الأرض في مواجهة الحوثيين، ويتمسك بلعبته الأخيرة في المشروع الجهوي بشراء الجنوب بتعيينات واعتمادات مالية فلكية يمنحها لنخب القبائل الجنوبية الموالية له، في حين صنعت الإمارات بسخاء مكونًا جهويًا آخر يصارعه في الجنوب المجلس الانتقالي الجنوبي، ليبقى هادي خارج الأرض اليمنية يصنع وعائلته امبراطوريةً من ورق لا وجود لها في الداخل اليمني، وأرصدةً متخمة في الخارج.
خسر هادي مشاريعه وبقي يتأمل رحمة جيرانٍ لا يطيقونه أو يطيقهم لتغيير خارطة الصراع، في الوقت الذي يغيب فيه المشروع الوطني الحقيقي القادر على إلغاء قواعد اللعبة، وتغيب فيه القاعدة الشعبية التي يمكن لها أن تمثل الحاضن لهكذا مشروع.
الأبعاد الواقعية للحرب
خلف أقنعة الطائفية والوطنية، تظهر أبعاد الحرب الواقعية في محيطها الداخلي كصراعٍ سياسي يستخدم القوة لفرض طموحاته كسلطات أمرٍ واقع مطاطية الحدود في بعدٍ رئيسي يمثل البعد العرقي والقبلي للحرب وطمع الاستفراد بالسلطة والثروة. وبعدٍ آخر جهوي يمثل تراكمات القضية الجنوبية وحيلة أخرى لألعاب الخليج في اليمن، متقنعةً أخيرًا بالقناع الطائفي الذي تتوارى خلفه الأبعاد الواقعية للحرب على المستوى الداخلي.