عقب تصريحات وصفت بالجريئة في علاقة الرياض بواشنطن، وجه فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نقدًا لاذعًا للإدارة الأميركية الحالية بجملته التي قال فيها: “لا أكترث”، يدور الحديث حول التطورات في العلاقة السعودية الأميركية التي دومًا ما وصفت بالاستراتيجية. على الشق الآخر يدور تساؤلٌ حول مدى تأثير العلاقة بين البلدين على ملف السياسة الخارجية للسعودية وأبعاده الاقتصادية والسياسية والأمنية، ومدى تأثير الفتور الحاصل على مستقبل العلاقة بين البلدين.
الرياض وواشنطن
يصف عالم السياسة الأميركي، إيريك هوجلند، العلاقة الأميركية السعودية بأنها تمثل دومًا حجر الزاوية في ملف السياسة الخارجية السعودية؛ ففي مطلع أربعينيات القرن الماضي، اكتشف حجم الموارد النفطية في المملكة العربية السعودية، وكانت الشركات الأميركية هي من حصل على الامتيازات لتطوير حقول النفط فيها، الأمر الذي وفر ضغطًا لحث الإدارة الأميركية لتحمل المسؤولية في تأمين منطقة الخليج. ومع بداية عهد المصالح الجديد هذا، تشكلت العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض.
في العام 1943، أعلنت إدارة الرئيس فرانكلن روزفلت أن الدفاع عن السعودية يمثل مصالح حيوية للولايات المتحدة، لترسل حينها أول مهمةٍ عسكرية أميركية للمملكة. امتدت هذه الشراكة الاستراتيجية بين البلدين لعقود تالية شكلت العامل الأهم في تشكيل واقع المنطقة وسياسات السعودية، ومرت هذه العلاقة بين الحليفين بكثير من الامتحانات التاريخية التي أثبتت فيها واشنطن وفاءها بالتزاماتها فيها، وعلى الشق الآخر لم تتغلب على مشاعر السعوديين في اعتبار واشنطن لهم كحليفٍ مكافئ كما يقول هوجلند.
كانت اعتراضات الكونغرس القرن الماضي على مطالب السعوديين بالتسلح منشأ هذا الشعور تجاه التحالف مع واشنطن، إلا أن التهديدات والتحولات في المنطقة مع تزايد القوة الإيرانية، المنافس اللدود في المنطقة، كانت تدفع باتجاه آخر، بالإضافة للمخاطر الأمنية التي شكلها الحوثيون في اليمن جنوب المملكة مؤخرًا، والتي دفعت بواشنطن للموافقة على تقوية الترسانة العسكرية السعودية.
في الوقت الحالي، ومع إدارةٍ الرئيس الديمقراطي جو بايدن في البيت الأبيض، قد لا تبدو العلاقة في أفضل حالاتها؛ فبين عزلةٍ سياسية تطبقها إدارة بايدن أمام طموحات ولي العهد محمد بن سلمان، وبين نقد صريح لولي العهد وتلويح بإعادة التفكير في طبيعة علاقة بلاده مع الولايات المتحدة وحجم مصالحها، تمر علاقة البلدين بفتورٍ لا يعرف؛ هل سيحول من شكل العلاقة بصورةٍ دائمة؟ أم أنه سيدفع لتقديم ضماناتٍ أفضل لتطويرها؟
تأزم في العلاقة
شكل مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده في اسطنبول 2018 فضيحةً جعلت من الأمير السعودي الصاعد محمد بن سلمان عرضة لعزلة خارجية في المجتمع الدولي، هذا وقامت ضده الكثير من الدعاوى القضائية في البلدان المختلفة على خلفية مقتل خاشقجي، ومنها كندا، المملكة المتحدة والولايات المتحدة. ومع وصول الرئيس بايدن للبيت الأبيض يناير 2020 رفع الرئيس الأميركي السرية عن تقرير للـ “CIA” حول مقتل خاشقجي، الأمر الذي أثار سخط بن سلمان وزاد الضغوطات الخارجية عليه. ومنذ تولي الرئيس بايدن للسلطة في البيت الأبيض مطلع العام 2020، رفض التواصل هو ووزير خارجيته مع ولي العهد، واعتبر بايدن بأن الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ذا الـ 85 عامًا هو نظيره وليس ولي العهد محمد بن سلمان، ولذا فإنه ونائبته لن يتواصلا بمحمد بن سلمان وكذلك وزير الخارجية توم بلينكن. ومنذ ذلك الوقت تمر العلاقة بين البلدين بمرحلة فتور.
نيران صديقة
مع احتدام الأزمة الروسية الأوكرانية ومضي موسكو في اجتياح أوكرانيا، تظهر الحاجة الأميركية للاصطفاف الدولي أمام روسيا، ومن ضمنه قطب النفط العالمي، المملكة العربية السعودية. لكن مجلة “The Wall Street Journal” نشرت تقريرًا بعنوان “قادة السعودية والإمارات رفضا مكالمة بايدن أثناء أزمة أوكرانيا”، وأفادت المجلة في التقرير بأن وليي العهد السعودي والإماراتي رفضا تلقى مكالمةٍ من الرئيس بايدن فبراير الماضي، لبحث تداعيات الأزمة.
وفي مقابلة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع مجلة أتلانتك الأميركية نشرت بتاريخ 3 مارس 2022، أجاب بن سلمان على سؤالٍ وجهه الصحافيون في المجلة حول ما إذا كان بايدن يسيء فهم شيءٍ ما عنه بقوله: "أنا لا أهتم". وأضاف ولي العهد في حديثه للمجلة قاصدًا بكلامه الرئيس بايدن: "الأمر متروك له للتفكير في مصالح أميركا".
هل بدأت السعودية فرض نفسها كحيلفٍ مساوٍ؟
يجيب على هذا السؤال الكاتب والأكاديمي المصري محمد هشام، بقوله: “الموقف السعودي هو موقف رد فعل لسياسة بايدن بالتشارك مع الدبلوماسية الإماراتية، باعتباره رد فعل لما أنتجته السياسة الأميركية بالتقارب مع المعسكر الإيراني واقتراب توقيع الاتفاق النووي، بالإضافة لعدم اتخاذها خطواتٍ جدية تجاه المطالب السعودية كما فعلت إدارة الرئيس ترامب بإدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب؛ بل وأوقفت بيع بعض الأسلحة بالتأثير على الكونغرس لرفض تزويد السعودية”.
ويضيف هشام: “الموقف أكثر منه كردة فعل من إرادة باتخاذ شكل ندي للعلاقة، سواءً في التقارب مع المعسكر الروسي أو استخدام ورقة النفط التي ستلعب دورًا حاسمًا في الفترة، وبالتأكيد ستصل لتفاهمات مع الإدارة الأميركية وخريف هذه العلاقة لن يستمر طويلًا”.
في سياق حديثه لمجلة آتلانتك الأميركية، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأنه لا يملك الحق بأن يحاصر الأميركيين في بلادهم، وقال بأن ذلك أيضًا يسري على الأميركيين في الشأن السعودي. الأمر الذي يعيد للأذهان قراءة هوجلند للنظرة السعودية التاريخية تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة، يظهر فيها محمد بن سلمان رافضًا لهذه المنزلة في العلاقة.
من المعروف بأن السعودية تعد أكبر مصدرٍ للنفط بواقع إنتاجٍ يومي يتجاوز عشرة ملايين برميل نفطٍ؛ الأمر الذي يجعلها لاعبًا حاسمًا في استقرار سوق الطاقة العالمية خلال الأزمة الأوكرانية؛ حيث أعلنت الإدارة الأميركية عن عقوبات لإيقاف شراء النفط الروسي، الأمر الذي قاد لارتفاعٍ في أسعار النفط هو الأعلى في تاريخه منذ ثمان سنوات، وقد لامس سعر البرميل النفط حاجز المائة وأربعين دولار للبرميل الواحد في الرابع من مارس.
في سياق هذا التطور على أسواق الطاقة، تطالب الولايات المتحدة الرياض وأبو ظبي بخفض أسعار النفط وتغطية الحاجة السوقية بزيادة الإنتاج، أما الكرملين فقد سبق وأعلن بأن الرئيس فلاديمير بوتين اتصل بولي عهد الرياض وولي عهد أبو ظبي اللذيْن تفاهما كما يبدو على عدم الموافقة على المطالب الأميركية. لاحقًا، تداولت وسائل إعلام أميركية خبر رفض ولي العهد السعودي تلقي مكالمة بادين، كما أعلنت الرياض عن التزامها بخطة الإنتاج لمنظمة أوبك.
مطالب سعودية
إلى جانب العزلة التي تحيطها الإدارة الأميركية بالأمير محمد بن سلمان، تظهر واشنطن أقل استجابةً في الدفاع عن المصالح الأمنية السعودية، لم تستجب إدارة الرئيس بايدن لمطالب السعودية في إشراكها في المباحثات النووية التي تعقدها دول “5+1” مع طهران التي رفضت بشدة أن تكون الرياض طرفًا في المباحثات، بالإضافة لتراجع إدارة الرئيس بايدن عن تصنيف الحوثيين الذي تخوض السعودية حربًا معها في اليمن منذ سبع سنوات كجماعة إرهابية بعد أن كان الرئيس ترامب قد وقع قرارًا بتصنيف الجماعة في الأيام الأخيرة لولايته.
مع هجمات الحوثيين الأخيرة الشهر الماضي على أهداف في السعودية والإمارات، دفعت السعودية مجددًا بمطالب إعادة الحوثيين لقائمة الإرهاب؛ الأمر الذي يبدو بأن البيت الأبيض ليس متفقًا معه في الوقت الحالي، وخصوصًا تأخر الاستجابة واكتفاء واشنطن بإعلان مشاركتها في حماية الأمن السعودي الإماراتي، لتضطر الإمارات للامتناع عن التصويت على قرارٍ يدين الاجتياح الروسي لأوكرانيا لضمان موافقة روسيا والصين على قرارٍ يصف الحوثيين بالجماعة الإرهابية في اليوم التالي في مجلس الأمن.
إعادة تقييم للمصالح
أشار ولي العهد السعودي في مقابلته مع مجلة آتلانتك بأن الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة تصل لثمانمائة مليار دولار، وعلق عليها قائلًا: ” بنفس الطريقة التي يمكننا بها تعزيز مصالحنا، يمكننا أيضًا تقليصها”. وأضاف مشيرًا للرئيس بايدن بأنه إذا أراد مصلحة بلاده فهو يعرف أين هي.
يعلق على ذلك محمد هشام بقوله: "السعودية تمتلك ورقة ضغط تزداد أهميتها في هذه المرحلة مع العقوبات الأميركية في وقف الصادرات النفطية الروسية، في حين يتم إعداد السعودية كأكبر بلد مصدر للنفط. والسعودية بالتأكيد قادرة على الضغط في اتجاه تحقيق مطالبها مع الإدارة الأميركية؛ وخصوصًا في هذه المرحلة التي تشهد فيها انتعاشًا لأسواق الطاقة وارتفاع أسهم شركة أرامكو".
يضيف أيضًا: “السعودية قادرة على الاستمرار في الالتزام بالتفاهمات مع روسيا، حيث إن ذلك ليس موقفًا خاصًا، وإنما مرتبط بموقفين؛ موقف الأوبك المرتبط بتفاهمات وخطة توازن بين الدول المصدرة للنفط، وكذلك الدول المنتجة للبترول بزعامة المعسكر الروسي في تفاهماتها، حتى ما قبل الأزمة الأوكرانية باعتبار تمتع السعودية بعلاقة جيدة مع موسكو”.
وبخصوص هذه المطالب السعودية من الإدارة الأميركية، يرى هشام بأنها تتعلق في الدرجة الأولى منها بوضع ولي العهد السعودي وعلاقته بالبيت الأبيض، بالإضافة لتحجيم قدرات المعسكر الإيراني ومواجهة أذرعه في المنطقة، بالإضافة للمطالبة باتخاذ موقف حاسم من جماعة الحوثيين في اليمن.