بعناوين جذابة والأهم من ذلك أنها سريعة “كيف تدخل الجنة بسهولة”، يجذبون الانتباه.
في أوائل سنة 2011 ومع انطلاق شرارة الثورات العربية مرورًا بمراحل مختلفة من التقلبات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، بدأ الدعاة السلفيون يفقدون مراكزهم الاجتماعية بين الناس، بسبب معترك السياسة، شكلت الثورة لدى الناس مفهومًا جديدًا عن السياسة والحكم، لا يتناسب مع الخطاب السلفي الموجه بتقديس الحاكم كونه ولي الأمر وظل الله في الأرض، بالإضافة إلى مواقفهم السياسية المضطربة التي دائمًا ما كانوا يقحمون أنفسهم فيها على المنابر وفي الدروس الدينية، فلم تعد لقنواتهم ذلك التأثير الذي اعتادوا عليه، ولم يعد لسمتهم ولا لمظهرهم ما كان، فظهر جيل جديد من الدعاة لم يعتلوا المنابر ولم يظهروا على شاشات التلفاز بل بدأوا دعوتهم مباشرة على السوشيال ميديا.
امتداد سلفي أم جيل جديد؟
بداية يجب التفريق بين هذا الجيل الحديث وبين جيل “الدعاة الجدد” الذي ظهر فيما بين السنوات 2000 حتى 2005 مثل عمرو خالد ومعز مسعود ومصطفى حسني، فتلك الفئة من الدعاة التي عبرت عن مجموعة من الأشخاص ظهروا بشكل مختلف كونهم مثلوا صورة لشباب غير ملتزمين بالزي التقليدي للمشايخ الذين تعود عليهم المجتمع عبر المنابر في المساجد، لم يتجهوا إلى المساجد والزوايا التي كانت حكرًا على السلفيين في تلك المرحلة، بل توجهوا نحو جمهور مختلف باحثين عنهم في النوادي الرياضية والأماكن العامة، وقد فتحت لهم العديد من الفضائيات أبوابها، الأمر الذي يعد امتدادًا طبيعيًا لنفس تلك الطبقة الاجتماعية التي كانوا يستهدفونها، لم يطرحوا مواضيع كلاسيكية؛ فتلك المواضيع لا تعجب الكثير من تلك الطبقة المستهدفة، بل اتجهوا في خطابهم إلى قيم التوبة والاستغفار والإيجابية والتعاون على الخير، يتجنبون كذلك الخوض في أمور السياسة والقضايا الشائكة، ولا يحتكون بأي تيار ديني، يمكن وصفهم بـ”الدعاة المنتفعون“، لأن توجهها الأساسي مبني على مخاطبة الطبقة البرجوازية من رجال الأعمال، كنوع من أنواع تبرير السلوكيات التي يقومون بها، والموازنة بين الحياة الدنيا والآخرة.
أما تلك الفئة التي أتحدث عنها فهي تختلف عن سابقتها، مع كونهم يشتركون في نفس المظهر الخارجي، إلا أنهم لا يستهدفون النوادي ولا الجلسات الثقافية التي استهدفتها طبقة الدعاة المنتفعين، اتجهوا أكثر إلى إنشاء نوافذ خاصة لهم على منصات التواصل الاجتماعي، مع اختلاف كبير في الفكر؛ لكن ما حقيقة هذا الفكر؟
إن كان مظهر “دعاة السوشيال ميديا” في بعض الأحيان مختلف عن سابقيهم، إلا أن الفكر هو نفس الفكر السلفي الوهابي الذي يعتمد على عدة محاور رئيسية ميزته عن التيارات الدينية الأخرى:
فالمحور الأساسي والذي يشكل عائقًا حقيقيًا في إصلاح الفكر السلفي المعاصر، هو الاستدلال المباشر والظاهري بآيات القرآن والسنة ومحاولة تطويع النص بما يفيد الظاهرة المجتمعية الحديثة، بدون الاستناد على توفيق عقلي أو التعامل مع ما سمّاه الفقهاء قديمًا “آليات التعامل مع النص“، وتلك سمة أساسية في هذا التيار الدعوي؛ إذ يبدأ حديثه دائمًا باستدلال مباشر دون الرجوع إلى تفسير ما وراء النص أو تفسير واقعي للنص القرآني.
توحد الخطاب الديني؛ فالخطاب السلفي يعتمد ويرتكز في الأساس على الحديث عن الفرقة الناجية والعزلة من المجتمع والحديث الدائم عن تقصير المجتمع والغفلة العامة للناس والبعد عن جوهر الدين وأساسه وسنة النبي والسلف، بخطاب يشبه هذا يتحدث دائمًا عن مبدأ المجتمع العاصي الذي يجب أن تميز نفسك بمخالفته كالقابض على الجمر.
يورد أولييفه روا في كتابه عولمة الإسلام، أن من مظاهر الأصوليين الجدد “السلفيين” أن استدلالاتهم الفقهية والعقدية تعتمد على أشخاص بعينهم مثل: ابن تيمية وابن القيم؛ فهم المرجعية الأساسية لذلك الفكر من الأقدمين، أما من المعاصرين فمفتي المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني، وكذلك الشيوخ سفر الحوالي وسليم الهلالي ومحمد صالح المنجد وصالح بن عثيمين كذلك وصالح بن فوزان الفوزان، فهؤلاء هم المرجعية التي يعتمد عليها السلفيون في فتواهم، ورؤيتهم الدينية والتي تختضع لنمط معين وإطار واحد متميز ومعروف، وبالنظر إلى التيار الدعوي الحديث، موضوع حديثنا الآن نجد أنه يعتمد في مرجعيته على نفس تلك الرموز، فهو دائم الاستدلال بأقوالهم الفقهية وآرائهم في العقيدة وأمور الحياة، مهمشًا أي رأي آخر مهما كان.
إن كان الفكر؛ واحد فلماذا إذن فشل السلفيون بينما نجح هذا التيار الدعوي الجديد؟
المؤامة بين الدين والحداثة
نجح “دعاة السوشيال ميديا” عبر ما يسمى المواءمة بين الدين ومظاهر الحداثة، هذا السلاح الذي افتقده التيار السلفي القديم، بينما ببراعة واحترافية شديدين استطاع التيار الجديد المواءمة بينهما، ففي مجتمع حداثي، وإن كانت حداثة شكلية، مليء بالضغوطات والسرعة المطلوبة في إنجاز الأعمال المتلاحقة، يدخل إليك الدعاة بحل سريع لتلك المنظومة، وكيفية تقديم الدين كصورة من صور سيولة المعلومات تحت مسمى “رقمنة الدين“
هذا المصطلح الذي يعبر عن الصورة التي يصدرها إليك هؤلاء الدعاة، بأن يقدم إليك كبسولة دينية سريعة ترضي ضميرك الذي ابتعد عن دينه، وفي النهاية تساعدك أكثر على الاستمرار في الحياة الحداثية السريعة، فتلك الكبسولة لا تطلب منك جهدًا كبيرًا كالتعبد والتهجد في الليل، أو الاعتكاف في المسجد طيلة اليوم، فقط بأحاديث سريعة وعبارات وجيزة تكررها أزيد من مرة تفز، وكثيرًا ما يعتمد هؤلاء الدعاة في أحاديثهم على عناوين من أمثال أن الاستغفار 30 مرة يحل لك أزمة الاكتئاب. في حقيقة الأمر اعتمد الدعاة في تلك الحالة على أحاديث نبوية موجودة بالفعل في التراث، لكن التوظيف هنا مختلف كحل سريع ومنجز لما يعانيه الأفراد داخل المجتمع المنهمك في السرعة والضغوطات الحياتية.
نظرة متعمقة على قناة “أمير منير” على يوتيوب نجد عناوين كثيرة تحمل أرقامًا مثل: ” 5 كنوز في آية الكرسي – 5 أسرار في صلاة الوتر – 3 صلوات لا يعرفها كثير من المسلمين وأجرها عظيم – 7 مفاتيح للرزق والبركة – طريقة مضمونة لأخذ أجر ليلة القدر 100%”، بتلك الطريقة السهلة واليسرة تستطيع أن تقنع قطاعًا كبيرًا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي من محبي السرعة وسهولة الوصول للمعلومات بأن يشاهدوك ويؤمنوا بكلامك.
استهل زيجمونت باومان كتابه “الحداثة السائلة” بمقولة لبول فاليري يقول فيها : “لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شيء يدوم، لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل”، هذا الاستهلال بالنسبة لباومن له دلالته وهو أن العالم يتجه نحو مزيد من السرعة والميوعة والتبدل المستمر إلى حد غَيًّر من طبيعة الإنسان المعاصر الذي لم يعد يحتمل أشكال الثبات والديمومة.
إذًا؛ فقد استطاع هذا الجيل من الدعاة المزج باحترافية شديدة بين تلك الظاهرة من الحداثة السائلة وبين الدين، خاصة وأن ما يؤمنون به بناءً على الفكر السلفي يخدم هذا التوجه؛ وهو ما يسمى “عولمة الإسلام“، بأن يكون إسلامًا واحدًا لكل طوائف المجتمع في كل بلد منحيًا أية ثقافة أو موروث ثقافي جانبًا؛ فالأصوليون الجدد كما يسميهم أولفييه روا يهاجمون بانتظام أشكال الإسلام المحلية والأعراف، حتى وإن كانت لا تتعرض لأمور العقيدة، فيدينون كل أشكال التعبد للأولياء ويعترضون حتى على الاحتفال بالمولد النبوي ويرفضون الصوفية وممارستها وكل أنواع الفنون المرتبطة بالممارسة الدينية، كما أنهم يهاجمون الشعائر الخاصة التي تحيط بالجنازات في البيئات الثقافية المختلفة، ويرفضون عقد أي احتفالات لها بعد وموروث ثقافي، فهم يهجامون الثقافة المجتمعية بكل أشكالها، داعين إلى نمط واحد وشكل واحد من الإسلام، بصورته الأولى الأصولية.
يقول عبد الصمد الديالمي في مقالة بعنوان الإسلام الرقمي، مصدر تيه أخلاقي: “إن عولمة الإسلام المبسط السهل المنال هو ما يوهم بكل سهولة المسلم العادي أنه عالم متمكن من الإسلام“، وهو ما يعمل عليه هذا النوع من الدعاة، فسهولة التفقه في الدين بلا دراسة فقه، من خلال بعض المعلومات التي تمرر في ملخصات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو فتاوى جاهزة ومعلبة دون دراسة لحيثيات المفتى إليه، أو إصدار أحكام عاجلة وسريعة لكل شيء في الحياه، تجعل من هذا الإسلام سهل المنال، وبالتالي فإن الاتجاه نحوه أكثر سهولة ويسرًا من العمل في منظومة كاملة للتفقه أو لدراسة أصول الدين.
مآلات هذا الخطاب
تشابه هذا الخطاب مع الاتجاه السلفي “الأصولي الجديد” في فكره مع تغير في طريقة تناوله، إلى أن مآلاتهم واحدة، ففي النهاية تصنع رأيًا واحدًا منمطًا بحكم واحد دون اعتبار للخلفيات الاجتماعية لكل فرد وجماعة، تصنع رأيًا متشددًا أحاديًا غير متفكر، حيث اشتركت معها في أساس الفكر وبالتالي فإن مآلاته واحدة.
لكن يبدو أن مستقبل هذا الخطاب على المدى القريب جيد ، فهو يزداد انتشارًا مع الوقت وتشكل تلك المجموعة وعيًا جماعيًا له، فهم يدركون تمامًا ماهية خطابهم وكيف يطورونه تقنيًا بما يتناسب مع جيل الشباب الحالي، لكن على المستوى البعيد فلن يصمد كثيرًا كونه هشًا في مضمونه الفكري، سطحيًا كالخطاب السلفي بدون عمق حقيقي يعبر عن مضمون الدين، وبالتالي فإن فكرة سيادته حتى للخطاب الإسلامي العام صعبة وبعيدة، فمع الوقت يبحث الناس عن الخطاب الأكثر جدية، خاصة أن خطابًا كهذا يصعب تبنيه من قبل أي نظام أو دولة، كونه يعتمد على الخطاب السطحي أكثر بدون تأثير ملموس وحقيقي يصيب جوهر حياة الناس.
لكن هناك سؤال ربما يتم طرحه، وهو هل يصطدم هذا الخطاب مع السلفية الأصولية “التيار القديم”؟
وإجابة السؤال هذا تكمن في دراسة التيارات السلفية ذاتها؛ فلقد انقسمت على نفسها، وحاربت بعضها بعضًا، وبالتالي فمن المتوقع أن يصطدم هذا الخطاب الدعوي الحديث مع الخطاب السلفي الكلاسيكي، لكن في وقت ربما يتاح لهذا الخطاب القديم منبر آخر، وعلى الجانب الآخر لا يعجب الأزهر ذلك الخطاب، حتى وصفهم شيخ الأزهر في مداخلة مع برنامج واحة الصحافة بقوله: “هؤلاء ليسوا دعاة جددًا؛ بل سفسطائيون جدد“، لكن المحك الحقيقي لبقاء هذا التيار أو اندثاره هو في مدى استقبال الشارع لهم من عدمه.