في نقاش جرى تحت عنوان المشروع الحضاري العربي وشارك فيه نخبة من المثقفين، تنبأ لويس عوض لعبد الوهاب المسيري أنه سيصبح يومًا “زعيما لليمين الذكي“، ربما من هنا لمع في ذهنه فكرة ربط أطروحته في نقد الحداثة الغربية باليمين، مرت السنون ليتبوأ الماركسي السابق مقعده في قيادة أحد الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وليحرص كل الحرص على تقديم نفسه في مختلف الفعاليات بوصفه المفكر الإسلامي.
رأى المسيري في الإسلاميين الرافعة الأنسب لحمل مشروعه، فجاء نقده للحداثة لصالح رؤية تتحدث عن ضرورة مرجعية يحتل الإله فيها المركز، حتى تنبع منه كل المنظومات الأخلاقية والاجتماعية التي تحفظ للإنسان قدرته على التجاوز، ورغم هذا الطرح الذي يعلن به المسيري انحيازه إلى تيار بعينه، لكنه في حقيقة الأمر لم يقدم إلى هذا التيار ما يستحق به لقب “المفكر الإسلامي“، فهو لم يضف للفكرة الإسلامية أو يطور أي من أبجدياتها، ولا حتى اعتنى بذلك، إنما فقط استعمل أصحابها قاطرة لمشروعه.
وإذا تسللنا إلى مسار اختاره المسيري وعده مُمَهدًا لعبور أطروحته الفكرية إلى الذيوع سنقع على الثغرة الكبرى في ذلك المشروع، حيث قدم رؤيته في نقد الحداثة الغربية لحساب تصور بديل تحكمه مرجعية إلهية، لكنه يقدمه كأنه اختراع جديد يدعونا لاستكشافه، متجاهلاً أن هذه المرجعية حكمت قرونًا طويلة؛ سواء في الشرق أو في الغرب (في ظل حكم الكنيسة)، وأنتجت عالمًا يظلله الاستبداد ويسوده التعصب وتفتك به الحروب الدينية.
بالتأكيد لا يقصد المسيري بطرحه حول المرجعية الإلهية الحكم الثيوقراطي الذي عرفه الغرب، لكن بحسب منهج ألزم به نفسه، يتتبع فيه التطور التاريخي للمجتمع ليستخرج “الكامن”، لم يستخدم ذلك المنهج في إقراره ضرورة المرجعية الإلهية، ولو استخدمه ربما لما ألزمنا بضرورتها.
رأى المسيري في الإسلاميين الرافعة الأنسب لحمل مشروعه، فجاء نقده للحداثة لصالح رؤية تتحدث عن ضرورة مرجعية يحتل الإله فيها المركز
وفي سبيل بلوغه هذه النتيجة “ضرورة مرجعية إلهية” يتعسف المسيري في عرض المقدمات، فحتى ينتظم طرحه لا يمايز بين سياقين مختلفين للرؤى الفلسفية لما بعد حداثية، سياق قدم نقدًا للحداثة في إطار مشروعها، يمكن أن نرصد بدايته مع كانط، الذي ألزم العقل حدودًا لا يتخطاها، وسياق آخر كان مناوئًا للحداثة (نيتشه، ماركس، دريدا، فوكو…).
كما لا يتوقف المسيري عند حقيقة أن مشروعه النقدي مستندًا بشكل كامل على الأطروحات الغربية ـ خاصة أطروحة مدرسة فرانكفورت ـ الساعية إلى تجاوز أزمة الحداثة (السياق الأول)، ليتنكر لوجود أي إمكانية لذلك في إطار الحداثة، حتى يتسنى له تقديم حله بضرورة العودة إلى المرجعية المقدسة، وهو ما يستحضر على الفور فكرة العود الأبدي لدى نيتشه، التي تُلقي بأطروحة المسيري إلى هوة العدمية من حيث أراد القفز فوقها.
وبطبيعة الحال وفي سبيل انتظام رؤيته، يفصل المسيري ما قبل الحداثة (العصور الوسطى) عن المتتالية الحداثية لديه، فلا يتعرض بالنقاش إلى حقبة أفضت للحداثة، وسادت فيها مرجعية مقدسة ـ يدعو للعودة إليهاـ تحيط إحاطة جامعة مانعة بالوجود، مقدمة تصورات محددة وصارمة حول الكون والمجتمع والتاريخ والثقافة، (مصدرها النص لا الواقع) لتمارس تلك المرجعية بذلك الإقصاء لكل تصور آخر.
في ذات السياق يطرح المسيري فكرة فوضوية ومشوشة وزائفة، تتمثل في تقسيم المجتمعات إلى “تراحمية” وأخرى “تعاقدية“، بحيث تكون مجتمعاتنا تراحمية، أما المجتمعات الغربية فيغلب عليها التعاقدية، على اعتبار أنها تُخضع الإنسان لـ “التشيؤ” و”التسليع” و”التوثن”، وليس أدل على التعسف وتشوش الطرح من نماذج قدمها المسيري للتدليل، ففي معرض حديثه عن “التعاقدية” يضرب مثالا بصديق له، هاجر إلى الولايات المتحدة وتزوج أمريكية ثم أصيب بانهيار عصبي، أودع على إثره إحدى المصحات النفسية، لترعاه زوجته مدة أربع سنوات، وبعد شفائه وخروجه من المستشفى طلبت الطلاق.
رأى المسيري أن الزوجة ساندت زوجها بموجب العقد بينهما حتى شفي “لكنها وجدت أن من حقها أيضا أن تنفصل عنه بعد أن ضيعت هذه الفترة من حياتها”.
من العجيب نظره إلى تصرف الزوجة من منطلق “التعاقدية“، فهو ـ إذا اعتمدنا المفهومين ـ أقرب إلى التراحمية، فلا يوجد أبدًا ما يبرر احتمالها رعاية زوجها طوال أربع سنوات على قاعدة “التعاقدية”، فعقد الزواج يتيح لها الانفصال عن زوجها؛ سيان في أول مرضه أو بعد شفائه، لكنها كانت وفق تعبيرنا زوجة “أصيلة” لم تنفصل عنه إلا بعد اكتمال شفائه، وفي هذا درجة عالية من “التراحمية”.
على الجانب الآخر (التراحمية) يورد المسيري في إطار تلك المقارنة التي اصطنعها، بعد إعلان انحيازه إلى “التراحمية“، أنه حين بلغ أبوه سن الزواج “قررت أسرته أن تخطب له فتاة من عائلة الكاتب.. وبعد أن استقر أعضاء الوفد المسيري في حجرة الصالون، نبههم أهل البيت أنهم أخطأوا ودخلوا منزل آل حلبي بدلا من منزل آل الكاتب (المنزل المجاور)، فأدرك الوفد خطأهم ولكن بعد مداولات استمرت بضع دقائق قرروا أن منزلة آل الكاتب لا تختلف البتة عن منزلة آل حلبي.. وسألوهم: هل عندكم شابة في سن الزواج؟ فردوا بالإيجاب، وهكذا تم زواج أبي وأمي وأتيت أنا وأخوتي إلى هذا العالم نتيجة خطأ مطبعي، ففي المجتمع التراحمي لا يتزاوج الأفراد وإنما تتزاوج العائلات”.
طرح المسيري فكرة فوضوية ومشوشة وزائفة، تتمثل في تقسيم المجتمعات إلى "تراحمية" وأخرى "تعاقدية"، بحيث تكون مجتمعاتنا تراحمية، أما المجتمعات الغربية فيغلب عليها التعاقدية، على اعتبار أنها تُخضع الإنسان لـ "التشيؤ" و"التسليع" و"التوثن"
لا ينتبه المسيري إلى أن مثالاً قدمه للتدليل على “التراحمية” يحمل درجة عالية من “التعاقدية”، فزواج أبيه من أمه، تم وفق عملية حسابية بحتة (آل حلبي = آل الكاتب في القيمة، من ثم جرى استكمال الاتفاق، بينما لو كان آل حلبي أقل ـ في القيمة ـ من آل الكاتب، فتبعًا لمعادلة أهل المسيري الحسابية لكانوا غادروا المنزل).
يدلل ذلك أن هذه الفكرة “التراحمية والتعاقدية” المضللة والمشوشة والزائفة، لا تستهدف قيمة معرفية بقدر ما هي فكرة مخاتلة ومخدرة غرضها إعفاء المجتمع من مأزوميته، على اعتبار أننا نملك من القيمة ما يجعلنا نتفوق على المجتمع الغربي.
هذا الجانب رغم أنه لا يحتل مساحة كبيرة فيما قدمه الرجل، لكن مع ذلك يقود به إلى الانتماء لتيار فكري لعب دورًا تخديريًا في ثقافتنا العربية، ويضم أسماء مثل: العقاد وأحمد أمين وزكي نجيب محمود؛ حيث مثلت أعمال الأول والثاني الريادة لهذا التيار، من ذلك ترويجهما لأطروحة قريبة الشبه من فكرة “التراحمية والتعاقدية”، وهي روحانية الشرق ومادية الغرب، ليتماهى معها الثالث “زكي نجيب محمود” مع تعديل أجراه؛ فنسب إلى الشرق الأقصى (الهند والصين) الروحية الخالصة وسماها “نظرة الفنان الخالص” يقابلها “نظرة العلم الخالص” لدى الغرب، أما منطقتنا “الشرق الأوسط” فقد استطاعت دمج هاتين النظرتين، وعلى هذا الأساس ـ وفق تصوره ـ يمكن التوفيق بين تراثنا، أو بالأحرى مساحة منه وثقافة العصر السائد، لتبلغنا هذه المعادلة ودون عناء النهاية السعيدة التي تنقذنا من إحساسنا بالأزمة، وفي ذات الوقت تعفينا من دفع أي ضريبة فادحة للحاق بعصرنا.
تبعا لذلك يسري خدر لذيذ إلى عقل المجتمع، يمنعه من القيام بأي جهد في اتجاه تجاوز تراث أو ثقافة حجزته والانخراط في عصره، ويتفق هذا الطرح مع فلسفة الوضعية المنطقية التي تبناها زكي نجيب محمود، فهي فلسفة لا تبذل أي جهد في سبيل تغيير الواقع، معترفة ضمنيًا بكل ما هو قائم.
يقف هذا التيار بذلك على قاعدة أن الحضارة المعاصرة ليست مشتركًا إنسانيًا؛ بل هي حضارة الغرب، وبالتالي تصبح الحداثة مشروعًا غربيًا، الانتماء إليه يفقدنا خصوصيتنا الثقافية، ووفق هذا لا نكون مطالبين بالمساهمة الفعالة فيه، ليسري في خلايا مجتمعنا خدر ناجم عن إعفائنا من الانخراط في تيار الحداثة وما قد يتطلبه ذلك من تضحيات مؤلمة، منصرفين إلى ما يُعظم خصوصيتنا، فهي تحمل كل القيمة، لكن وللمفارقة لا تلتزم أطروحة المسيري وسيرته في مجملها بتلك الدعوة ولا تنتهج ذلك النهج، فمشروعه النقدي للحداثة ليس إلا نتاجًا للانخراط التام في الحداثة، والتأثر بأدبياتها والتزام مناهجها واستعمال مفاهيمها ومصطلحاتها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.