تعد الحضارة بكل مكوناتها المادية واللا مادية أحد تمظهرات أو تجليات تحول الحضارة الإنسانية من الإنسان الطبيعي للإنسان الثقافي؛ فهذا الأخير –الإنسان الثقافي- بات مغلفًا بهيولة ثقافية تعزز وتكمل وجوده–فالوجود بات لا يقتصر على الإنسان كما هو؛ بل على الإنسان وما ينتمي إليه- وبذلك أصبحت الهوية أحد أشكال الثقافة وأحد أهم تجليات الوجود الإنساني والمجتمعي.
ومما لا شك فيه –من الناحية التاريخية- أن أعظم الحضارات وبخاصة تلكم التي قامت في العصور الغابرة، بنيت في جوهرها على أسس من بينها الهوية العرقية، ونضرب مثل ذلك بالحضارات: الفرعونية، السومرية، البابلية، اليونانية، الإغريقية، الرومانية والأمازيغية. هذا البناء الحضاري القائم في جوهره على الهوية العرقية أصبح لا يشير فقط إلى تمظهرات الحضارة بقدر ما يعبر عن الوجود الفعلي للعرق أو المجتمع في محيطه السوسيو ثقافي.
طرح الإشكال
وبما أن الوجود في ما يخص الشعوب والحضارات بات مرهونًا بمدى التمايز الهوياتي العرقي، فإن أقدر الحضارات على البقاء، هي أقدرها على التعبير الثقافي عن هويتها الجامعة والمتمايزة من حيث –اللغة، العادات والتقاليد، الأرض، الثقافة، الاعتزاز الحضاري-. ولعل هذا العنصر “التعبير الثقافي عن الهوية” هو ما من شأنه أن يبرر اضمحلال العديد من الحضارات الأخرى رغم كونها قوية ومستوفية لجميع مقومات الحضارة كـالحضارات الفرعونية، الأشورية، البابلية، الرومانية، وبقاء البعض الآخر كالقبطية والكردية والأمازيغية التي هي موضوع التحليل.
وعلى الرغم من النجاح المبهر الذي حققته الهوية الأمازيغية في البقاء وسط متغيرات التاريخ الهائلة والكثيرة، إلا أنها وفي حقيقة الأمر تواجه تحديات عميقة وجوهرية وعلى قدر كبير من الأهمية بمكان أن تحدد مستقبلها كحضارة وثقافة في شمال أفريقيا. ومن جملة هذه التحديات، تبرز إشكالية النضال الأمازيغي ما بين أممية مغاربية وقوميات وطنية متناثرة. والتي سنحاول من خلال هذا المقال الاقتراب منها وتعريفها.
النضال الأمازيغي في شمال أفريقيا.
إن النضال في سبيل الهوية الأمازيغية هو نضال شعب بأسره، طالما ارتبط بوجود هذا الشعب وتعبيره عن ذلك من خلال الثقافة والحضارة، هذا بالمفهوم العام للنضال. أما بالمفهوم الدقيق للنضال –في ظل المؤسسات المدنية- فإن جذوره الأولى تعود لفترة ما بعد الاستعمار الغربي (الفرنسي تحديدًا)، وبروز الدولة الحديثة بشمال أفريقيا وقومياتها المتعددة التي بنيت على العروبة والإسلام؛ وإقصاء المكونات الأخرى “كالأمازيغية” إقصاء هوياتي وعرقي، وولدت فضلاً عن ذلك آليات من شأنها القضاء عليها وطمسها.
هذا النضال من أجل القضية الأمازيغية، الذي، مما لا شك فيه، أنه تولد كرد فعل طبيعي على الإقصاء الممنهج الذي مورس في بلدان شمال إفريقيا من طرف القوميين العرب والإسلاميين من خلال استغلال مؤسسات الدولة وأذرعها الإعلامية والثقافية، فإنه وعلى الرغم من جميع الإرهاصات التي واجهاتها الحركات النضالية المدنية –غير المسلحة- وغير الإقصائية؛ فإنها وعلى مدار العقود الأخيرة حققت العديد من الانتصارات التي مكنت –دون أية مبالغة- من إحياء الهوية الأمازيغية وبعث الروح فيها لتصبح بذلك نموذجًا متميزًا يكاد أن يكون متفردًا على مستوى العالم، كحضارة تنتمي لما قبل التاريخ تستمر في الوجود والحضور حتى القرن الواحد والعشرين. ومن جملة تلكم الانتصارات الهامة على المستوى المؤسساتي نذكر:
- تصفية القضية الأمازيغية من الرواسب الفكرية السلبية كلفظ “بربر”، والسمو بها إلى مصاف القضايا الإنسانية العادلة المدافعة عن الحرية والكرامة والديموقراطية.
- إدراج الهوية الأمازيغية ضمن أجندة المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، اليونيسكو، المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
- ترسيم اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في كل من المغرب سنة 2011، وفي الجزائر لغة وطنية عام 2002 ولغة رسمية سنة 2016.
- إدماج اللغة الأمازيغية في كل من مجالات الثقافة، التربية والتعليم والصحافة.
- الاعتراف الرسمي بالتقويم الأمازيغي وترسيم رأس السنة الأمازيغية كعطلة وطنية مدفوعة الأجر بالجزائر.
- إنشاء المحافظة السامية للغة الأمازيغية في الجزائر، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب.
كل هذه المكتسبات الهامة وغيرها العديد وبخاصة على المستوى الاجتماعي مكن القضية الأمازيغية من التعبير المتجدد عن وجودها عرقيًا وثقافيًا بكونها مكونًا أصيلاً لا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة. إلا أن الملاحظ في قضية النضال من أجل الأمازيغية أنه يعاني من قصور في العديد من المقومات، والتي من أهمها المعيارية والتشتت القومي أمام واقع يفرض أممية أمازيغية على مستوى شمال أفريقيا.
التشتت القومي في النضال
على الرغم من النجاحات الكبيرة التي بلغتها القضية الأمازيغية في بلدان شمال أفريقيا، إلا أنها تعاني من قصور كبير من حيث تشتت هذا الجهد النضالي؛ فهذا التشتت الذي يظهر جليًا في العمل غير المنسق ما بين بلدان شمال أفريقيا أدى إلى ظهور تفاوتات كبيرة فيما يخص القضية الأمازيغية من بلد لآخر. فنلاحظ وجود نجاحات وتقدمًا كبيرًا في كل من الجزائر والمغرب، يقابله ضمور وتراجع كبير في بقية البلدان على غرار تونس وليبيا؛ ففي الحالة التونسية وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة شهدت ثورة شعبية في العام (2011) تمخض عنها تأسيس لنظام سياسي ديمقراطي، إلا أن الدستور الديمقراطي –الجديد- ومؤسساته الحديثة أقصيا البعد الهوياتي الأمازيغي في هذا البلد
كذلك هو الحال في ليبيا القذافي التي قامت على مر عقود طويلة بإقصاء الهوية الأمازيغية واعتبر النضال من أجلها فعلاً إجراميًا، والحال لم يختلف كثيرًا في ليبيا ما بعد القذافي؛ فعلى الرغم من بروز بوادر النضال من أجل الأمازيغية وخاصة على مستوى القبائل، فالملاحظ أنها لم ترتقِ بعد إلى مستوى مؤسساتي، وإن تم الإشارة إليها في قليل من المناسبات، فذلك دائمًا ما يكون مرهونًا بحسابات الاستقطاب السياسي بعيدًا عن النية الجادة لترقية الأمازيغية.
هذا التشتت في النضال على مستوى القوميات وما ترتب عليه من تفاوتات في مستوى ترقية الأمازيغية في بلدان شمال أفريقيا، لا يعكس قصورًا في النضال وحسب؛ بل يتعدى ذلك ليتعمق بالقدر الذي يصبح عاملاً من شأنه تهديد مستقبل الهوية الأمازيغية في شمال أفريقيا.
الضرورة المعيارية
المقصود بضرورة معيارية النضال يتجلى في مستويين أساسيين؛ يتمثل الأول في ضرورة التنسيق ما بين القوميات الأمازيغية المشتتة في البلدان الأمازيغية، وهذا ما سنتطرق إليه في العنصر الآخر. أما الثاني فيتمثل في ضرورة التوجه نحو توحيد معياري لمكونات الثقافة الأمازيغية، وذلك للحفاظ على وحدة الهوية وتلافي تمييعها ضمن قوميات متعددة.
وعديدة هي عناصر الهوية، والتي هي معنية بالمعايرة أكثر من غيرها، نذكر أهم عنصرين يفرضان نفسهما بشدة على الساحة الثقافية في الوقت الراهن وهما:
اللغة: تعاني الهوية الأمازيغية –من الناحية المؤسساتية- من انعدام معيارية اللغة، وعدم الاتفاق على قاموس جامع للهجات والألفاظ الدلالية المختلفة؛ سواء من الناحية النحوية أو اللغوية. هذا ما من شأنه أن يشكل خطرًا على استمرار هذه اللغة. وما نلاحظه على الأقل في البلدين المتقدم ذكرهما فيما يخص ترقية الأمازيغية (الجزائر والمغرب) ، أن الأولى ذكرًا؛ وعلى الرغم من ترسيم الأمازيغية وادراجها في المنظومة التربوية إلا أنها لم تستقر بعد على حرف واحد تكتب به هذه اللغة على الرغم من وجود الحرف الأمازيغي الذي حافظ عليه “الطوارق” في الصحراء الأفريقية، وفي هذا الشأن أوكلت مهمة اختيار الحرف المناسب لكتابة اللغة للمحافظة السامية للغة الأمازيغية التي سترجح بين ثلاثة حروف هي (اللاتينية، العربية، التفيناغ) إلا أننا نرجح الأخير ذكرًا لما له من حمولة ثقافية ومن معيارية لغوية تؤكده بعض من الدراسات العلمية؛ إلا أن الفصل النهائي من طرف المحافظة لم يصدر إلى غاية كتابة هذا المقال. في حين أن المغرب استقرت على حرف (التفيناغ) باقتراح من المعهد الملكي للأمازيغية وبات معمولاً به رسميًا من طرف المؤسسات وبخاصة التربوية منها.
إن حالة اللا معيارية هذه وخاصة بين دول شمال أفريقيا، من شأنه أن يحول عائقًا دون تقدم هذه اللغة. وأن التخوفات في هذا المجال يكمن في الافتراض القائم والقوي الذي يفيد بأن من شأن التجاذبات السياسية ما بين البلدين (الجزائر والمغرب) أن يلحق الضرر بالقضية الأمازيغية؛ خاصة مع تعزيز وتعميق الخلاف من باب المناكفات السياسية.
العادات والتقاليد: مع أنه من الطبيعي إلى حد بعيد أن تتنوع وتتعدد العادات والتقاليد داخل البلد الواحد وما بين البلدان المختلفة، إلا أن هناك من الرموز الثقافية التي تدخل ضمن صميم العادات والتقاليد المؤسسة للهوية ما لا يتحمل الخلاف حوله؛ فقضية التقويم الأمازيغي هي من النقاط الإيجابية التي تم التوافق عليها على الأقل بين البلدين (الجزائر والمغرب) والفضل في ذلك يعود للمعهد البربري الجزائري الذي أسس للتقويم الأمازيغي –العد- من نقطة تاريخية تعود إلى أزيد من ألفي سنة قبل الميلاد احتفاء بالفترة الذهبية –وهو نسبي- الذي حكم فيها الملك الأمازيغي شيشناق. إلا أن تحديد رأس السنة الأمازيغية أو ما يعرف بيناير هو ما نجد فيه اختلافًا غير مبرر حوله في كلا البلدين. ففي حين تثبت الجزائر تاريخ الثاني عشر من يناير كرأس للسنة الأمازيغية –والذي هو يوم وطني رسمي- تثبت المغرب اليوم الرابع عشر من يناير كرأس للسنة الأمازيغية –لم يرسم بعد-. هذه التجاذبات وغيرها من المتفرقات فيما يخص التعبير الثقافي كلها تحديات وإشكاليات من شأنها العمل على تمييع العادات والتقاليد، ليس ذلك فحسب، بل من شأن هذه الدلالات أن تؤثر سلبًا في عمق الوحدة الحضارية والثقافية للشعوب الأمازيغية بشمال أفريقيا.
نحو نضال أممي من أجل الأمازيغية
إن مستقبل القضية الأمازيغية المعزز بتاريخ عريق من النضال الجاد والخلاق الذي حقق الكثير من المكتسبات وبذلك الاحترام والتقدير، أصبح مرهونًا بمدى قدرته على الاستجابة للتحديات الراهنة، والتي من أهمها قضيتا المعيارية والتشتت الأممي للشعوب الأمازيغية؛ حيث إن هذه التحديات أصبحت تشكل تهديدًا صريحًا لبقاء ونمو الهوية الأمازيغية وضمان بقائها لقرون أخرى من الزمن. ومن شأن التوجه نحو أممية أمازيغية أن يحول دون تعميق هذه الإشكاليات وحلها بشكل نهائي. فالمقصود بالأممية الأمازيغية؛ أنه يتعين تشكيل كيان ثقافي مؤسساتي عابر للحدود ما بين الدول الأمازيغية بشمال أفريقيا، وأن يكون ممثلا من طرف كل هذه البلدان من أجل ضمان الوحدة الثقافية للشعوب الأمازيغية، وكذا العمل على التكفل بمعيارية التعبيرات الثقافية الخاصة بالهوية الأمازيغية، والوقوف كجهاز مناعي ضد أية تحديات من شأنها الإضعاف من البنية المتماسكة للقضية الأمازيغية.
ومن جملة تلكم الآليات التي من شأن هذه المؤسسة الأممية أن تعمل عليها هي:
- التوحيد المعياري للغة، واستصدار قاموس أمازيغي شامل لكافة اللهجات والألسن.
- توحيد مظاهر التعبير الثقافي على غرار التقويم الأمازيغي والعمل على ترقية الثقافة الأمازيغية من خلال العناية بجميع مكوناتها المادية واللامادية.
- التمثيل الأممي للأمازيغية حضارة وثقافة في عالم شديد التنوع والاختلاف ضمن مبادئ الديمقراطية واحترام التعددية.