في أواخر عام 1890، جاء إلى العاصمة المصرية القاهرة، رجل من كروسكو، التابعة لمحافظة أسوان “أقصى صعيد مصر”، يدعى إبراهيم الغربي، كان والده يعمل في تجارة الرقيق المحرمة منذ 20 عامًا قبل التاريخ المذكور، وبدأ الابن حياته في دنيا الدعارة بافتتاح بيت للبغاء العلني، في شارع يسمى “وابور المياه” بمنطقة بولاق، ولم تمض أيام قليلة حتى ذاع صيته، وأصبح يمتلك آلاف الجنيهات، ومنذ هذا الحين عرفت مصر ما يسمى بـ”القواد” في عالم البغاء.
وظائف القواد في مجتمع البغاء
يتحدث الدكتور عبد الوهاب بكر في مؤلفه “مجتمع القاهرة السري (1900 – 1951)” عن إبراهيم الغربي، قائلا: “في عام 1896، استأجر منزلًا كبيرًا لتشغيل المومسات، ثم ألحق بنشاطه هذا مقهى بلديًا تعرض فيه الراقصات رقصات خليعة تستفز الغرائز”، مؤكدًا أنه في عام 1912 كان يمتلك 15 منزلا للبغاء في الأزبكية (حي من أحياء القاهرة)، تعمل فيه 150 مومسًا، وأصبح اسمه يقترن بدولة البغاء في القاهرة، وحتى عام 1916 كان يُعرف بـ”ملك الوسعة”.
وبلغت مكانة إبراهيم الغربي في عالم البغاء إلى حد تنصيبه سلطانًا عليه، يكشف عن ذلك الدكتور عماد هلال، في كتابه “البغايا في مصر: دراسة تاريخية اجتماعية 1834 – 1949″؛ إذ يقول إن القوادين والبغايا نصبوه (عينوه) سلطانا على عالمهم بعد الإفراج عنه عام 1918، حين تعرض للاعتقال مع عدد من المخنثين المنتشرين في حي الأزبكية عام 1916، مؤكدا أنهم “ألبسوه تاجًا ذهبيًا مرصعًا بالألماس والزمرد والياقوت، وتربع على عرش تجارة الدعارة والفسق، وحكم مملكته بديكتاتورية صارمة، وكان يسن قوانينه الخاصة، ويشرف على تنفيذها، ويعاقب من يخالفها”.
ويعرف الدكتور عبد الوهاب بكر “القواد”، بقوله: “هو الذي يدير حركة النشاط (البغاء) كله، من خلال جلب الزبائن (العملاء)، وتشغيل العنصر البشري الذي يبنى عليه ذلك النشاط، وإمداد المجموعات البشرية في التنظيم باللوازم التي يحتاجها النشاط من غذاء وملابس وأدوات تجميل وحاجات المعيشة من غذاء وعلاج، وتوصيل للمستشفيات أو أماكن الكشف الطبي، ودفع تكاليف ومصروفات المومسات وتوزيع الأجور”، لافتا إلى أنه كان يخصم المبالغ المستحقة من المومسات المدينات، وتوفير المحامين للدفاع عنهن لو وقعن في يد القانون، والإنفاق عليها في حالة سجنها في بعض الأحوال.
ومن خلال هذا التعريف يتبين أن “القواد” هو الذي كان يقود المومسات ليمارسن نشاطهن في عالم البغاء، ولم تكن القوانين المصرية تعاقبه فيما يفعل حتى عام 1951، إلا على اعتباره “متشردًا” يعيش عن طريق ما يدره البغاء من كسب حرام.
امتصاص دم الفريسة
ويشير مؤلف كتاب “مجتمع القاهرة السري“، إلى أنه ترتب على ذلك أن “القواد” تُرك يعيث فسادًا في ميدان البغاء مستغلاً، متحكمًا، مستبدًا، متعسفًا، متاجرًا بأعراض الناس، يمتص دم فريسته ويبتز مالها، يرسم لها حياة الرذيلة ويستحوذ على ما تكسبه بشتى الطرق، فيمكن أن يتزوجها ويستغل بغاءها أو يخادنها (يصاحبها) لحمايتها، مؤكدًا أنه في مجال الحماية يتسلط على “المومس” ويهددها، ويعتدي عليها ويعدم إرادتها، حتى يجعل منها آلة صماء لا هدف لها إلا إرضاء جشعه و”ملء جيوبه بالمال الحرام”.
وعندما يأتي الحساب المالي، لا يدفع القواد للمومس أجرها كاملاً، بل يستقطع منه نسبًا كبيرة مقابل الخدمات التي يؤديها أو يزعم أنه يفعلها، وقد لا يعطي لها أي شيء بزعم أن نصيبها من الربح قد استهلك في خدمات صحية أو قانونية أو نفقات للملبس أو المأكل أو التزين أو المفروشات أو الأثاث.
وإذا افترضنا أن “القواد” كان ينفق على المومسات، فإنه في الوقت ذاته حاول قدر الإمكان تقليل هذه النفقات إلى أقل قدر ممكن، يدل على ذلك ما رواه محمد فريدي جنيدي، في كتابه المعنون بـ”البغاء بحث علمي عملي”؛ إذ يشير إلى أن: “الشرطة عثرت أثناء تفتيشها منزل أحد القوادين وتجار الرقيق الأبيض في عام 1923 على أكوام من (الدقة) والبصل، وقدورًا من (المش – طعام في مصر)، لا حصر لها، وتبين أن هذا هو ما يقدمه لمومساته اللاتي يحتجزهن في بيوته المخصصة للدعارة”.
وبعيدًا عن المأكل والمشرب والسكن، هناك قضية أخرى تعد الرئيسية في علاقة القواد بالمومس، هي “الضبط الاجتماعي”، الذي يطبقه الأول في مجتمع البغاء، باعتباره صاحب الدور البارز في هذا المجتمع، والمهيمن على مقدرات الجماعة، والذي لا يخضع أصلاً لأية قيود صادرة عنها، بحسب “بكر” الذي يؤكد: “القواد في مجتمع البغاء لا يراعي أي التزام نحو مجتمعه هذا، لكنه يلزم أعضاء هذا المجتمع بقوانينه التي يستهدف منها استبقاء الجماعة والمحافظة على تماسكها من خلال أعضائها بالانصياع لها وأعرافها”.
ويمارس “القواد” وظيفة الضبط الاجتماعي داخل مجتمع البغاء من خلال التحكم في المصالح الاقتصادية للمومسات، وكما يستطيع أن يسخو عليهن بزيادة فرص العمل (اللقاءات)، فإنه في الوقت ذاته بيده تقليلها أيضًا، وبالتالي ينقص أجرها أو دخلها، وقد يصل به الأمر إلى تدميرها من خلال إبلاغ الشرطة عن نشاطها، أو أهلها عن سلوكها الذي تخفيه، أو إطلاق الشائعات عن إصابتها بأمراض خبيثة تنفر العملاء (الزبائن) منها.
ويتفق المؤلف عبد الله كمال مع الطرح السابق؛ إذ يشير في كتابه “ظاهرة انحلال الصفوة .. القوادون والسياسة – تاريخ البغاء في نصف قرن”، إلى أنه “منذ بدأ تنظيم البغاء في مصر عام 1882، وحتى إلغائه نهائيًا عام 1949، كانت هناك صور عديدة بشعة لاستغلال البغايا من قبل القوادين، ولم يكن هناك قانون مصري يحرم القوادة أو التعيش (التكسب) من البغاء”.
استخدام العنف وقتل المخالفات!
وعلى الرغم من النظرة الدونية لـ”مجتمع البغاء”، إلا أنه مثل أي مجال آخر له قوانينه وقواعده، التي لا يجب مخالفتها، وإذا حدث عكس ذلك تنفذ بالطبع العقوبات على المخالفين، وهنا يقول عبد الله عبد الغني غانم، في كتابه “البغايا والبغاء – دراسة سوسيو أنثروبولوجية”: “ويمكن أن يلجأ القواد إلى استخدام العنف وتوقيع الجزاءات على المومس المتمثلة في شكل عقاب بدني على من تخالف قوانين العمل وقواعده (العمل من خلال القواد – ذكر حقيقة ما تحصل عليه من العميل علاوة على الأجر الذي تقاضاه القواد منه مقدمًا – عدم الاتصال بالعملاء إلا من خلال القواد – عدم العمل لحساب قوادين آخرين)”.
أما عن طبيعة العنف ضد المومسات المخالفات، فيقول الدكتور عبد الوهاب بكر: “يقوم القواد أو القوادة (سيدات متحكمات)، أو مساعديهما من الرجال والنساء بأعمال العنف ضد المومسات اللائي لا ينصعن للقواد أو لقواعد العمل، وتتراوح أعمال العنف هنا بين الضرب المبرح – استخدام الشفرات أو المطاوي (سلاح أبيض) لتشويه وجه المومس، وقد تصل العقوبات التي توقع على المومس المتمردة إلى حد تحريض زميلاتها على وضع مواد كاوية في الأماكن الحساسة من جسم المومس قسرًا (حبات الفلفل الأحمر المطحونة التي تعرف بالشطة)”.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى حد القتل، ففي أحد تقارير بوليس مدينة القاهرة عام 1939، قدم موجز للقضية 648 جنايات قسم الأزبكية كنموذج للعنف السائد في مجتمع البغاء، كالتالي: (أبلغ أحد حضرات مفتشي الصحة أنه يشتبه في وفاة المومس زينب العربية؛ إذ شاهد في جسمها آثار رضوض قد ترجع إلى أسباب جنائية، واتضح من التحقيق الذي أجراه البوليس أن عبد الدايم إسماعيل، خادم الماخور “بيت الدعارة”، الذي كانت تعمل به المومس، قد اعتدى عليها بالضرب بتحريض من صاحبة الدار؛ لأن القتيلة رفضت مقابلة بعض الزائرين بسبب انحراف صحتها، وبعد أن استمر الخادم يضربها مدة ثلاث ساعات توفيت، فنقل جثتها إلى منزل آخر بمعاونة شخص آخر يدعى محمد عيد، ثم تركا به الجثة بادعاء أن القتيلة مريضة”، وفقا لـ”بكر”.
ويؤكد المؤلف أنه حكم على صاحبة الماخور والخادم عبد الدايم إسماعيل بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر سنة، أما الآخر المدعو محمد عيد فحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر ويدعم هذا الطرح الدكتور عماد هلال؛ إذ يقول في معرض حديثه عن إبراهيم الغربي: “جعل من أحد بيوته سجنا، وحوّل غرفه إلى زنزانات حقيقية، وكان يحكم في بعض الحالات بإعدام ضحيته، فتُرمى في غرفة تحت الأرض حتى تموت جوعًا”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في منتصف عام 1924، حكم على إبراهيم الغربي بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة 5 سنوات، لم يستطع تحملها فتوفي في 15 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1926، وفقا لـ”هلال”. ويلخص عبد الله كمال، حياة “القواد” وطبيعة عمله، بقوله: “قد يتسم بالقوة الشديدة، يعتدي بالضرب ويسيء معاملة النساء اللاتي يتعاملن معه، وقد يصل به الأمر إلى الإساءة لهن إذا عصين أمره، أو تشويههن أو حتى قتلهن عقابًا لهن إذا خرجن عن طاعته، وحتى يكن للأخريات عبرة، فهو يلجأ إلى تخويفهن وإشاعة الرعب منه، حتى يستسلمن لأوامره ويطعنه”.
ويشير المؤلف إلى أسلوب “القواد” المتبع للإيقاع بضحاياه: “قد يرسم الوداعة والحب، ويتكلم بكلمات معسولة في أول الأمر حتى يوقع ضحيته، ثم بعد ذلك يكشف الضحية في الخضوع له والاستجابة لأوامره، وطبعا القانون لا يهمه في شيء؛ فهو غالبًا ما يرتكب كل المخالفات القانونية، ولا يقيم وزنا للمجتمع أو للدين، فكل القيم والمثل لا تعنيه في شيء، وقد يتميز بصفات كثيرة تنم كلها عن عدوانية وسوء سلوك”.
العقاب أمر سائد ومقبول!
ويرى عبد الله عبد الغني غانم، في مؤلفه “البغايا والبغاء”، أن استخدام العنف على اختلافه ضد المومس يعد من أنواع الضبط الاجتماعي، الذي يمارسه القواد للحفاظ على استمرار الجماعة وتماسكها، موضحا: “ذلك التماسك يتمثل في الالتزام الصارم بالعمل طبقا لمشيئة القواد، ووفقا لقيم وثقافات مجتمع البغاء، وهذا النوع من العقاب كان أمرًا سائدًا ومقبولا”.
ويؤكد محمد فريدي جنيدي، في كتابه “البغاء بحث علمي عملي”، أنه كانت قمة الذنوب في مجتمع البغاء فشل المومس في إظهار الكياسة والمهارة في جلب العملاء؛ فإذا فقدت العميل فإن عقابها هو الضرب الموجع أو الإيذاء البدني. وبناء على ذلك، كانت المومس تذعن لمطالب البلطجية والقوادين بمجرد تهديدها بتشويه الوجه بالجرح أو إلقاء ماء النار، خاصة أن هذا الفعل يعني فقدها لرأسمالها الذي تعيش به، وتحولها إلى مخلوق مشرد لا يستطيع توفير لقمة العيش.
واستمر الحال على ذلك حتى عام 1949، عندما صدر القرار العسكري بمنع البغاء في مصر، وتبعه قانون رقم 68 لعام 1951، الذي يصفه “بكر” بأنه “علامة فارقة في تاريخ البغايا في مصر”؛ إذ نصت المادة التاسعة منه على معاقبة كل من اعتاد الفجور أو الدعارة، بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن 25 جنيها ولا تزيد على 300، أو بإحدى هاتين العقوبتين.