أما الأخوة فهي أخوة الخطاب الواحد، الذي يتحدث به إبراهيم عيسى وأحمد كريمة، وإن تصورا وتوهم غيرهما أنهما ينتميان إلى خطابين مختلفين، وأما الرضاعة؛ فلأن الاثنين لقما ذات الخطاب ثم تفرقت بهما التوجهات الفكرية، فلم يدركا يومًا أنهما ينتسبان في الأصل إلى خطاب واحد، لتنشأ بينهما عداوة بلغت حد الحكم على عيسى بالردة من قبل أخيه في الخطاب أحمد كريمة.
لابد من التنبيه أولا أن تلك المقابلة لا تساوي بين رجل انفعل برأي وآخر حكم بردة الأول لـ”تسري عليه أحكام الردة”؛ فالثاني يستحق المحاكمة على ما ارتكبه من جرم، وثانيًا، ليس المستهدف بهذه الفكرة عيسى وكريمة فقط، بل ما يمثله الرجلان من تيارين مختلفين في الظاهر.
في هذا الخصوص أزعم زعمًا يطرح ربما للمرة الأولى، بأن الصراع بين التيارين صراع وهمي؛ لأن أي صراع لابد أن يكون بين طرفين يدعوان بدعوتين متمايزتين، لكن الحقيقة المحتجبة تقول إن الفريقين أصحاب خطاب واحد ونهج واحد، ومن ثم تصنيفهما إلى علمانيين وإسلاميين ـ بما يفيده من معنى الضد والنقيض ـ تصنيف خادع، على اعتبار أن الأيديولوجية أو التوجه الفكري مجرد قشرة للبّ (الخطاب الواحد). والتصنيف على أساس القشرة مضلل.
نحن أمام خطاب يروج لليقين، يدعي حيازة الحقيقة، يرفض الاعتراف بأي أخطاء، خطاب لا يُعنى أبدًا بطرح الأسئلة ليقدم دومًا الأجوبة، من؛ حيث إن السؤال شك وحيرة ونقص؛ بينما الإجابة اكتفاء واعتقاد واكتمال، لذلك فهو أبعد ما يكون عن توليد الرؤى وابتكار الأفكار، ليدور في دائرة مغلقة من القضايا المكرورة والأطروحات المستهلكة.
وإذا حاولنا التعرف على بدايات هذا الخطاب، سنعود إلى أزمنة بعيدة، غير أني سأسجل فقط اللحظة التي انتصر فيها على غيره، ليسود بعدها، لحظة تعود إلى زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله سنة 326 هـ؛ حيث جرت مناظرة شهيرة بين النحوي أبي سعيد السيرافي والمنطقي متى بن يونس، بترتيب من وزير المقتدر أبي الحسن ابن الفرات.
نحن أمام خطاب يروج لليقين، يدعي حيازة الحقيقة، يرفض الاعتراف بأي أخطاء، خطاب لا يُعنى أبدًا بطرح الأسئلة ليقدم دومًا الأجوبة
حرض ابن الفرات السيرافي على متى بن يونس، حمايةً وصونًا للدين، بعد زعم الأخير أنه “لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحُجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام به..”، ليكلف الوزير الإمام النحوي بالتصدي لتلك الدعوى.
لم يستهدف السيرافي، صاحب البيان والمنتصر في المناظرة، الحقيقة؛ حيث انحصر سعيه في إفحام مناظره وتسفيه رأيه، فحوى كلامه عبارات مثل: “هذا من الجهل المبين والحكم المشين..”، مخاطبًا متّى كتلميذ في حاجة إلى الدرس (لو حضرت الحلقة “مجلس الدرس” استفدت) موجها الاتهامات لأهل المنطق والفلسفة في زمانه (إن بودّكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزًا) معتمدًا في الحوار على المغالطة والمماحكة، مبتعدًا عن الروح العلمية.
انتصر العقل البياني على العقل البرهاني أو الفلسفي، ليسود تصور ـ حسبما يفيد محمد عابد الجابري ـ لا يستطيع ولا يقبل ممارسة أي نشاط إلا على قاعدة أصل معطى (سواء أكان نصًا دينيًا أم نصًا علمانيًا غربيًا)، وبهذا ندور في دائرة مغلقة من المعاني والألفاظ، لا تقتصر على تيار دون آخر، ولا تختص بأيديولوجية دون غيرها، لتأتي اللغة تكريسًا لتقليد أو ترسيخًا لأيديولوجيا أو تسجيلاً لمواقف أو اجترارًا لمعرفة، بهذا لا يعكس الكلام إلا تبلد الفكر ووهن الخيال، لينتفي التعدد ويقمع الاختلاف.
هذه المعاني التي انتصر لها السيرافي في المناظرة سادت بعد ذلك وشكلت خطابًا أوحد لا ينازعه آخر، أي تحول ـ وفق مفهومين لرولان بارت ـ من “خطاب انتصار” إلى “خطاب انتشار” بعد هيمنته هيمنة تامة على العقل العربي، ليصبح خطاب دوكسا أو بادئ الرأي، حينما أمسى “أرضية عامة فُرشت بمباركة السُّلطة”، فانتشر وشاع وتوغل وصار رأيًا عامًا وإجماعًا، وأضحت هيمنته هيمنة عفوية و”طبيعية”.
وضعنا هذا الخطاب أمام نظام للحقيقة يخاصم الإبداع ويشجع على النقل ويأنس للتكرار ويروج للاعتيادي، يستوي في ذلك أصحابه المعتقدون في أن الحقيقة تأتي من خارج هذا العالم، وأنهم وحدهم المطّلعون عليها، المتحدثون باسمها، وأصحابه المعتنقون لأيديولوجيات وطنية وقومية وأممية، بعدما صارت هيمنة الخطاب هيمنة عفوية و”طبيعية”.
أما الحوار بين أصحاب هذا الخطاب الواحد وإن اختلفت توجهاتهم فغير ممكن؛ حيث تغيب أي إمكانية لقبول النقد، وتنتفي كل فرصة للتعلم من الخطأ وتصحيحه
وفق هذا الشكل من الخطاب؛ لا يضطلع المثقف سوى بمهام مثل “هداية الناس للصراط المستقيم” و”التصدي للتغريب” كما في حالة كريمة أو “نشر الوعي” و”التنوير” و”محاربة الأوهام والخرافات” كما يدعي عيسى، وذلك انطلاقًا من أن الحقيقة بينة، وأن كليهما يملك الإجابة الصحيحة، التي لا شك فيها ولا نقص معها، إنه خطاب عقيدة وإيمان، لا يستقيم مع النقد، خطاب يدعو لتمترس خلف خندق ولرفع لواء حرب لا هوادة فيها، لهذا لا مجال عبره للسؤال، من حيث هو انفتاح على كل الممكنات، ولا فرصة فيه لتوليد الأفكار، ولا حيلة معه للتحرر من المكرور والمستهلك، ولا قيمة عنده للاختلاف والتنوع.
أما الحوار بين أصحاب هذا الخطاب الواحد وإن اختلفت توجهاتهم فغير ممكن؛ حيث تغيب أي إمكانية لقبول النقد، وتنتفي كل فرصة للتعلم من الخطأ وتصحيحه. ينصب جهد الجميع لا على اكتشاف الأخطاء ومعالجتها؛ بل على دفنها وإخفائها، فتنتفي بذلك أي استطاعة لتشكيل محاججات أو براهين جديدة، ويكرس هذا نهاية إلى حالة من التكلس والمراوحة يستشعرها الجميع، وإن لم يعترف البعض بها.
تبعًا لذلك لا ترسخ حالة الاحتراب ـ التي يصطنعها خطابنا ـ للقيمة المعرفية بقدر ما ترسي تلك الحالة الدعائم لسلطة المثقف، فحين ينفعل إبراهيم عيسى برأي حول “عدم ثبوت المعراج”، لا يستهدف قيمة معرفية ـ فالمسألة لا تحمل ذلك ـ بقدر ما يعبر عن غضبه، بسبب تسلط المشايخ وانتشارهم على الفضائيات، إذ يعده بطبيعة الحال انتقاصًا من سلطته كمثقف “تنويري”، كذلك حين يهاجم أحمد كريمة وغيره من المشايخ عيسى بهذا العنف، مطالبين حصر مناقشة المسائل الدينية على أصحاب التخصص، لا ينتصرون للقيمة المعرفية ـ الغائبة ـ بقدر ما يؤكدون سلطتهم في مواجهة معتدٍ عليها.
خلاصة الكلام أن التيارين ـ على اختلاف ما يدعوان إليه ـ التقما ذات الخطاب من ثقافتنا، وهو خطاب اعتقاد يسوده الانفعال، لا خطاب فكر يقوم على التفكر، فبينما يكتفي الأول برفع الشعارات والدعوة إلى الاتباع والتقليد، يحرض الثاني على جميع الحقائق ويمهد إلى التحرر من أسرها، وبطبيعة الحال ينتمي المتصدرون مشهدنا الإعلامي والثقافي إلى الخطاب الأول، لا فرق بين إسلاميين وعلمانيين، ليبراليين ويساريين؛ حيث تمليه مرحلة تاريخية مازلنا نخضع لسلطانها.
هو ـ بتعبير آخر ـ نتاج الوعي التاريخي، لتبتعد الآراء والأفكار التي يطرحها مثقفونا ـ على اختلاف انتماءاتهم ـ عن أن تكون تمثلًا نفسيًّا لأفراد أو مجموعات بعينها، معنى قصد إليه هيدجر حين قرر: “نحن لا ندرك الأفكار أبدًا، بل هي التي تدركنا”، فحالة الوثوقية المتسلطة على حياتنا الثقافية متصلة ببنية تتخطى الأيديولوجيات والتيارات الفكرية، بنية ترتبط بمرحلة تاريخية نحياها، لتملي على الجميع لغة خطابهم، وكما يرى فوكو فإنه لا يمكن كسر مثل هذه الدائرة، أقصى ما نستطيع عمله هو التنبه إليها وفضحها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.