في واحدة من شذراته الشعرية يصف طاغور التعصب الذي يقتل “الحقيقة” ظانًا منه بأنه يحميها: “بقبضة قاتلة، يحاول التعصب الأعمى الاحتفاظ بالحقيقة آمنة في يده.” يمكن وضع الحب مكان “التعصب” والأبناء مكان “الحقيقة”، ونحن نشاهد فيلمين عُرضا في أواخر عام 2021م. الأول روسي بعنوان “تحرير القبضتين Unclenching the Fists“، سيناريو وإخراج كيرا كوفالينكو، وقد فاز بإحدى جوائز كان وترشح لجوائز أخرى. والثاني فيلم كرواتي وإنتاج دولي بعنوان “مورينا Murina” كتابة وإخراج أنتونيتا ألامات كوسيجانوفيتش، وهي كاتبة ومخرجة ومنتجة ولدت في دوبروفنيك، كرواتيا، ومقيمة في نيويورك. وهذا أول فيلم روائي طويل لها، وقد فاز بالكاميرا الذهبية في الدورة 74 لمهرجان كان السينمائي، وترشح لجوائز أخرى.
الأبوة من منظور نسوي
لا يتأسس الفيلمان على حبكة تقليدية واضحة. بدلًا من ذلك ينبني التشويق على ما يعتمل في نفسية البطلتين وعلى ترقب مصيرهما. اللافت أن الفيلمين من كتابة وإخراج شابتين وكذلك من بطولة شابتين: جراسيا فيليبوفيتش بدور “يوليا”، وميلانا أجوزاروفا بدور “آدا”. تريد المخرجتان بهذا الاختيار التركيز على علاقة الأب بالابنة تحديدًا، وإن كانت القصتان لا تخلوان من معاجلة عامة لموضوع علاقة الآباء بالأبناء.
فيلم “مورينا” هو دراما عائلية متوترة على جزيرة منعزلة قبالة الساحل الكرواتي. يستعد الأب لاستقبال صديق قديم له ولزوجته بهدف إقناع مشترٍ ليشتري أرضًا يملكها على الساحل. يدفعه توتره لمعاملة ابنته بفظاظة، لكن المواقف اللاحقة تكشف عن علاقة مضطربة بين الأب وابنته من غير تحديد لسبب واضح لسوء العلاقة. المهم هنا ليس التأكيد على الأسباب التي دفعت بهذه العلاقة إلى هذا المستوى وإنما التركيز على مضمون العلاقة نفسها. ثمة ما يجمع بين الأب وابنته وهو هواية الغوص وصيد ثعبان البحر، لكن رغم هذا تبدو الشقة بينهما واسعة. يقلل الأب من شأن قدرات ابنته ويوبخها دائمًا ويكبل حريتها وفي الأخير يحجزها في غرفة مغلقة لئلا تفسد عليه صفقته.
ثمة سخط مكتوم يبدو جليًا طوال القصة في ملامح يوليا، يظهر هذا السخط بلقطات قريبة ومتوسطة لوجهها، وبلقطات أخرى تُظهر الكاميرا يوليا وهي ترتدي بكيني طوال قصة الفيلم. تحاول يوليا بهذا المظهر الخارجي التعويض عن حريتها الحقيقية. وحينما تشتد قسوة أبيها تستنجد بصديقه الذي تكن له إعجابًا. يحل الصديق هنا كتعويض عن غياب دور الأب. تتوتر علاقة الصديقين بعد المواجهة الأخيرة بين الأب وابنته. تعبر الابنة عن كرهها لأبيها بعد أن حبسها في غرفة مغلقة وكادت أن تغرق وهي تحاول الفرار عبر البحر. يخذلها صديق والدها ليس عجزًا ولا رغبة في الخذلان ولكن ليفجر داخلها طاقة الخلاص الفردي. تتبدى هذه الطاقة في مواجهة أخيرة بين يوليا وأبيها وهما في عمق المحيط يلاحقان ثعبان البحر. تطلق يوليا السهم باتجاه أبيها في إشارة توحي بالتهديد لا بالقصد في إيذائه، ثم تسبح مبتعدة عنه وقد انفرجت أساريرها. تعلو الكاميرا بتقنية عين الطائر لتظهر يوليا وهي تسبح لمسافة طويلة كسمكة في عرض المحيط الأزرق الشاسع، في دلالة أخيرة إلى تحقيق حريتها وانفتاح الأفق الرحب أمام توقها للخلاص والحرية.
حب أعمى ومجنون
يفتتح الفيلم الروسي بوجه “آدا” ملء الشاشة وهي مغمضة العينين أولًا، ثم تفتحهما ليرى المشاهد عينين حائرتين تائهتين. هذه النظرات التي تطالع المجهول ستصاحب آدا طوال الفيلم لتكشف عما يعتمل داخلها من ضبابية وتردد وخوف. والقبضتان في عنوان الفيلم هما قبضتا الأب الذي يحب أبناءه الثلاثة لدرجة يصير البيت سجنًا خشية فرارهم.
ثمة خيط رفيع بين الحب والكراهية تصوره قصة هذا الفيلم بلغة لماحة تكشف مشاعر الكراهية وتحجب أسبابها المباشرة. دلالة الحجب تفيد بأن الأسباب غير مهمة عندما يتعلق الأمر بالحياة الأسرية؛ التي يُفترض أن يسودها الود والحب الذي يحرر لا أن يخنق، وعندما يتعلق الأمر بالحرية؛ حرية أن يمتلك الأبناء حياتهم الخاصة بعيدا عن إملاءات الأب.
تُكثف قصة الفيلم هذه المشاعر في لقطات قريبة لوجه آدا وهي تعاني من شيء خفي حرمها الاستقرار النفسي. تذهب آدا كل يوم إلى طريق الحافلات التي تغادر مدينتها الصغيرة، لكنها لا تملك القدرة على ركوبها؛ لأنها لا تملك جواز سفرها الذي أخفاه والدها؛ لئلا تفر هاربة من البيت.
تترك قصة الفيلم أسباب سوء العلاقة بين الأب وابنته معلقة في البداية ليخمنها المشاهد بنفسه. سيتبادر إلى الذهن أن آدا تعرضت للاعتداء من قبل الأب ثم لا يلبث أن يزول هذا الخاطر. المؤكد أن آدا لا تمتلك ذاتها في هذا البيت الضيق، إلى درجة أنها لا تستطيع امتلاك قارورة عطر، حتى أنها لا تمتلك حرية اختيار قَصة شعرها ويحدد والدها ذلك بدلًا عنها.
هذا الكبت سيؤدي بها إلى ارتداء حفاظة؛ لأنها تفعلها على نفسها كالأطفال. وللمُشاهد أن يخمن الأسباب! وقبل أن يعرف سيخلص إلى أن ثمة أمرًا خطيرًا حدث لها، وأن حلم الفرار من البيت لا يراودها هي فقط؛ فقد سبقها أخوها أكيم إلى الفرار من قبضة الأب ليشق طريقه بنفسه، بينما أخوها الآخر يتصرف كطفل؛ في إشارة إلى أنه لم يكبر. وكيف له أن يكبر في بيت يحرمه من الاستقلال!
التحليق بجناحين مقصوصين
كتعبير عن الحب المتطرف الذي يكنه الأب لابنته يقول لها: “لا أستطيع العيش بدونك.” ثم ينهار ويصاب بالبُكم، ويحيطها بذراعين قويين متشنجين. لم يحدث مكروه لآدا، كل ما في الأمر أنها لا تريد أن تكون شيئًا ماديًا يملكه الأب ويسعى للحفاظ عليه على حساب حرية وخصوصية أبنائه. والمضمر هنا أن الحب المرادف للتملك لا يقل خطرًا عن القسوة في أثره في شخصية الأبناء.
الأم غائبة عن المشهد! هل توفيت؟! هل فرت هي الأخرى من قبضة الزوج؟!
لا جواب؛ فالفيلم يصور تعامل الآباء مع الأبناء كممتلكات، كما يصور هذا الخيط الرفيع الخفي بين الحب والكراهية، وكيف يمكن أن يتحول الحب المفترض بين أفراد الأسرة إلى كراهية عميقة تدفع بآدا إلى تمني موت أبيها في سبيل تحرير نفسها من قبضته. يطبق الأب قبضتيه على جسد آدا ولا يحررها منهما سوى حقنة مخدرة تضعها الممرضة في المشفى. بعدها يرتخي جسده وقبضتاه، لنرى آدا وهي تعيد قبضتيه حول جسدها وهما ممدان على سرير المستشفى!
هل تخلت عن رغبتها في الهروب والخلاص؟! هل ألِفت قبضتي الأب إلى درجة لم يعد بإمكانها أن تعيش بدونهما؟! هل كانت تكره والدها وبهذه الحركة تعبر عن حبها أو غفرانها له؟ هل تريد القول بأن رغبتها في التحرر منه لم تكن تنم عن كراهية وإنما عن رغبتها في تحقيق ذاتها؟!
أيًا كان الأمر، يحسم أخوها أكيم موقفها ويحثها على ارتداء ملابسها والاستعداد للسفر. مشاعر آدا المضطربة بين الحزن والسعادة، الضحك والبكاء، الحب والكراهية، تتضح في أغلب اللقطات القريبة لوجهها. آدا لا تعرف من الحياة سوى وجه وحيد عاشته في كنف أبيها، أما أكيم الذي جرب الحياة مستقلًا فيعرف أن علاج أخته من كل ما عانته يكمن في تحريرها من قبضة الأب. تعابير وجه أكيم القوية تكشف عن هذا الإصرار الذي أكسبته إياه حياة الاستقلال، في حين تكشف تعابير آدا عن الضعف والتردد والخوف في ظل مجتمع صغير منغلق يقرر فيه الآباء ما ينبغي للأبناء أن يفعلوه.
في هذه الوضعية الاجتماعية تلوح المدينة كمخلِّص، وفي وجهها الآخر المدينة لصٌ يسرق الأبناء من آبائهم ويحرضهم على العصيان والتمرد. المدينة مغامرة، لكنها تستحق الخوض في سبيل الاستقلال. هذا التباين يُعبر عنه بصريًا بكادر أخير مهزوز، ناتج عن اهتزاز الكاميرا، وبلون رمادي، بينما تمضي آدا في طريقها الجديد.
ما لم يقله الفيلم -أو لعله قاله بأرجحة الكاميرا والصور المذبذبة- أن استعادة المرء لنفسه أو تحرره من قبضات ذويه وتحوله من شخص تابع إلى شخص مستقل ومن شيء إلى إنسان طبيعي أمر صعب ولعله مستحيل؛ فالقيود غير المرئية تظل قابضة على الروح حتى بعد تحرر الجسد من القبضتين.
السينما عابرة للجغرافيا، يعبرها المشاهد بالتعاطف، إما مع الآخر أو مع الذات؛ حين تلامس القصة الإنسانية وترًا في النفس. يختبر المشاهد هذا العالم إما كمشاهد لحالة إنسانية وبوصفه إنسانًا ذو مشاعر، وإما مُعايشًا ومُختبرًا للوضعية الإنسانية نفسها، في لحظة المشاهدة أو في تجربة سابقة عاشها. وحين يختبر هذا الشعور تزول الجغرافيا والحدود واللغات ويبقى الإنسان الخالص. هذا ما يعكسه الفيلمان في ملخص مضمونهما النهائي.
المقال مكتوب بطريقة جميلة و سيجعلني ابحث عن الفيلمين و اشاهدهما