في نهاية القرن السادس عشر، كان ويليام شكسبير قد نشر رائعته المسرحية “روميو وجولييت، من الكراهية إلى الحب”. القصة التي تضخم من أثر الحب ودوره في حياة البشر على المستوى الاجتماعي والسياسي وكيف يمكن أن تلد الصراعات علاقات حب أسطورية من هذا النوع الذي نراه في مسرحية شكسبير. لتتحول لاحقاً شخصيات المسرحية التراجيدية رمزاً لثنائيات العشق في الثقافة الانجليزية والعالمية وتترك أثرها على مختلف الأشكال الفنية والسينمائية. لكن من جهةٍ أخرى كيف يمكن أن ننظر لهذه القصة وشبيهاتها في الثقافات الإنسانية المختلفة؟.
تحمل كل ثقافةٍ رموزها الأسطورية لثنائيات عاشقة تخلد صورةً ملهمةً للعشاق في الحب، ويستلهم منها الفنانون والأدباء صورهم الفنية وتمتد أثارها لمستوى الاعتقاد والدين وتجسيد نظرة أبناء هذه الثقافة وطبقاتها للعالم. كما تعبر عن نظرة الشعوب الخاصة لمعنى الحب وقيمته.
في روميو وجولييت الانجليزية والتي جاءت مبنيةً على قصة تقليدية فرنسية قبل أن ينسجها ويليام شكسبير في مسرحيته، نجد ذلك العشق المتولد من الصراع، كيف يمكن أن يولد الحب في أحلك الظروف وأصعب الأوساط. إلا أنها أيضاً صورةٌ مختلفة للعشق في وسط الطبقة النبيلة.
شيرين وفرهاد
في الشاهنامه للفردوسي، يذكر المؤرخ الفارسي الفردوسي واحدةً من تلك القصص التي يعتبرها الإيرانيون والأكراد رمزاً للعشق والحب الكامل، ولكن بشموليةٍ أكثر من شبيهاتها في المنطقة العربية أو تلك في رمزية روميو وجولييت. شيرين وفرهاد وشيرين وخسرو، هما قصتا عشقٍ تتقاطعان عند شيرين كجميلةٍ نبيلة يطمح لنيل قلبها ملك وآخر مثقفٌ عاشق وساذج. كتبت القصة في ستة آلاف ومائة وخمسين بيتٍ شعري في القرن الثالث عشر.
كانت شيرين أميرةً أرمنيةً فاتنة يتنافس لنيل قلبها الملوك، أحدهم كان خسرو برويز شاه مملكة بلاد فارس الذي خاض قصة عشقه مع الأميرة الأرمنية شيرين طوال فترة صراعه للوصول للملك. تبادل وشيرين عشقهما منذ اللحظة الأولى التي رأها تستحم فيها في النهر، وحتى تمنعها عنه رافضةً لأن تكون إحدى الجواري التي يستمتع بهن خسرو ثم ينتهي منهن.
ينقلب أحد المطالبين بالحكم على خسرو برويز ويفر خسرو باتجاه قيصر الروم الذي يزوجه ابنته ويرسل معه حملةً عسكرية لاستعادة حكمه على بلاد فارس، فيما تكون شيرين هي الخاسر الوحيد في عشق الملوك. مريم زوجة خسرو الجديدة كانت تكره شيرين، ولذا أرسلتها للعيش في مكان معزولٍ في الصحراء لتعاني فيه، وتتغذى فقط على ألبان الماشية. في هذا المكان كان لها أن تسلب العامي المسكين الذي كان له أن يدفع ثمن جرأته للرؤية أعلى من طبقته. في مكانها المعزول كانت شيرين تقع في منطقةٍ بعيدة عن المكان الذي يقع فيه خدمها وعمالها الذين يحلبون لها الماشية ويزودونها بألبانها، وكانت هذه هي الصدفة التي جمعت المسكين فرهاد بالأميرة شيرين. وقع فرهاد في عشق شيرين منذ أن رأها في أول لقاء للبحث عن حلٍ لمسألة بعد مصدر الغذاء عنها، ليقوم فرهاد ببناء قناةٍ ليمر فيها الحليب لشيرين ويصب في حوضٍ في مسكنها بدلاً من الذهاب إليه وقطع مسافات طويلة في حر الصحراء.
بعد أن أظهر فرهاد ذكاءه في مساعدته لشيرين، عرضت عليه حلق أذنها كمكافأةٍ له ليرفض أخذهما أو أن يأخذ مقابلاً لخدمته لها، وهنا اشتعلت غيرة خسرو ما أن وصله خبر عشق فرهاد لشيرين. عرض عليه الأموال وأراد أن يشتريه، ولكن فرهاد رفض أن يتخلى عن عشقه لشيرين وقربه منها، وهنا اشترط خسرو عليه أن يقوم بشق قناة مياه في جبلٍ يقع في طريق شيرين ليتخلى عن حبه لشيرين ويترك فرهاد ليتزوجها، وهنا قبل فرهاد ذلك.
بعد مضي مدةٍ من عمل فرهاد الذي بدأ عمله بنحت صورةٍ لشيرين على صخرةٍ كبيرةٍ في الجبل، كان خسرو قد دبر مكيدةً آخرى بأن أرسل شخصاً لفرهاد يقول له بأن شيرين قد ماتت بعد أن عانت مرضاً في قصرها، ليقوم فرهاد بالانتحار بالقفز من أعلى جبل بيستون.
كان فرهاد عاشقاً متيماً يتطلع لنيل فتاةٍ دون الأخذ بالاعتبار بمنزلتها ومنزلته وأن شاه بلاد فارس يحول بينه وبينها. ساذجاً وصادقاً في آنٍ معاً مضى متمسكاً في أضعف الآمال التي قد تجمعه بشيرين حتى دفع حياته ثمناً لذلك.
شيرين وخسرو
رحل فرهاد وما لبثت مريم زوجة خسرو أن رحلت هي الآخرى، ليرى شاه خسرو بأن الأقدار تستجيب لرغبته آخيراً في تتويج عشقه وشيرين بالزواج. تزوج شاه خسرو من شيرين بعد عقودٍ قضتها شيرين وحيدةً وقضاها خسرو يتأمل أن تسنح له الحياة بفرصةٍ تجمعه بها من جديد، وهذه المرة ليتزوجها. تزوج خسرو من شيرين ولكن للأقدار أحكامٌ أخرى أيضاً. دفع فرهاد حياته ثمناً لحبه شيرين، وسيدفع خسرو حياته ثمناً لحب ابنه لزوجة أبيه.
كان لخسرو ابنٌ يدعى شيرويه وكان يحب شيرين زوجة والده، كما كان يطمع في الحلول محل أبيه سريعاً، ولذا فقد قام باغتيال والده وهو نائمٌ بجوار شيرين. فيما بعد، شيرين عزفت عن الحزن وأظهرت لشيرويه بأنها تقبلت أن تعيش حياةً جديدةً معه ليطمئن لها ويتركها تشارك في مراسم دفن والده. وبعد عقود من العشق والانتظار قامت شيرين بقتل نفسها في مراسم دفن خسرو برويز على طريقة روميو وجولييت.
قيس وليلى
في المنطقة العربية تحفل القصيدة الجاهلية وموروث العصر العباسي بالكثير من قصص الحب وقصص العشاق الذين يتحولون لمضرب المثل في ذلك، من عنتر وعبلة وحتى قيس وليلى. إلا أن أشهرها التي تحولت لرمزٍ لا يقتصر وجودها على محافل الأدب والطرب، وإنما تجاوزته لتكيات المعابد والمساجد عندما أصبح حب مجنون ليلى مقياساً للعشق الإلهي عند المتصوفة.
قيس بن الملوح العامري ومعشوقته ليلى، تختلف الروايات في سرد النسبة بين الإثنين وهل كانت علاقتهما هي حبٌ من طرفٍ واحد أم أنها عشقٌ متبادلٌ حال بينهما رفض أهل ليلى. يغلب هذه الرمزية في الثقافة العربية الإسلامية تصوير قيس العاشق الذي يقوده عشقه للجنون، ليتخلى عن كل شيءٍ ويذهب طوعاً زاهداً في كل شيءٍ سوى ليلى، ويفتقر لمعنىً لحياته بدونه.
تحول قيسٌ رمزاً للقياس في العشق الإلهي لدى المتصوفة ومضرب مثلٍ لتوصيف عشق قيس بعشقهم لله كلي الوجود. جعلت القصة الرمزية لعلاقة الحب المثيرة للشفقة مصدر إلهامٍ لصياغة فلسفةٍ دينية ألطف في الإجابة عن التساؤلات الوجودية، يتخذها جلال الدين الرومي في كتبه مضرباً للمثل أو أداة قياسٍ يفسر بها المعنى لمحبة الله وعشقه، وتهويناً للخوف منه في قلوب الناس بجعله ليلى وجعلهم المجنون.
ويلتقي قيس بليلى وشيرين بفرهاد وخسرو وروميو وجولييت في تلك النهايات التراجيدية التي تقضي بأن لا علاقة زواج يمكن لها أن تضم عشاقاً من هذا النوع وهذا الكمال. الرمزية الثقافية لمفهوم الحب لدى الشعوب في هذه القصص تقود أبطالها لذات المصير الواحد وعلى نفس وقع هذا المصير في مختلف هذه القصص كتأكيدٍ يستمر عبد الحليم حافظ بغنائه “فطريقك مسدود مسدود مسدود”.
تترك هذه القصص الرمزية التطلعات العاشقة التي تتجاوز الطبقية وحواجزها وتوهم الفتى العامي بوجود أميرةٍ في القصر ستغرم به، لكنها تستشرف النهايات على نسقٍ واحد بالموت دون حدوث ذلك.
انتحر روميو وجولييت بعد خداع كلٍ منهما وإيهام روميو بموت جولييت، وكذلك كانت نهاية فرهاد الذي انتحر ما إن خدعه خسرو بأن شيرين قد ماتت، وكذلك خسرو الذي أفنى حياته يحاول وصولاً لشيرين حتى قتله ابنه أخيراً ثمناً لذلك. قصص فلكلورية تقدم الحب في صيغةٍ لا تكتمل إلا بالموت والخسارة، صورة مثالية من التضحية والعشق الخالص حتى النفس الأخير، لا مكان لها إلا في الأساطير والقصص الحالمة.