“الخيال أهم من المعرفة؛ فالمعرفة محدودة حول ما نعيه ونفهمه، بينما الخيال يشمل العالم وكل ما سيكون هناك لنعيه ونفهمه مستقبلا”
عبر هذه الجملة المنسوبة لعالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين، يفتتح الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن كتابه “الخيال السياسي”، مشيرَا إلى أن أحد أسباب الأزمات الرئيسية من التي تعيشها الشعوب العربية هو غياب الخيال السياسي.
الكتاب الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، يحتوي على ستة فصول تتناول الخيال السياسي وأهميته، والسياسة كخيال بين الإبهام والإيهام، ومنابع الخيال السياسي، وسبل تنميته، والمعوقات التي تحول دون تطوره، ومجالات توظيفه، ونماذج للتخيل السياسي من مختلف التجارب والثقافات والاستراتيجيات.
يتساءل الباحث المصري عن دور “الخيال السياسي” في المجتمعات العربية، مشيرًا إلى أن الخيال الذي يقصده لا يعني الشرود في الأوهام، أو الضلالات أو استلهام الخرافات والأساطير، وإنما هو التنبؤ العلمي بما سيأتي بعد فهم ما جرى، وتحليل ما يجري، وفق منهج منضبط دقيق مع إعطاء فرصة قوية للتأمل والبصيرة في استبطان الأمور، “وأن فقر الخيال السياسي في الحياة العربية العامة من العناصر الخفية التي ساهمت في تردي الأحوال على هذا النحو، والفجوة التي تتسع بيننا وبين الغرب لا تقتصر على التقنية والحداثة فقط؛ إنما الخيال السياسي أيضًا”. موضحًا أنه يستحيل التقدم في العيش بلا خيال، فهو الطاقة السحرية التي تقود الإنسان إلى التمرد على واقعه، والتحرك خطوات مستمرة نحو الأمام، وخوض مغامرات لا تنقطع في سبيل تحسين شروط الحياة. الخيال وراء كل شيء في حياتنا؛ الاختراعات العظيمة والأفكار العميقة والأعمال الفنية الرائعة والإجراءات الفعالة التي نضع أقدامنا عليها لحل المشكلات، ونعبر المآزق، ونتجاوز الأزمات .
ويضيف: “الوعي السائد في الفكر العربي هو (الوعي الإذعاني) الذي لا يرى في الخيال والتغير والتطور سوى بدعة تؤدي إلى الضلال، “هذا النوع من الوعي لم يقف عن حدود قطاعات جماهيرية دون أخرى، أو نخب دون سواها، بل كثيرون استسلموا لأقدار توهموها أو صنعوها، وخافوا من التغيير فرضوا بالمتاح على قلته وضآلته وتهافت فحواه وتدني جدواه. لقد عاشت أنظمة سياسية عديدة بلا أدنى قدرة على التوقع، ولو كان لديهم بعض خيال سياسي، لربما تجنبوا ثورات وانتفاضات أطاحت بهم”.
يعتمد “عمار علي حسن” في بنائه للكتاب على التساؤل والنقاش المفتوح مع القراء كخطوة أساسية وممارسة فعلية للخيال والتفكير والبحث؛ فلسنا بصدد بحث يقدم إجابات مطلقة وأحكام نهائية؛ بقدر ما نحن أمام مجموعة من التساؤلات والرؤى والاجتهادات منطلقة من مفهوم الشراكة الفعالة في إنتاج المعرفة؛ فالقارئ هنا ليس متلقيًا سلبيًا للمعرفة، بل شريكًا وفاعلاً رئيسًا في إنتاجها.
إن المجتمعات لا تتمايز بما تنتجه من أعمال فنية وصناعية فحسب، وإنما تتمايز بالأحلام المشتركة أيضًا
عمار على حسن Tweet
في الفصل الأول من الكتاب بعنوان “معنى الخيال السياسي وأهميته” يستعرض الكاتب تعريفات الخيال في الفكر العربي والغربي، ويركز على تعريفين محددين لمصطلح الخيال السياسي. أولهما عام معنيٌ باستيعاب الواقع والقفز إلى ما وراءه، والآخر خاص، ويتمثل في مدى قدرة القيادات السياسية على طرح بدائل لحل المشكلات التي تعترض النظام السياسي، والتخطيط للمستقبل، والقدرة على تلبية حاجات الشعب وطموحاته.
يربط عمار الخيال السياسي بالوعي بالمستقبل والنزعة إلى تحسين شروط الحياة وتقدم الإنسان إلى الأمام، وهذا مناط أخلاقية هذا النوع من الوعي، مشيرًا إلى أن نمو الوعي بالمستقبل يوسع إدراكنا ومخيلتنا، ويساعدنا على «التفكير الممكن» بما يؤدي إلى تمديد وتوسيع عالم الأفكار والحقائق، ويعزز تطوير العمليات الإدراكية العليا، وفي كل هذا ما يعزز الخيال الإنساني بصفة عامة، والخيال السياسي بصفة خاصة.
موضحًا أن المناهج التقليدية المتعارف عليها في العلوم الاجتماعية والسياسية قد لا تصلح في التعامل مع مفهوم “الخيال السياسي“، لذلك يختار أن يتعامل مع “الخيال السياسي بوصفه “منتجًا ثقافيًا” ساردًا عدة أسباب لذلك، منها:
أنه يخضع لقدرة الفرد على الإبداع وإمكانية المؤسسة على الخلق والابتكار، وفي كلتا الحالتين فإن ثقافة الفرد أو المؤسسة تمارس دورًا في تحديد مستوى الخيال وعمقه واتجاهه وغايته، وكذلك لأن التحليل الثقافي يتجاوز النصوص إلى غاية مبدئية؛ وهي الوقوف على الأنظمة الذاتية في فعلها الاجتماعي، وهذه مسألة تنطبق على ما يتعلق بالخيال.
ويضيف: “بات من المسلم به أن المجتمعات لا تتمايز بما تنتجه من أعمال فنية وصناعية فحسب، وإنما تتمايز بالأحلام المشتركة أيضًا، فإن كانت منشغلة بالمستقبل، وهي تعي دروس الماضي، فإنها تتقدم خطوات واسعة عن مجتمعات منشغلة بإعادة إنتاج الماضي، ولهذا نحتاج الخيال السياسي كي نجعل التاريخ يتقدم إلى الأمام“، مشيرًا إلى الدور الكبير الذي يلعبه الخيال السياسي في عبور الأزمات، وبناء الخطط والاستراتيجيات، والحرب، ومكافحة الفساد، ومواجهة الإرهاب، وتقدير الموقف، وتفادي سلبيات الديمغرافيا السياسية.
في الفصول الثلاثة التالية يتناول الكتاب كيفية تنمية الخيال السياسي وأبرز المعوقات التي تحول دون ذلك مثل:
الاستسلام للواقع، وبلادة صناع القرار، والتحكم البيروقراطي، ونقص المعلومات والاستهانة بها، والجهل بالتاريخ، وتقديس الموروث والتفكير بالتمني وسطوة الأيديولوجيا، محذرًا من تعمد بعض صناع الخطاب السياسي العربي وقطاع كبير من الجماهير إلى استخدام الخطاب الطائفي بين الخصوم السياسيين الذي يقوم على استدعاء المتخيل التاريخي لصراع الطوائف السياسي والديني وقذفه إلى قلب الحاضر، مما يهدد بتداعيات مدمرة في الحاضر والمستقبل.
“عندما يقدم مواطن على الاختيار من بين متنافسين في الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية، من دون أن يكون متقيدًا بالتزام حزبي ما، فعليه أن يتصور، ولو قليلًا، شيئًا عما يمكن أن يفعله مستقبلًا أي من المتبارين الذي يتحير في التفضيل بينهم، وعندما يكون بصدد فعل احتجاجي ضد السلطة، عليه أن يعمل الخيال حتى لا يقفز في الفراغ، فالكل يحتاج الخيال، ولولا الخيال لبقي الجميع واقفين مكانهم، دون أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام”.