اضطرابات الشخصية النرجسية هي اضطراب نفسي، تم تحديده لأول مرة من قبل الطبيب النفسي الفرنسي بول كلود راكاميير. وصف “راكاميير” (1961)، شكلاً معينًا من أشكال الانحراف، واهتم بالبحث حول هذا المرض النفسي والذي سيطور فيما بعد مفهوم الأمومة في الرعاية العلاجية. وفي عام 1989، ميز راكاميير بين الشخص الأوديبي والشخص غير الأوديبي، وطور بهما نظريته (1992: “عبقرية الأصول“) يقول راكاميير في هذا الصدد:
“تُعرَّف الحركة النرجسية المنحرفة أساسًا بأنها طريقة منظمة للدفاع عن النفس من كل الألم والتناقض الداخليين، وطردهم والتنفيس عنهم خارجًا مع الإفراط في تقدير الذات، كل ذلك على حساب الآخرين”
ويحدد راكاميير هنا أنه يتحدث عن جزء من قضية جماعية بعيدًا عن كونه فرديًا أو داخل النفس. وبالتالي، فبالنسبة له لا يصف كيانا سريريًا نفسيًا أو تحليلاً نفسيا، بل «حركة نرجسية ضارة» من خلال مفاهيم التحليل النفسي المتمثلة في الانحراف والنرجسية. لم يكن الانحراف النرجسي اضطرابًا سريريًا معترفًا به على خلاف اضطراب الشخصية النرجسية – مثلا – الناجم عن الغياب أو التأخير في تطوير قدرات التعاطف خلال مرحلة الطفولة.[1] وقد تجسدت هذه الفكرة من قبل ألبرتو إيجوير في عام 1989 في كتابه: Le Pervers narcissique et son complice
تعد انحرافات الشخصية النرجسية واحدة ضمن عشرة اضطرابات للشخصية ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات 2000، وهو من أخطر الانحرافات في العصر الحالي وذلك لتأثيراتها السامة على المحيطين بهذه الشخصية، إلى جانب صعوبة التشخيص، فهذه الفئة إلى جانب أنها تعطي تشخيصات خاطئة عن نفسها وتقنع ضحاياها أنها تعاني من اضطرابات نفسية أخرى غير اضطراب الانحراف النرجسي، حتى يتسنى للضحايا المغفرة والمضي قدمًا في مسار العذاب اللانهائي، فإنها تصل إلى قدرتها على خداع -حتى معالجها النفسي- وذلك بإعطائه وقائع خاطئة كي يكون التشخيص خاطئًا.
- هذا المقال سيتطرق إلى الشخص ذي الانحراف النرجسي في العلاقات العاطفية، وسنخصص المقال للذكور، نظرًا إلى شيوع هذه الاضطرابات في صفوفهم ونلحقه بجزء آخر يخص طرق الوقاية والتعافي.
الشخصية النرجسية
تنتشر الانحرافات النرجسية في العصر الحالي بسبب مظاهر التفكك الأسري ونمو مظاهر الفردانية والتمحور حول الذات، وتحول الخلاص إلى خلاص فردي في معارك الحياة الخاصة، ورغم أن أسباب هذا المرض مازالت غير معروفة؛ إلا أنه عادة يعود إلى بعض السلوكيات الوراثية والبيولوجيا العصبية للطفل، وعادة ما يشترك حاملو اضطراب الشخصية النرجسية في جملة من الخاصيات، لعل أهمها الطفولة التعيسة أو سوء المعاملة في الصغر، فكل حاملي هذه الصفات عاشوا في وسط أسري متفكك؛ قد يكون أبًا وأمًا منفصلين، أو عاين في طفولته مظاهر العنف داخل الأسرة؛ كاعتداء الأب على الأم أمام أعين الأطفال، أو أنه تم معاملتهم بشكل سيء في فترة الطفولة، وتم تمييز أخوتهم وأخواتهم عليهم وسلط عليهم العنف الذي قد يعد عاديًا بالنسبة للأولياء، لكن آثاره تبقى تلاحق الطفل وتضرب شخصيته وثقته بنفسه في فترة بناء الشخصية، فيدخل الطفل في سباق مع نفسه ليحاول أن يثبت أنه متميز، وأنه لا يستحق تلك المعاملة القاسية والدونية، ولذلك نجد أن غالبية حاملي هذه الاضطرابات متميزون في دراستهم وأكملوا تعليمهم في فترة قياسية بتقدير عال، ويحصلون في عملهم على المراتب العليا دائما، وعادة يقضي حاملو هذا الاضطراب بقية حياتهم في محاولة إثبات أنهم الأفضل والأهم، وأنهم ذوو الاختلاف الذين لا يشبههم أحد، وذلك بشكل تنكري خفي.
وقد يلجؤون إلى تقنية التضاد العكسي؛ كأن يقول هذا الشخص أنا شخص سيء، وأسوء وأتعس شخص قد تتعرف عليه. هذه الاعترافات العكسية مهمة لدى حامل هذه الاضطرابات، لأنها تحفز تواجد هذا الشخص في حيز ذاكرة الضحية، بالإضافة إلى أنها تعد تقنية صمام أمان في حالات الخلاف، فتكون الإجابة: “قلت لك منذ اليوم الأول إنني شخص سيء ومعقد ومريض، كما قلت لا تنتظر مني شيء بالمرة“
كل هذا وأكثر الذي يلخص مأساة حامل هذا الاضطراب الذي لا يستطيع أن يثق بأحد ولا يستطيع أن يحب أحدًا؛ فالطفل الذي تمت معاملته معاملة سيئة من قبل الوالدين يقول له عقله الباطن:
“إذا كان والدك قد عاملك معاملة قاسية وتخلى عنك وأنت من لحمه ودمه؛ فكيف لشخص آخر أن يحبك، وحتى إن أحبك سيتخلى عنك حتمًا، وسيخونك، وسيختار حياته ونفسه في نهاية المطاف حتما”
تدعم هذه الخواطر بقصص المحيطين به من قصص حب انتهت نهايات مأساوية بطلاق أو أذى، وعليه، يختار حامل اضطراب الشخصية النرجسية المنحرفة ضحاياه خيارًا استراتيجيًا؛ فهو لا يختار ضحية ضعيفة منعدمة الشخصية، لأن ذلك لا يضمن له التشويق والسعي في السيطرة وتدفق الأدرينالين في المخ الذي يحتاجه، وتجعل الحرب غير متكافئة، لكنه أيضا لا يختار شخصية متسلطة ولا يمكن كبح جماحها، فهو يختار منزلة بين المنزلتين، أو لنقل شخصية تميل للثورية، ليضمن المسار الذي يريد فيه السعي للسيطرة على الضحية بالتدرج، ولتكون الحرب متكافئة ويضمن فيها الفوز بأي شكل من الأشكال .
وفيما يلي سنحاول شرح وتشخيص أهم صفات اضطرابات الشخصية النرجسية في العلاقات العاطفية حسب تدرج الوقت الزمني داخل العلاقة
المرحلة الأولى في العلاقة أو وضع البداية
تشعرك هذه المرحلة أنك ملكة الكون، موجات عاطفية عالية لم تصادفي مثلها من قبل، تجعل مجرد المقارنة بينه وبين غيره مزحة ثقيلة الظل، هيجان عاطفي يزعزعك ويشعرك أنك في قمة العالم، وهنا لن تسطيعي أن تتخيلي مع شخص آخر. حسب العلماء فإن المنحرف النرجسي يأتي إلى الضحية في شكل فارس الأحلام الذي لا يشبه أحدا غيره. وتمتد هذه المرحلة إلى شهور حوالي 6 أشهر، وتتغير من شخص إلى آخر حسب طبيعة الشخص، ودرجات المرض بين النرجسي العادي والخفي.
المرحلة الثانية: الارتداد
البرود والتجاهل، الاتصالات اليومية والاشتياق والاهتمام، كل ذلك يخفت ويبرد لتصبحي أنتِ المبادرة بالسؤال وطلب اللقاء، هذه المطالبات تحبسك في قمقم عميق وتشعرك بالإحباط، لتبدأ بعدها الخلافات والمشاجرات والإحساس بالبؤس والتعاسة؛ وتشعرين أنكِ تتعاطين علبتي سجائر كل يوم، ثم فجأة تصبحين تتناولين سيجارة واحدة في اليوم، فيتوتر الجسم ويطالب أكثر بنصيبه من النيكوتين، ويصبح التشنج أمرًا مفهومًا واقتراف الخلافات أمرًا عاديًا.
إنه يقوم بعملية الارتداد ليتأكد من نسبة إدمانك له، لكنه يكون موجودًا بطريقة يضمن بها الانجذاب من ناحيتك، ولا ينصرف نهائيًا لتشرع أنت في النسيان، إنه يحدد الكيمياء المناسبة جدًا للإدمان ويترككِ معلقة في منتصف الأشياء، أنت هنا تشرعين بالضياع والتيه وآلاف الأسئلة التي تقرع عقلك وتجعلك مشتتة وعلى عتبات الاكتئاب: هل كف عن حبي؟ هل أرحل ليشعل بمكاني؟؟ لكن ماذا لو نسيني إذا ابتعدت وكون علاقة أخرى؟ هل أقترب منه أكثر ؟ لكن ماذا لو شعر أنني بلا كرامة وأنني أخنقه؟ هل سيكرهني أكثر؟ هل أترك له مجالاً حرًا للتفكير في علاقتنا؟
كل هذه الأسئلة ليس لها إجابة مع النرجسي للأسف؛ بل بالعكس؛ فإن تصرفاته وأجوبته المتناقضة لا تريحك، بل بالعكس تفتح الباب لأكثر من احتمال، وآلاف الأسئلة الأخرى مما يسبب إرهاق الضحية النفسي ويصبح القلق جزءً من يومك في هذه العلاقة.
المرحلة الثالثة: العزل عن الأصدقاء
حين يتأكد من ارتباطك العاطفي له ويشعر أن نسبة النيكوتين مناسبة للإدمان، يبدأ في الانزعاج من أصدقائك والمحيطين بك، يزعجه كونك شخصًا محميًا ومحاطًا بشبكة علاقات كبيرة، يزعجه كونك جميلة ومستقلة وسعيدة، والخطوة التالية للسيطرة عليكِ هي عزلك عن عالمك وأهمهم أصدقائك المقربين، يبدأ عادة بالذكور بدعوى الغيرة، ثم إذا نجح في هذه المرحلة ينتقل إلى إفساد علاقاتك بالبقية ليصل أخيرًا إلى العائلة (تأتي هذه المرحلة عادة بعد الزواج)، الهدف من عزلك عن أصدقائك هو إحباطكِ أكثر ليصبح هو جوهر وجودك، وليتأكد أنه في حالة أنه إذا ما آذاك أو أساء إليكِ أو خانك أو أحبطكِ أنك ستسقطين في بئر العزلة والوحدة، وأنك ستعودين إليه في كل مرة رغم الأذى، هذه المرحلة تصعد الخلافات لدرجة الإيذاء النفسي، ولن يتردد في إيذائك جسديًا في بعض الحالات.
ستبررين أن هذا بدافع الحب والغيرة، وفي وقت لاحق سيعجبك الأمر ويصبح العنف النفسي والجسدي جزءً من العلاقة، وتشعرين بالإحباط لأن استقرار العلاقة يشعرك بأنه كفّ عن حبك، ويصبح العنف دليلاً على الحب، لأن الاستقرار يصاحبه برود لا يمكنك تحمله، وهبوط كبير في نسبة النيكوتين، تشبه هذه الحالة إلى حد كبير متلازمة ستوكهولم في التعاطف مع الجاني من طرف الضحية، ثمة جزء كبير داخلك يبرر له ويتعاطف معه بشكل لا مبرر، وليس له تفسير، إنها خدعة من عقلك الباطن الذي خزّن بصفة مسبقة أنه شخص له ماضٍ صعبٌ، وهو يتفاعل مع الوضعية الحالية على أنه ضحية وليس بمذنب، لكن لا شيء يبرر تحملك للأذية.
المرحلة الرابعة: تقنية الصمت العقابي
وهي من أصعب المراحل التي تمر بها الضحية هي فترة الصمت العقابي، حين ترفضين طلبه في قطع علاقتك مع أصدقائك، أو ترك العمل أو نشاط معين، يتركك ببساطة ليسقط العبء عليك؛ إذ أنت المذنبة، ويدخل في فترة صمت عقابي.
تدخل الضحية إلى دائرة القلق المزمن وجلد الذات، والمراقبة عن بعد، سيختفي من مواقع التواصل الاجتماعي، ويمتد الصمت إلى شهور (مختلف حسب الشخص)، تتخلل هذه الفترة رسائل تحفز العقل الباطني للضحية، ويشبه الأمر نفس المثال السابق، حين كنت تدخنين علبتي سجائر ثم تواجدتِ في مقهى يعج بالمدخنين، حيث رائحة السجائر تشعركِ بالجنون، ورغم ذلك فأنت لا تستطيعين التدخين ولا طلب سيجارة، رغم أنك من الداخل تريدين النيكوتين بشدة، هذه الرسائل تعزز إحساس الضحية بأنها أخطأت في حقه، ويعزز القلق، ويصل التوتر إلى مرحلة الانهيار النفسي بتقدم الفترة وصولا إلى الاكتئاب المزمن، ومهما كنتِ واثقةً من نفسكِ، فالنرجسي سيضرب هذه الثقة بأي شكل، ولن يتردد في وصفك بالمريضة النفسية، وهذه العملية تعزز ثقته بنفسه كمحور للعلاقة، وتعزز الارتباط العاطفي بالشخص المسيء (متلازمة ستوكهولم).
في هذه المرحلة تكونين أنت قد كففتِ عن المقاومة وأصبحت ضعيفة إلى درجة أنك ستقبلين بالعودة بالشروط التي وضعها هو، رغم أنها شروط لا منطقية، ستشعرين بالتعاطف معه وتبدئين بتذكر القصص الحزينة التي حصلت له في طفولته، التي كان قد سردها عليكِ أثناء فترات الرخاء في علاقتكما، وتشعرين بالفخر أنه أخبرك بهذه التفاصيل المربكة، (لا تقلقي؛ إنه يقص على الجميع نفس القصص ليضمن التعاطف بعد الإساءة).
أنت الآن عالقة وتشعرين بعدم الاتزان، وأنه لا يمكنك التجاوز. فإذا شعرتِ أنك في هذه المرحلة؛ فذلك ليس سوى مجرد بداية يا عزيزتي.
أنت الآن ضحية لشخص نرجسي، ومازال أمامك الكثير من الإهانات والحط من الذات، والكثير من القلق والاضطراب والعزلة، وبعد وقت قصير ستتحولين إلى شخص وحيد بائس مضطرب نفسيًا على حافة الجنون، لكن تكمن المشكلة في توصيف هذه الظواهر على أنها إشارات حب عادي.
العودة: البداية مجددًا
تكون العودة بنفس المرحلة الأولى، الكثير من الحب والسعادة والتخدير العاطفي، لدرجة أنك تلومين نفسك على الأيام التي قضيتها بعيدة عنه، ويتجدد هج من السعادة وتشعرين أنك أكثر سعادة وأن الحياة بدونه جحيم (أنت الآن عدتِ للمرحلة الأولى) قليل من الوقت ويبدأ البرود والمشاجرات، ثم إلى العزل، ثم الصمت العقابي مرة أخرى وهكذا.
إنها دائرة لا تنتهي من الإجهاد النفسي والإحباط، وهناك تقنيات أخرى متطورة يستعملها النرجسي وتتطور مع تطور الدائرة وعمقها، وكلما تعمق الأمر تتكثف التقنيات الجديدة وتصبح أشد قسوة وإيذاء
سنلحق هذا الجزء بجزء آخر حول طرق الوقاية والتعافي