مع دخول العالم للعام الثالث منذ تفشي فيروس كورونا في بدايات عام 2020، وما نتج عنه من تداعيات مؤلمة بعدد إصابات تقترب من 500 مليون، ووفيات تتجاوز 5 مليون إنسان وفقًا للاحصائيات الرسمية المعلنة حتى الآن، ورغم فاجعة الأرقام المرتبطة بحياة وصحة الإنسان، إلا أن ظهور العديد من اللقاحات، وتراجع أعداد الوفيات، يمنحنا الأمل لاقتراب نهاية الجائحة، بينما على الجانب الآخر يبدو أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية القاسية للفيروس سوف تستمر معنا لسنوات قادمة.
من أبرز هذه التداعيات تراجع معدلات النمو، وارتفاع معدلات التضخم، وأزمات سلاسل التوريد، ليبقى السؤال؛ هل تستطيع المنظومة الرأسمالية تجاوز جائحة كورونا عبر مجموعة من الإصلاحات الشكلية؟، أم سنشهد تغيرات جوهرية وواقعًا جديدًا كما كان متصورًا ومطروحًا في بداية الجائحة من قبل الكثير من المفكرين والمؤسسات البحثية، بأن عالم ما بعد الجائحة سيكون مغايرَا للصورة التي عهدناها في العقود السابقة.
في كتابه ” شراء الوقت .. الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديمقراطية” يشير أستاذ الاقتصاد السياسي الألماني فولفجانج شتريك إلى أن المنظومة الرأسمالية في المجتمعات الديمقراطية الثرية تعاني من أزمة ثلاثية الأبعاد، مستمرة منذ عدة سنوات دون أن يبدو أفق للحل وتشمل: “أزمة البنوك، وأزمة المالية العامة للدولة، وأزمة الاقتصاد العيني”.
الكتاب الصادر في نسخته العربية عن دار صفصافة بالقاهرة بترجمة د. علا عادل، قبل عدة أعوام من تفشي الجائحة لا يركز على الجانب الاقتصادي فقط، بقدر ما يقدم رؤية بانورامية على السياق السياسي والتاريخي لنشأة وتطور النظام الرأسمالي، موضحًا أن فهم الأزمات المتراكمة حاليًا يتطلب العودة لمنتصف القرن العشرين، وتحديدًا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تأسيس شرعية النظام الرأسمالي حينها على حجم الحقوق الممنوحة للعمال والموظفين، وكان رأس المال حينها مجرد أداة لتحقيق التنمية المجتمعية.
“على الصعيد العالمي وضعت الرأسمالية بعد عام 1945 في موقع الدفاع عن النفس، ووجب عليها أن تسعى لتمديد رخصتها في المجتمع وتجديدها، في كل دول الغرب بعدما اشتد عود الطبقة العمالية نظرًا للحرب والمنافسة من الأنظمة الأخرى. لم يكن ذلك ممكن إلا من خلال تنازلات كبيرة، كما توقعت النظرية الكينزية ومهدت الطريق لها: على المستوى المتوسط في صورة سياسة الدولة الاقتصادية، وتخطيطها لضمان التنمية، والتشغيل الكامل، والتوازن الاجتماعي”.
لم يعد المواطنون فقط هم من يحددون التطلعات التي يكون على النظام السياسي الاقتصادي أن يلبيها ليبلغ شرعيته، ولكن أيضًا رأس المال الذي لم يعد يظهر كأداة، بل أيضًا طرف فاعل
أزمة الشرعية
يشير الباحث الألماني إلى أنه بداية سبعينيات القرن الماضي، ومع تبني العديد من الحكومات لسياسات نيوليبرالية، أصبح رأس المال سلطة مهيمنة على سياسات الأنظمة الغربية، وتدريجيًا بدأت تتراجع وتتلاشى دولة الرفاهية، في ظل تحرير حركة التجارة في السلع والخدمات ورأس المال من بلد لآخر، وضعف قدرة الدولة على تحصيل الضرائب من الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال.
“لم يعد المواطنون فقط هم من يحددون التطلعات التي يكون على النظام السياسي الاقتصادي أن يلبيها ليبلغ شرعيته، ولكن أيضًا رأس المال الذي لم يعد يظهر كأداة، بل أيضًا طرف فاعل”، نتيجة لهذه التغيرات واجهت الأنظمة الغربية، أزمة على مستويين: أحدهما يتعلق بشرعية النظام الرأسمالي غير القادر على الوفاء بمتطلبات العدالة والسلم الاجتماعي، وأزمة أخرى على المستوى الاقتصادي في ظل تراجع معدلات النمو وتهديد أصحاب رؤوس الأموال بالهروب لأسواق أخرى.
يرى شتريك أن الدول الرأسمالية الكبرى عجزت عن التعامل مع هذه التحديات خلال العقود الماضية، ولجأت إلى سياسات “شراء الوقت” بحيث تقوم الحكومات بالبحث عن حلول مؤقتة للأزمات الهيكلية في المنظومة الرأسمالية، كما حدث خلال فترة السبعينيات، حين قامت الحكومات الغربية بتحمل المسؤوليات التي تخلى عنها أصحاب رأس المال، ونتج عن ذلك معدلات تضخم مرتفعة للغاية.
وفي محاولة لتحجيم التضخم بدأت الحكومات في الاقتراض خلال فترة الثمانينيات، حتى وصل الدين القومي لمراحل خطرة، وفي التسعينيات استمرت الحكومات الغربية في شراء مزيد من الوقت، من خلال الاعتماد على مديونية الأفراد، فتوسعت البنوك في إقراض الأفراد، من أجل تحفيز السوق وزيادة النمو.
لكن كل تلك المحاولات، كانت تزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويتحمل فاتورتها الطبقة المتوسطة والفقيرة، بينما الطبقات العليا تزداد ثراءً حيث “باءت التحولات الثلاثة إلى خسائر لم يكن مداها متوقعًا، خسائر في المدخرات وبطالة ونقص التشغيل، والمزيد من الاستقطاعات في الخدمات الحكومية“.
يسعى المقرضون لتأمين مطالبهم إلى ممارسة التأثير على السياسة الحكومية.
ديكتاتورية الرأسمالية
يُشير الكاتب إلى أن تحول الأنظمة الغربية على مدار الثلاثة عقود الماضية من دولة الضرائب إلى دولة الديون، صاحبه تحول آخر فقدت معه الديمقراطية دورها كأداة لحماية حقوق المواطنين والدفاع عن مصالحهم.
“الأزمات المالية المعاصرة والانتقال من دولة الضرائب إلى دولة الديون مهدًا لمرحلة جديدة في العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، لقد رفعت الأزمة بعد 2008 مستوى مديونية الديمقراطيات الغنية إلى مستوى لم يعد معه دائنو هذه الدول يريدون الاعتماد على فكرة أن هذه الدول ستكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها في السداد”
ونتيجة لذلك “يسعى المقرضون لتأمين مطالبهم بشكل أكبر من الماضي من خلال ممارسة تأثير على السياسة الحكومية. بذلك تظهر دولة في دولة الديون فئة ثانية من أصحاب الشأن ومانحي التفويض إلى جانب قاعدة المواطنين”.
في خاتمة كتابه يوضح “شتريك” أنه في ظل عدم قدرة الأنظمة الغربية على شراء مزيد من الوقت، لم يعد هناك إلا مساران؛ أحدهما يتمثل في عودة سيادة الدولة القومية على الاقتصاد، وهو ما يعني مواجهة مع منظومة العولمة، وفرض قيود على حركة رأس المال، وإعادة توزيع الثروة بصورة أكثر عدالة، أما المسار الآخر فيتمثل في سيادة الديكتاتورية الرأسمالية.
“عندما تكون الرأسمالية غير قادرة على خلق وهم النمو، الذي يتم توزيعه على المستوى الاجتماعي بشكل عادل، فإن تلك هي اللحظة التي يكون فيها الانفصال بين الديمقراطية والرأسمالية واجبًا، وبذلك يكون الحل الواقعي هو اكتمال النموذج المجتمعي لديكتاتورية الاقتصاد الرأسمالي المحصن ضد التصحيح الديمقراطي”.