يعيد لنا خيري بشارة، السينما كفنٍ إنساني، بعيدًا عن لعب أدوار تخدم توجهات سلطوية أو تنميطات معينة للمجتمع وأفراده؛ إذ يعتمد الفن في أساسه على استخدام المألوف من أدوات الواقع، وخلق شيء غير مألوف، كما يصنع النحات من قطع الحجارة تمثالا، وإذا كان الواقع رتيبًا ويعمل الفن على رصد تلك الرتابة، إلا أنه قادر على كسرها، وتوليد إبداعٍ منها.
فمعلومة يوم الحداد الوطني في المكسيك موجودة على ويكيبيديا العربي، معلومة ميتة غير ملفتة للانتباه، تمر أمام من يراها مرور الكرام، لكن عمل الفيلم من خلال “نورا الشيخ” السيناريست والمخرج خيري بشارة على إعادة إحياء المهمل والمألوف لبناء عالم متكامل يطرح أفكارًا كثيرة.
تفتح طريقة تنفيذ العمل أبوابًا كثيرة من التأويل، بسبب سيولة الحبكة القادرة على الانفتاح لكل أشكال القراءة، فقد ذهب بعض النقاد سريعًا، إلى أن اختيار اسم بطل الفيلم حسن مفتاح، مستمد من رواية العنقاء للويس عوض، وهو ما نفته المؤلفة؛ بأن اسم “حسن” هو اسم ابن صديقتها الكاتبة ندى عزت، كما أن ليلى اسم أخته الكبرى.
ويمكنني هنا إضافة أن اسم دولة “باظ” التي تدور بها أحداث الفيلم، ربما تشير إلى الأصل العربي بالقاموس الذي يحيل إلى الامتلاء والبلادة، أو أنه على اسم الشخصية الكرتونية باظ يطير، مما يتسق مع مساحة تسميات الأبطال الرئيسين تيمنا بالأطفال. وربما هناك سبب آخر برأس المؤلفة لتسمية الدولة “باظ”. سأحاول الالتزام قدر الإمكان بقراءة الفيلم كعمل فني، بعيدًا عن تقييمه، سأحاول تقديم مقاربات للولوج داخل رأس المخرج والمؤلفة، وتلتزم القراءة بنفس مساحة الفيلم من الانفتاح، فلن تقدم تفسيرًا جامدًا للفيلم، لتبقى القراءة قادرة على تقديم قراءات أخرى كما فعل الفيلم.
الحيلة والخيال:
في سنة 1970 يبتكر السيد داريو فو كاتب نوبل، والمسرحي الإيطالي أذكى حيلة للهروب من الرقابة اليمينية على الفن بإيطاليا؛ إذ أحال أحداث قصته مكانيا إلي الولايات المتحدة الأميركية البلد العدو لليمين بإيطاليا، مما أبعد نص فو “موت فوضوي صدفة” عن مقص الرقيب، كان “فو” شديد الالتزام بالحيلة التي أنتجها، الحيلة التي انطلقت من أنها مسرحية تنقد الواقع الأمريكي، مضطرًا لسردها بإيطاليا تقريبًا للمشاهد الإيطالي الذي لن يتفاعل مع الواقع الأمريكي كثيرًا.
بلغ هذا الالتزام بالخيال قيام البطل بتأليف مسرحية على خشبة المسرح داخل المسرحية، وكأن الخيال يمتد من فضاء لفضاء آخر داخله، ومن نفس روح الالتزام هذه، ينطلق فيلم يوم الحداد الوطني بالمكسيك؛ فالخيال الذي افترض أن الحب ممنوع، كان عليه اللجوء إلى الحيلة التي يفترض وجودها، فإذا تم منع الحب في بلادنا لنحكي القصة ببلد آخر غير موجود، وكأن هناك حقًا سلطة رقيب قد تقف أمامه.
من بداية التتر، تبدأ الحياة من قطرة ماء تسقط من السماء، تنبت القطرة حبًا، وينبت الحب حياة، وهو ما يعكس سبب حالة ركود الحياة في مجتمع “باظ” بعد منع الحب.
تبدأ أحداث الفيلم بصياح كلب في يد رجل أمن يبحثان عن الممنوعات “الدباديب”. وكاميرا تنتقل متأرجحة وكأنها تبحث عن شيء، وسط إضاءة هادئة نقية مريحة للعين سواء في الليل أو النهار، الحب ممنوع من اللحظة الأولى؛ إذ تهاجم الدباديب التي ترمز للحب، ونجد كتاب الشعر الرومانسي مغلفًا بكيس أسود، تحصل عليه “ليلى” بطلة الفيلم بطريقة الحصول على “طربة” حشيش.
نجد بالمشاهد الخارجية أصوات الشارع في خلفية الأحاديث، أصوات السيارات تسير بالطريق، وأصوات الكلاكسات، بشكل لا يشوش السمع، بقدر ما تم خلط صوت الشارع كجزء من المشاهد.
يحرك الهواء شعر ليلى التي تحاول إقناع حسن بضرورة التمرد على قانون منع الحب، وإعادة الاحتفال بيوم الفلانتين، وعودة بث الأغاني العاطفية عبر الإذاعة، بينما يبدو حسن متبلدًا يخشى التمرد أمام جرأة حبيبته التي ضجرت من منع الحب؛ فقررت خلع البالطو الذي يحجب فستانها الأحمر. لم تكتف بإظهار فستانها؛ بل خرجت من حرم الإذاعة إلى الشارع، تطلق بلالين حمراء في الهواء؛ مما يدفع رجال الأمن للقبض عليها متلبسة بحيازة دبدوب أحمر، وارتداء فستان أحمر، والاحتفال بعيد الحب باستخدام بلالين حمراء.
جاءت محاولة إقناع حسن مفتاح لضابط الأمن بهيئة منع الحب بعدم القبض على ليلى، مبررًا ذلك بأنها أقدمت على تصرف “أرعن”. قد يقصد من استخدام لفظ أرعن الإحالة لحقبة زمنية أخرى غير التي نعيش بها، أو ربما حسن مفتاح يستخدم بعض الكلمات غير السائدة أو القديمة بعض الشيء بحكم “ثقافة شخصية” أو ربما لا يوجد أي معنى في عقل المؤلفة من هذا، لكن بالنهاية يبقى السؤال؛ متى كان الاحتفال بمناسبة، وإطلاق البلالين، وارتداء الأحمر وحيازة الدبدوب جريمة تستحق العقاب أو حتى تصرفًا أرعن؟
يفتح الفيلم سؤالاً هامًا حول تشريع القانون، وحول مضامين الخطاب الإعلامي، والفكرة الرئيسية أن الشعب يقر القانون ويقر تغييره، فكما رفض الشعب الحب يومًا ما، يمكنه العودة إلى قبوله وممارسته، أما الفكرة الثانية فهي تصدير الخطاب الإعلامي نفسه عبر إذاعة الحقائق للمستمعين، وهذه الحقائق تدور حول استبعاد مناسبة يوم الفلانتين من التاريخ، وإدخال يوم الحداد الوطني بالمكسيك في نفس التاريخ مكانه؛ مما يعزز فكرة انتقائية الخطاب بما يناسب عناصر الهيمنة بدولة باظ.
والجدير بالذكر أننا نرى حسن مفتاح في ذكرياته "الفلاش باك" مع ليلى أكثر حيوية من النسخة الباهتة التي تساعد وتؤيد وتبارك مقاومة رجال الأمن للحب في دولة باظ.
يبدأ حسن محاولة استعادة حبيبته من قبضة رجال الأمن، ويتصل بصديقه علي، الذي يخبره بعدم جدوى مساعدتها بسبب القبض عليها متلبسة، وأن كل ما يجب فعله هو احترام القانون.
فيقرر حسن اللجوء إلى صديقته “أمينة” التي تعمل بالإذاعة؛ لتبدأ مغامرة تخليص ليلى، وعلى غرار شراء الترامادول سرًا من إحدى الصيدليات، يذهبان للحصول على عنوان مكان بيع الدباديب، المكان الذي يتغير باستمرار حتى لا يمكن مداهمته من قبل قوات أمن دولة باظ، ومن المفارقات أن كلمة السر للدخول، كانت: ‘اليوم الوطني الحداد في المكسيك’.
يقام احتفال الفلانتين داخل فيلا، وتظهر الست “روح” منظمة الاحتفالات السرية للعشاق في دولة باظ، كأنها أفروديت، لكن بالعالم السفلي، ويطلب منها حسن منها ستارة حمراء معلقة على الحائط، وتنصحه صديقته بضرورة شراء بعض الدباديب من أجل فائدة الست “روح”؛ خاصة أن الموضوع أصبح تجارة. وعندما يطلب حسن دبدوبًا من الست روح تعطيه إياه وتقول له: “ده أنا بديلك من كيفي”. مما يعزز الفكرة الرئيسية حول الحب الممنوع كالمخدرات.
بداخل حفل الست “روح” يجد حسن صديقه “عليًا” الذي نصحه باحترام القانون الذي خالفته ليلى، فيبدو هنا علي متناقضًا جدًا، فعلى عكس خطابه النموذجي صباحًا في احترام القانون بمنع الحب، يمارس التمرد على القانون نفسه ليلاً، وليس القانون وحسب؛ بل حتى على زوجته “عزة” اليمينية المتطرفة في منع الحب ومظاهره.
لا يحمل “علي” التناقض الوحيد داخل الفيلم، فحتى بيئة الإذاعة من الداخل تحمل تناقصًا بين “ليلى” المتمردة على السلطة و”حسن” مؤيد السلطة صاحب الروح الباهتة، لأن تأييده مبني على حكم المنطق والخوف، و”عزة” زوجة “علي” اليمنية المتطرفة التي تقاتل أي مظاهر للحب، بخلاف “أمينة” التي تمارس الحب في السر، ومع هذا استطاع جمال التمرد استمالة حسن أمام قبح الخضوع، نحن لا نعلم كيف تأسس تأييد حسن مفتاح لمنع الحب، هل المواءمة مع الواقع؟ أم أن في ماضيه ما دفعه للتخلي عن إيمانه بالحب. ولا يوجد أيضًا ما يحدد موقع “ليلى بالإذاعة”، لكن ربما كانت مغنية الإذاعة قبل قرار منع الحب؛ مما يجعل لحظات غنائها دلالات على الحب والحرية.
بعد خروج حسن من فيلا الاحتفال السري بعيد الحب، يذهب إلى الإذاعة، يضع العلم الأحمر “ستارة الست روح” على بلكونة مبنى الإذاعة، ويعلن من داخل المبنى عودة الحب والأغاني العاطفية، وكشف حقيقة عدم وجود ما يسمى عيد حداد وطني بالمكسيك، وأن يوم ١٤ فبراير لا يمثل إلا عيد الحب، وجراء هذا تتبع الكاميرا الوجوه التي تسمع خطاب “حسن” عبر الإذاعة، فقد خيم الفرح على الفتيات المتهمات بممارسة مظاهر عيد الحب بالقسم، بينما ارتفعت تعابير الغضب على وجه كل من الضابط ممثل الأمن، والست روح تاجرة الحب، لأن نجاح التمرد الشعبي وعودة الحب يفقدها سلطتها السرية تحت الأرض، كما يجعل من تجارتها غير ذات قيمة.
وينتهي الفيلم بصورة حسن وليلى على الدراجة النارية، على نفس نمط الفلاش باك بعد القبض عليها، لتعلن الكاميرا استعادة حسن لماضيه وطباعه وروحه، وبدلاً من تأرجح الكاميرا، تتمايل الدراجة النارية بشكل راقص مع المزيكا، وصوت ليلى الملائكي يغني أشعار “حسن” أثناء القيادة في شوارع القاهرة ليلا”؛ مما يترك أثرًا كبيرًا بحرية حسن النفسية وحرية شعب باظ بعد استعادة الحب.