“إلى الأرواح الطيبة الحالمة، هذه بعض علامات الطريق صقلتها التجربة، والبحث في طريق العلم والحياة”
بهذه الكلمات يفتتح الباحث حاتم الجوهري كتابه “سيكولوجية الصراع السياسي” بإهداء للثوار والحالمين ودعاة التغيير أينما كانوا، منطلقًا من قراءة تحليلية ونقدية لثورة 25 يناير 2011 في مصر، وما تلاها من أحداث كنموذج لدراسته، مشيرًا إلى كثير من السمات المتشابهة بين الدول العربية في تكوينها الثقافي، وتحدياتها الاجتماعية، ومآلات حراكها الثوري.
الكتاب الصادر عن دار العين المصرية، يركز في دراسته على حالة الاستقطاب الحاد السائدة في المجتمعات العربية، خاصة في مرحلة الزخم الثوري عقب ثورة 25 يناير 2011، وانقسام المجتمع إلى كتلتين؛ إما مع أو ضد!، وغياب المساحة لرأى ثالث حتى ولو كان أقرب للتغيير ولفكرة الثورة “كان الاستقطاب المعلن منذ اندلاع الثورة المصرية 2011م حول أحد مستويات الهوية الإنسانية الكبرى: الدين، الوطنية، الانتماءات السياسية، إلخ. لتستمر دوامة انتقال البلاد وانشغالها من “استقطاب” إلى “استقطاب” جديد، دون مواجهة لمشاكل البلاد الحقيقية”.
وبقدر انحياز الباحث المصري للحظة الثورة كأحد المشاركين فيها، إلا أنه لا يتوقف عن مساءلة الثورة كما يسأل أعداءها؛ فبعد مرور أحد عشر عامًا على ثورات الربيع العربي وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية ومعقدة، نبدو أحوج ما نكون لإعادة النظر في مسيرة الثورات العربية وما تلاها من أحداث وتطورات بعين ناقدة بعيدًا عن الوقوع في فخ النوستالجيا أو جلد الذات.
كان الاستقطاب المعلن منذ اندلاع الثورة المصرية 2011م حول أحد مستويات الهوية الإنسانية الكبرى: الدين، الوطنية، الانتماءات السياسي
يعتمد الكاتب في بحثه على المنهج الاستقرائي القائم على الوصف والتحليل والاستنتاج الذي يبدأ بالجزئيات وملاحظتها ورصد تفاصيلها ووصفها ومتابعتها والاهتمام بها وتسجيلها ودراستها، ليصل تدريجيا إلى النتائج، كما يمزج بين النظريات السياسية، ورؤية علم النفس في رصد وتحليل الصراع المجتمعي بين الانتهازيين دعاة تغليب المصلحة الشخصية والفردية، وبين الموضوعين أو دعاة المصلحة الجماعية وتغليب المعايير العادلة.
“تنشأ لدى الشعوب التي تتعرض للقهر والاستبداد لفترات ممتدة من الزمن؛ منظومة قيم سلوكية وسيكولوجية تقوم على التكيف والانتهازية، والتنميط الإنساني والاتباع والتقليد لـ “النمط السائد” أيا كان هذا النمط وشكله، وتحضر الفردية و”المصلحة الشخصية” والانتهازية وتغيب الجماعة والاهتمام بـ”المصلحة العامة” والمعايير الموضوعية، ويكتسب الفرد لا مبالاة شديدة تجاه المصلحة العامة وفكرة الأخلاق والمثل العليا والمعايير الموضوعية والعلمية”.
في الفصل الأول من الكتاب يقدم الجوهري قراءة، وتحليلاً لمجموعة من الأفكار والسلوكيات والإنجازات الحاكمة للحراك والصراع المجتمعي والسياسي، ولخصها في ثمان نقاط يتمحور حولها الصراع السياسي والاجتماعي وهي: “الإمكانيات والتطلعات، والتنظيم السياسي ومعيار الفرز والانتقاء، والنظرية والتنظيم، وجدل الثورية والإصلاحية، والسياسية والحزبية، وحملة الدعوة والمؤيدين للدعوة، وتحول المبادئ والمثل بدائل سياسية، واستدعاء مستويات الهوية الإنسانية”.
مشيرًا إلى مجموعة من الإشكاليات المتجذرة في العمل السياسي المصري منذ سبعينيات القرن الماضي حين قرر الرئيس السادات عودة الأحزاب (المنابر) السياسية، ومن أبرز هذه الإشكاليات:
أولًا: تكيف وتماهي الأحزاب مع السلطة الحاكمة، حتى المعارضة منها لم تكن معبرة بصدق عن أزمات المجتمع وتطلعاته، بل كانت تتحرك في الهامش الذي تركه لها النظام قابلة بقواعده السياسية والاستبدادية؛ وبالتالي فقد حاول المجتمع إنتاج تجمعات وحركات شعبية بديلة للأحزاب السياسية.
ثانيًا: علاقة النظرية بالتنظيم؛ فالعمل السياسي يقوم على مزيج بين الأفكار الإيديولوجية من جهة، والعمل التنظيمي من جهة أخرى.
موضحًا أن العمل السياسي في مصر يعاني من صراع بين هذين المكونين الذين من المفترض أن يتكاملا؛ حيث يسعى كل طرف لفرض هيمنته على الآخر، وينتج عن هذا الصراع نمطان من الشخصيات المنتشرة بصورة كبيرة في الحياة السياسية في مصر، وهما الشخصية البارانوية بكل ما تحمله من شك وتوجس وإحساس مفرط بالتعرض للاضطهاد والمؤامرة، والشخصية النرجسية بكل ما تحمله من أنانية وتعالي وغرور وادعاء المعرفة. يتساءل الجوهري “كيف يتفوق الأقل موهبة على الأكثر موهبة في ظل ظروف عادلة؟” مشيرًا إلى واحدة من أبرز الآليات الناجحة التي تتبعها النظم السلطوية في تعاملها مع القوى السياسية، وهي ثنائية “الاستقطاب والتشويه”، فالأولى تقوم على تقديم مجموعة من المصالح والمكتسبات الشخصية لمجموعة من الشخصيات الثورية من أجل استقطابها وجعلها داعمة للنظام، والثانية تعتمد على التشويه النفسي والمعنوي للشخصيات الثورية التي لم يستطع النظام شراءها، فيعمل على تدميرها معنويًا وماديًا عن طريق الإشاعات وتلفيق التهم والقضايا وغيرها من الآليات والأساليب التي عايشناها على مدار السنوات الماضية.
يطرح الكاتب كذلك مجموعة من المحاور الأساسية التي يمكن من خلالها للقوى الثورية مواجهة محاولات التشويه المعنوي وهم:
- تجاهل حملات التشويه.
- تحديد أهدافها جيدًا والاستمرار في العمل عليها بكل قوة ويقين.
- الحسم والاقتضاب والهدوء في التعبير عن مواقفها السياسية والاجتماعية.
- عدم التورط في مواقف سجالية مع ممثلي النظام لأنها تهدر طاقتها وتخلق حالة من التشويش وتجعل القوى الثورية في موضع رد الفعل.
- المبادرة والثبات على المبادئ الرئيسية وعدم الانجراف والتسرع في الحصول على مكاسب سياسية على حساب مواقفها الأخلاقية.
مؤكدًا على أهمية تبني سياسة الخطة المضادة؛ وهي مرحلة أخيرة واستثنائية يتم فيها التحول لموقف رد الفعل عن طريق وضع خطة للرد على التشويه والكذب، ويراعى عدم الدخول في صدام مباشر مع مروجي الإشاعات، والاكتفاء بتصحيح الأفكار المغلوطة واكتساب مزيد من الأرض بعيدًا عن دوائر السلطة الانتهازية، ليتم في النهاية حصار السلطة ورجالها داخل دائرة صغيرة وغير قادرة على النفاذ للكتلة المجتمعية الأكبر.
يرى الجوهري أنه رغم كل ما نعيشه من ظروف قاسية، إلا أن هناك حالة من الوعي المجتمعي المتنامي والتغيير المستمر في بنية المجتمع الساعي نحو التحرر، مؤكدًا أن ” أزمة المجتمع المقهور والمستبد به حقيقة، هو نجاح الاستبداد في الترسيخ لفكرة التنميط وتشويه المغاير، والتأكيد على فكرة التشوه النفسي و”تصدير القهر” للغير، وصنع أنماط اجتماعية منتجة للتشوه، أهمها فكرة تمييع القيم في حد ذاتها، ومحاولة المساواة بين معيار الحق والعدل ومعيار الباطل والهوى، والتأكيد على الوجود الفردي فقط والمصلحة الشخصية غير المعيارية في علاقتها مع الجماعة وأهدافها”.
إن أزمة المجتمع المقهور والمستبد به حقيقة، هو نجاح الاستبداد في الترسيخ لفكرة التنميط وتشويه المغاير، والتأكيد على فكرة التشوه النفسي و"تصدير القهر" للغير
مشيرًا إلى أن هناك مجموعة من المراحل التي يمر بها الفرد والمجتمع في رحلة تحرره، ومن أبرز هذه المراحل أولًا اكتشاف الذات عند طريق التحرر من منظومة قيم القهر والتكيف والانتهازية، وهنا يبدأ الإنسان في التعرف على ميولها وطباعها التي كانت مكبوتة ومُنمطة، وثانيًا الانتقال إلى مرحلة “الموضوعية” أو “المعيارية” عبر التعامل مع الذات في ظل علاقتها بمنظومة المجتمع الجديد ووفق قدراتها الحقيقية والواقعية، من خلال الانتقال من رؤية الذات باعتبارها محورًا للحدث والوجود، إلى تبني منظومة قيم أشمل تقوم على العدل والحرية والمساواة، وثالثًا العمل على تطبيق هذه المنظومة الأخلاقية والمعرفية في المجتمع عبر تكوين مجموعات ضغط وأحزاب سياسية تعبر عن هذه الأفكار والمبادئ.
“هناك أوقات حاسمة في حياة الشعوب؛ تكون فيها الظروف مواتية لتغيير منظومة القيم التاريخية التي تحكمها، ويحدث الصدام والتدافع بين منظومة القيم القديمة المشوهة، ومنظومة القيم الجديدة الآملة والحالمة، وفى البداية سيكون الانتصار المرحلي لصالح منظومة القيم القديمة، بما تملكه من خبرات وحيل ملتوية تمارسها بكل حنكة، وسيقع في حبالها بعض دعاة منظومة القيم الجديدة لأنهم يفترضون حسن النية والبراءة”.
موضحًا أن لحظة التحول التاريخية في الصدام بين المنظومتين القيميتين، ستكون عندما يمتلك دعاة منظومة القيم الجديدة الخبرة والمهارة والقدرة على التنظيم بالإضافة للإخلاص والمعرفة المتراكمة وحينها ستنتصر منظومة القيم الجديدة وتحقق الثورة أهدافها من عدل وحرية ومساواة.
ii want reading this is book